- الدكتور عماد الضمور
على الرغم من كثرة القراءات والاجتهادات في طبيعة قصيدة النثر: بنيتها ومهادها وروادها إلا أن ما يقدمه الشاعر/ الناقد الفلسطيني عزالدين المناصرة في ورقته النقدية التي يُجمل فيها خلاصة رحلته مع قصيدة النثر شاعراً وناقداً يُثير كثيراً من القضايا المهمة حول قصيدة النثر.
إذ يطرح المناصرة آراء تمتلك قوة في الحضور والتأثير وتؤسس لأفكار وتأويلات تقترب في بعضها من آراء النقاد في قصيدة النثر، لكنها تأويلات تبدو متباعدة ـ أحياناً ـ عند الإتيان على التفاصيل.
في حدود السياق العام ومشروعية قصيدة النثر يكاد يتفق المناصرة مع كثير ممن اعترفوا لهذه القصيدة بمشروعية وجودها وروحها الشعريّة ورؤاه الفكرية، لكنه لا يتفق عمّا هو شائع حول ريادتها، إذ يعود بها إلى عام 1910 وصدور كتاب أمين الريحاني( ولد عام 1876).
«هتاف الأودية» حيث الرغبة في اللقاء الحضاري بين روحانية الشرق ومادية الغرب التي ظهرت في مجمل نتاج المهجريين العرب بداية القرن العشرين، فكانت الثورة على التقليد في المنجز الشعري. وهنا لابد من التنبه إلى أن الزمن الذي أبدع فيه أمين الريحاني كتابه النثري مقيّد بالظرف الحضاري لتلك الفترة، وهو ظرف مختلف عمّا شاع في منتصف الستينيات من القرن الماضي عندما ظهرت قصيدة النثر على صفحات مجلة شعر البيروتية منذ عام 1957م، حيث النضج الفكري الذي يظهر أكثر قبولاً للجديد من أي وقت سابق.
إنّ ما تنطوي عليه المقارنة بين العصرين لا يلغي ملامح الإبداع النثري للريحاني لكن لا يؤكد سطوته لهذا الفن الشعري أو حتى قصديته للنظم الشعر نثراً، فباث الخطاب صاحب رسالة ورؤيا لكنه لم يؤصلها فناً قائماً بذاته، يمكن التوافق عليه أو استخلاص أبرز مقوماته.
لذلك لا غرابة أن يتبدّى المغاير والمنشّق والمختلف لكلّ مَنْ جاء بالفكرة الأولى. ولعلّ هذا شأن البحث في ريادة أي شيء. يطرح المناصرة في ورقته النقديّة قضايا نقاشية حول إشكاليّة تتمثل فيها خُلاصة تجربته الإبداعيّة بعدما عرف قصيدة النثر شاعراً وناقداً، إذ ينحى نحو المنهجية ويختار الكلام العلمي بدلاً من الانفعال أو النقد الانطباعي؛ ما جعله يُقدّم خُلاصة ثلاث طبعات لكتابه النقدي المهم: «إشكالات قصيدة النثر» فبعدما هدأت العاصفة أراد المناصرة أن يقول كلمته علّه يخرج برأي يحسم به النقاش الذي أُثير حول قصيدة النثر. يدعو المناصرة إلى دراسة قصيدة النثر من طبيعتها البنائية وليس كما نريد أن ننظر إليها، وهو بذلك يتبين وجهة نظر نقديّة جمالية تقوم على أسس نقدية منهجية واضحة وليست انطباعية جزئية. يحاول وضع تعريف للمصطلح أو تكوين بنائي للمصطلح، وكيفية التشكّل الأصول والروّاد. إنّ الإبداع يصدم أفق الانتظار في جزئيته حسب ما هو معلوم، فلماذا لا يصدمه في كليّته؟ حتى عبّر عن ذلك الشاعر السوري علي أحمد سعيد (أدونيس) في»صدمة الحداثة»، فكان التجاوز على أساس الجنس الأدبي في حدّ ذاته، حيث نجدهم يقولون: لغة متفرّدة و نظم متفرّد و أسلوب متفرّد و صور جديدة وأخيلة جديدة ومواضيع جديدة وأصبحنا نقول:جنس جديد.
إنّ محاولة (التصنيف النصيّ (الجنس) والهويّة الفكريّة) لقصيدة النثر ظاهرة لافتة للانتباه في ورقة عز الدين المناصرة النقدية، وهي واضحة في شعر الحداثة العربية بعد مدرسة البعث والإحياء، فمنذ الرواد الأوائل، وأعني بهم: المعتدلين نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور، وحتى المتعصبين وأعني بهم أنسي الحاج ويوسف الخال وأدونيس، وكذلك دعاة المقاومة والطابع الثوري الوظيفي، وأعني بهم محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما ، ما زالت قصيدة النثر إحدى علامات الحداثة الشعريّة العربية في اتجاهها المكاني صوب أوروبا، والتأثر العربي بالغرب. لعلّ الجميع أيضاً يعرف أن المنظرين الأوائل للنص الشعري العربي منهم مَنْ رفض هذه الظاهرة، ومنهم مَنْ قبلها، و منهم مّن تحمّس لها، ومنهم مَنْ يقبلها على مضض مترقباً تحقيقها لذاتها، ومتماشياً مع سوسيولوجيا الإبداع، أو منتظراً متى تفرض نفسها في الساحة الأدبية ومتى تقاوم الدوائر النقدية والثقافية والأكاديمية العربية فتنتصر، فمثلما رفضتها نازك الملائكة في كتابها» قضايا الشعر المعاصر»، وتحمّس لها ودافع عنها دفاعاً مستميتاً في مجلة شعر كلٌّ من أنسي الحاج ويوسف الخال ومحمد الماغوط مطبقاً إياها، وممارساً لطقوسها بعيداً عن القيود العربية ومنظراً لها تنظيراً اعتراف به أدونيس في»صدمة الحداثة»و»الثابت والمتحول» في حين نجد عز الدين إسماعيل يقبلها على مضض .
فيما يتعلق بالتعريف فإن قصيدة النثر ما زالت تبحث عن كينونتها التي تجعل منها نصاً قابلاً للقراءة، وما تزال في طور التكوّن والتشكّل تبحث عن موقع لها في الإبداع الأدبي المعاصر، إذ إنّ تداخل الأجناس الأدبية جعل من استخلاص تعريف ثابت لها أمراً شائكاً، ومع ذلك فإنه يمكن من الورقة النقدية التي يقدمها الشاعر عزالدين المناصرة اقتناص أهم ملامح هذا الفن الأدبي، فهي تراعي الإيقاع والدلالة والذاكرة، ممّا يميّزها على القصيدة العمودية التي تقوم على نظرية النقاء الُلغوي، وبكارة اللغة ومثالية النظم، ويجعلها بنية دالة على معنى بروح شعريّة تشترك مع النثر بالسمة السردية ذات الصبغة الحكائية، وانبعاث الرؤيا في التعبير.
إذ يُشير المناصرة في ورقته النقدية إلى خصوصية التجربة في قصيدة النثر، والمحور التفاعلي فيها، حيث تتمظهر قوة الخطاب الشعري لقصيدة النثر في التأثير المتبادل بين الناصّ والمتلقي، في رسائل نسقيّة ذات دلالة مختلفة الفاعلية.
تطرح مقاربة عزالدين المناصرة لقصيدة النثر كثيراً من الصعوبات النظرية والمنهجية والتطبيقية، فما زال هذا النوع الأدبي الجديد في الساحة الثقافية العربية في حاجة ماسة إلى أدوات تقنيّة وتصورات نظريّة ومفاهيم إجرائية لتقويم نتاج الشعراء النثري ودراسته دراسة موضوعية وفنية. ومع كلِّ ذلك تبقى قصيدة النثر أكثر تمثيلاً لحراك إبداعيّ جديد، يُنجز أسئلته بعيدًا عن القياسات والأُطر التقليدية، ويفتح صفحة جديدة تسمح للجسد المقهور أنْ ينتج علاماته في حرب ثقافية هي الأشد قسوة في تاريخ الشعر، فهي قصيدة ذات بنية سائلة في طبيعة التعرّج والتشعّب، فضلاً على أنّ فضاءاتها الُلغوية والإيقاعية مفتوحةٌ، دون حدود أو قيود، وهذا ما يمكّن الشاعر من التعبير عن تجارب داخلية معقدة، ومكبوتة.
* -صدرت الطبعة الثالثة من كتاب (إشكالات قيدة النثر) عن دار الراية،عمان ،(651 صفحة)
- – اعتمد الباحث على المحاضرة مركزة بعنوان (بعد أن هدأت العاصفة )، هو خلاصة كتاب ،المناصرة، المشار إليه .