23 أبريل 2019
حبيب مايابى
نشأ السرفاتي وتعلم في بيئة أرستقراطية بدءا بالمغرب وانتهاء بباريس، وآمن بالشيوعية مذهبا سياسيا في ريعان شبابه
عقد قرانه في السجن على محاميته الفرنسية، ووقف بقوة مع الفلسطينيين رغم يهوديته، ولم تمنعه نشأته الدينية من اعتناق الماركسية، وبعد أن قضى 17 عاما في الجحيم أكد تطهّره من الحقد والكراهية وسامح زبانيته فاستحق أن يُطلق عليه لقب مانديلا المغرب.
بين أسرة تتخذ من اليهودية دينا والثقافة العربية انتماءً، أبصر أبراهام السرفاتي نور الحياة في مدينة طنجة بالمغرب يوم 16 يناير/كانون الثاني 1926.
نشأ وتعلم في بيئة أرستقراطية بدءا بالمغرب وانتهاء بباريس، وآمن بالشيوعية مذهبا سياسيا في ريعان شبابه.
وبين تناقض المعتقد الديني والانتماء الثقافي والتوجه السياسي تشكلت شخصية أبراهام السرفاتي الذي قضى قرابة عقدين من عمره في السجن بسبب نضاله.
وفي عام 2016 أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما خاصا بعنوان “أبراهام السرفاتي.. مانديلا المغرب” يحكي عن نضال السرفاتي أو مانديلا المغرب كما يسمونه.
وعلى عكس كثير من اليهود كان السرفاتي مناصرا للقضية الفلسطينية ومدافعا عنها، ويعتقد أن الحركة الصهيونية مناقضة للديانة اليهودية. يقول السرفاتي “هنالك تناقض بين الديمقراطية والصهيونية، إن الصهيونية مناقضة لدين اليهود”.
وقد زاده ذلك التوجه حبا لدى رفاقه في النضال. يقول الكاتب والشاعر ورفيق السرفاتي في السجن عبد اللطيف اللعبي “لقد كان يهوديا مشتتا بعروبته، يدافع باستماتة عن حقوق الشعب الفلسطيني، وكان شرفا لنا ولجميع الجالية اليهودية بالمغرب”.
لم يَرق هذا التوجه للكثير من النخبة في فرنسا، وقد دفع ثمنه. تقول ميشيل فاي “عمل أبراهام على توضيح مفهوم اليهود العرب بمعنى أن اليهودي العربي لا يفرط في مغربيته ولا عروبته ولا يهوديته، ومن الواضح أنه كان ملحدا، وكان ضد الصهيونية”.
الشعر والماركسية والسجن
بعد عودته من فرنسا شغل منصب رئيس مصلحة في مكتب الشريف للفوسفات، وساهم في رسم السياسة المنجمية للمملكة المغربية، ولكنه بسبب مساندته لحركة الإضراب عام 1968 أُقيل من منصبه.
وبعد فترة وجيزة وبفضل كفاءته وشهاداته، اختير أستاذا بالمدرسة المحمدية للمهندسين، وحينها كان منخرطا في الحزب الشيوعي ووفيا له.
وفي 1970 أسس حركة عُرفت بـ”تيار إلى الأمام” وهو تنظيم سياسي ماركسي يساري، وكانت حركة إلى الأمام تنظر للأوضاع نظرة محايدة.
وعن هذه الحقبة يتحدث المستشار الدولي وأحد ضحايا الاعتقال محمد السريفي فيلار “لقد أصبحنا معزولين بسبب آرائنا ونقدِنا حتى في الاتجاه الشيوعي، وقد دفعنا ثمن تحليلاتنا قاسيا”.
وفي عام 1966 ظهرت مجلة “أنفاس” كمنبر حر على يد كوكبة من الكتبة والشعراء، فشكلت مناخا ومتنفسا لأصحاب اليسار، فيمم أبراهام السرفاتي وجهه نحوها وأصبح من طاقمها التحريري، فبرز نجمه للقراء، وأصبح هو ورفاقه حملا ثقيلا لا يُطاق بالنسبة للحكومة.
بعد سنوات الضياع والتعذيب والتمزيق والإعاقة الجسدية الذي جعلت منه مُقعدا، لم يكن السرفاتي حاملا معه أي حقد، فقد ترك كل شيء وراء ظهره
إلى جحيم الأرض
وسط الدار البيضاء يوجد واحد من أَسوأ السجون سيرة على الإطلاق في المملكة المغربية، وهو درب مولاي الشريف الذي يُعتبر مختبرا لانتزاع الأرواح والإهانة والتمزيق وشتى صنوف العذاب، إنه جحيم الأرض كما يصفه المعتقلون. لم يكن حلم أبراهام السرفاتي أن يجرب ذلك السجن ويحط فيه رحله، ولكن صروف الليالي وتقلبات الأيام قد تأتي بما لا تشتهيه أحلام الطامحين للحرية وتعددية الآراء.
في شهر يناير/كانون الثاني 1972 قامت مظاهرات ضخمة بالمدن المغربية قادتها الشبيبة المغربية، وخرج فيها ألوف من الناس. وإثر تلك المظاهرات اعتقل السرفاتي مع رفقة له في المبادئ لمدة شهر ثم أُطلق سراحه، وبعد أقل من شهر كان القائمون على السجن في موعد جديد معهم. لكن هذه المرة استطاع الزعيم أن يختفي لأنه لا يريد لأفكاره أن تموت.
ويقول المستشار محمد فيلار “استطعنا أن نختفي وتعودنا على نمط جديد من الحياة. لكن أبراهام عانى كثيرا في هذا الاختفاء، فقد سُجن ولده البالغ من العمر 18 سنة، ونُكل به أشد تنكيل وسجنت أخته وعذبت هي الأخرى ليكون ذلك سببا في وفاتها”.
في فترة الاختفاء استطاع السرفاتي أن يكثر من جهوده في التوعية عبر المنشورات السرية، حتى حوكم غيابيا في محاكم الدار البيضاء وصدر عليه حكم بالمؤبد، وكان ذلك بتاريخ أغسطس/آب 1973.
استمر في نشاطه وكانت المنشورات واللقاءات الخاصة هي السبيل الوحيد للنضال. وفي 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1974. وذات صباح من صباحات الهوان بالنسبة لتيار إلى الأمام وقع الزعيم في قبضة الشرطة المغربية بعد اختفاء استمر عامين.
أُحيل السرفاتي ورفاقه إلى درب مولاي الشريف، فبدأ فصلٌ جديد في حياة الزعيم وتجاربه، ودخل معه السجن فتية من الناشطين في التيار.
كل من تحدثوا للجزيرة الوثائقية أكدوا أن معاناة السرفاتي في ذلك السجن لا يمكن أن توصف.
يقول المعتقل السابق الباحث نور الدين سعودي “لقد قضيت عشر سنوات في السجن، 10 أشهر منها في درب مولاي الشريف وهي تساوي السنوات التسع الباقية في السجون الأخرى، بمعنى أنه أسود حقبة. وبالنسبة للسرفاتي أمضى ثلاث سنوات في ذلك الجحيم ولم يُعلم عنه خبر لمدة 14 شهرا، وتلقى في السجن صنوفا من التعذيب”.
يقول رفيقه فيلار “كان تعذيب السرفاتي يختلف عن الآخرين، يُعلق الناس بالحبال فيعلق السرفاتي بالأسلاك الكهربائية”، ثم يضيف “لا يوجد أفظع مما عاناه هذا الرجل، شخصيا حاولوا تحطيمي تدريجيا لكن السرفاتي مزقوه”.
وفي عام 1977 أعيدت محاكمة السرفاتي وتم تأكيد حكم المؤبد السابق في حقه، وكانت محاكمة تعسفية تتصف بالحقد من النظام كما يقول المعتقلون السابقون.
كان تعذيب السرفاتي يختلف عن الآخرين، يُعلق الناس بالحبال فيعلق السرفاتي بالأسلاك الكهربائية
نضال وراء القضبان
وبعد تلك المحاكمة نقل رفاق السرفاتي لسجن القنيطرة، لكن الزعيم أعيد للدرب الذي لم يبق به سالك. تقول الفاعلة الجمعوية ربيعة فتوح “التقيت بالسرفاتي في سجن درب مولاي الشريف وتعرفت عليه وكان يبث قيم النضال”.
بعد سنوات درب مولاي الشريف، حط الزعيم السرفاتي متاعه من الأفكار في السجن المدني بالقنيطرة، ليجد أمامه نخبة من تيار إلى الأمام حجزوا أماكنهم في ذلك السجن منذ فترة.
الحنين إلى النضال والتنظير والتخطيط هو القاسم المشترك بين الأستاذ الجامعي ومن يقتدي به. وسرعان ما أُثيرت مسألة مصير السجناء العسكريين في سجن تازمامرت، فتم التوقيع على عريضة مطلبية تطالب بالكشف عن مصيرهم، وكان السرفاتي من أول القلائل الذين بصموا عليها، فأثارت ضجة كبيرة في الشارع المغربي.
وبعد إضرابات قوية في سجن القنيطرة شارك فيها أبراهام السرفاتي، حصل المعتقلون على كثير من حقوقهم فأُتيحت لهم الكتب والزيارات وحتى إكمال الدراسة.
انشغل الزعيم السرفاتي حينها بمنادمة الأصحاب ومجالسة الكتب، وقد فُتحت خزانة كبيرة في السجن، ونهل من معينها أصحاب المبادئ الصامدون.
قدِمت السيدة كريستين من باريس كأستاذة متعاونة في المغرب عام 1969، وتعرفت على أبراهام السرفاتي وتزوجت منه وهو في السجن
حب في الزنزانة
ومن مدينة الأنوار باريس قدِمت السيدة كريستين دور السرفاتي كأستاذة متعاونة في المغرب عام 1969، وتعرفت على الأستاذ الجامعي والمناضل الأرستقراطي أبراهام السرفاتي.
وبسبب علاقات الحقل الأكاديمي بينها والزعيم طُردت كريستين من المغرب. كانت الآنسة آنذاك حقوقية ومناضلة شهيرة في باريس، وبقيت منشغلة بقضية صديقها ومتابعة لها حتى عادت للمغرب عام 1986.
ويبدو أن الزعيم شغفها حبا فرضيت به زوجا في السجن لتتمكن من زيارته، فسخّرت جهدها وكل ما أوتيت من حيلة لإنهاء محنته.
تقول أمينة بوعياش نائب رئيس الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان “لقد وظفت كريستين السرفاتي علاقاتها بالفاعلين والمنظمات الدولية والشبكات السياسية والإعلامية ذات العلاقات مع الأمم المتحدة”.
وفي يوم 13 سبتمبر/أيلول 1991 وبعد حملة تضامنية دولية واسعة، أُحرجت الحكومة المغربية فلم تجد مناصا من إطلاق سراح أبراهام. قَبِل الملك الحسن الثاني خروجه من السجن، ولكن مع نفيه من وطنه وسحب جنسيته المغربية، فرضي بذلك وظل وفيا للمغرب حالما بالرجوع إليه.
وبعد وفاة الملك الحسن الثاني 1999 وتربع الملك محمد السادس على العرش، سُمح للسرفاتي بالعودة لمغربه الذي كان يحلم أن يشارك في بنائه. تمكن السرفاتي من استعادة حقوقه المدنية وجنسيته مع إعادة رد الاعتبار.
وبعد سنوات الضياع والتعذيب والتمزيق والإعاقة الجسدية الذي جعلت منه مُقعدا، لم يكن السرفاتي حاملا معه أي حقد، فقد ترك كل شيء وراء ظهره، لكن كان يحدوه الأمل أن يتفاعل الملك محمد السادس مع المجتمع المدني حتى يشارك الجميع في بناء المغرب الكبير وينعم الناس بالحريات.
وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2010 وبعد عمر نضالي طويل ودع أبراهام السرفاتي الحياة في أحد المشافي بمدينة مراكش، تاركا وراءه مأساة زعيم ظلمه من يتحكم في مجريات الأحداث والتاريخ.