كتب الأستاذ جمعة الفاخري
في ركنٍ قصيٍّ من حياتِنَا ثمَّةَ شمعةٌ تحترقُ .. ضِيَاؤُها يملأُ الكونَ
نورًا .. توهُّجًا .. أنفاسُها أشذاءُ ربيعاتٍ نديَّةٍ .. دموعُهَا مطرٌ
مباركٌ .. وصمتُهَا بلاغةٌ مُعْجِزَةٌ .. تَبَتُّلٌ وَدُعَاءٌ وَتَسابيحُ
.. هاتوا قلوبَكم؛ وسأجرُّكم إلى جزرِ التَّفاصيلِ المَاتِعَةِ ..
فمنذُ أن علَّمَ اللهُ آدمَ الأسماءَ كلَّهَا، والمُعَلِّمُ يتبوَّأُ في
القلوبِ مكانةً مثلى، يحتلُّ الزَّاويةَ الأكثرَ دفئًا فيها .. فالشُّعُوبُ
المتحَضِّرَةُ تُجِلُّ مُعَلِّمِيهَا، مُكْبِرَةً دورَهُمُ العظيمَ في
تعليمِ الأجيالِ، والمُسَاهِمَةَ في بناءِ المجتمعاتِ، بل هم الأساسُ
المتينُ في هذا البناءِ، فليسَ ثمَّةَ حضارةٌ لم تقمْ على عواتقِ
المعلِّمِ، ولا هناكَ رقيٌّ لم يضعِ المعلِّمُ لبناتِهِ، فالمعلِّمُونَ
الحقيقيُّونَ هم قادةُ الشُّعُوبِ، ومعلِّمُو الإنسانيَّةِ المقتدرينَ،
حتَّى وإن كانَ ما ينالُهُ المُعَلِّمُ نظيرَ عطائِهِ، وَكِفَاءَ صنيعِهِ،
قليلاً زهيدًا، داحضًا قولَ الشَّاعِرِ الْمُحِبِّ عنْهُ، وعنِ الطَّبيبِ:
إِنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَيْهِمَا لا يَنْصَحَانِ إِذَا لَمْ يُكْرَمَا ..
فهو لن ينتظرَ جزاءً أوفى على تلقينِهِ للعِلْمِ النَّافِعِ، وترويجِهِ للأخلاقِ النَّبِيلةِ، والقيمِ السَّامِيَةِ، والمبادِئِ الإِنسانيَّةِ العظيمَةِ. هذا على مستوى الجماعاتِ؛ أمَّا على مستوى الأفرادِ، فالمرءُ لا يمكنُهُ إلاَّ أن ينحني إجلالاً للمعلِّمِ، انحناءَةَ إكبارٍ وتوقيرٍ وعرفانٍ .. فالمُعَلِّمُ يزرعُ بذورَ الخيرِ الأولى في نفوسِ النَّاشِئَةِ .. وَيْغَرِسُ في أعماقِهِمُ القيمَ المثلى، وَيُوَطِّدُ المُثَلَ العليا، وَيُوَطِّنُ في أنفسِهِم حُبَّ اللهِ .. ورسُلِهِ .. حُبَّ الوالدينِ .. حُبَّ الإِنسَانِيَّةِ .. وَحُبَّ الخيرِ للبشريَّةِ جمعاءِ .. ليتحسَّسَ الصِّغارُ، بعدَ ذلكَ، بأنفسهِم تفاصيلَ الخيرِ والمحبَّةِ .. لذا نجدُ عظامًا ومشاهيرَ بلغوا مراتبَ مرموقةً، ووصلوا إلى مراقي المجدِ والسُّؤدُدِ، وحصدوا كُلَّ نجاحٍ، يُرْجِعُونَ للمعلِّمِ فَضْلَ ذاكَ التَّفوُّقِ، وأسبابَ ذيَّاكَ النُّبوغِ .. قديمًا قالَ الإمامُ الشَّافعي، رَحِمَهُ اللهُ ” من علَّمني حرفًا صِرْتُ لَهُ عبدًا ” إنَّها عبوديَّةُ الوفاءِ والاعتراف ِبالجميلِ، لا عبوديَّةَ الرُّوحِ والعقلِ .. أمَّا شيخُ النُّقَّادِ مارون عبُّود، فيجتهِدُ معيدًا إنتاجَ هذا القولِ، فيقولُ ” من علَّمني حرفًا صِرْتُ معَهُ حرًّا ” لكأَنَّهُ أرادَ أن يُظْهِرَ أَنَّ المُعَلِّمَ يُحَرِّرَ العقلَ من عقالِ التَّبَعِيَّةِ الفكريَّةِ المَقِيتَةِ، إلى براحاتِ الحرِّيَّةِ الواسعةِ .. أمَّا أحدَ المعترفينَ بجميلِ صنعِ المعلِّمِ، بالرُّغمِ من لَسَعَاتِ عَصَاهُ، فيقولُ مُرْجِعًا لَهُ الفَضْلَ كُلَّهُ في إرشادهِ إلى دربِ الإيمانِ ” لولا عصا المُرَبِّي، ما عَرِفْتُ رَبِّي ” أمَّا نابليون بونابرت القائدُ الفرنسيُّ الشَّهيرُ، فيقرُّ معترفًا ( لولا عصا معلِّمي ما كانَ نابليون ” إنها تلكمُ اللَّذَعَاتُ المُبَارَكَةُ التي تُلْهِبَ الجَسَدَ، لَكِنَّهَا تُلْهِبُ العَاطِفَةَ أيضًا .. وتصلحُ العقلَ والرُّوحَ والوجدانَ..!
ذلكَ أنَّ المعلِّمَ مهندسٌ للرُّوحِ البشريَّةِ، غوَّاصٌ مُجِيدٌ يلتقطُ الدُّرَّ الكامِنَ في الأعماقِ ليظهرَهُ إبداعًا وتفوُّقًا، صَانِعٌ مَاهِرٌ يُحْسِنُ تَكوينَ ماهرينَ صِغَارًا سيصبحونَ في الغدِ كِبَارًا .. ومشاهيرَ عِظامًا .. زَارِعٌ وجداناتِ النَّاسِ بالخير والصَّلاحِ والمحبَّةِ ..
وحسبُ المعلِّمِ شرفًا أنَّ مخرجَ البشريَّةِ جمعَاءَ من دروبِ الضَّلالاتِ إلى مَحَجَّاتِ الهدى، كَانَ مُعَلِّمًا حَقِيقيًّا بمنهجٍ رَبَّانِيٍّ قويمٍ نفيسٍ، تَخَرَّجَ في مدرستِهِ، مدرسَةِ النُّبُوَّةِ، مُعَلِمُّونَ أكفياءُ .. أتقياءُ .. أنقياءُ، قادوَا البشريَّةَ الحائرَةَ بنورِ الهدى، وضياءِ الإيمَانِ إلى شواطئ الخيرِ والفلاحِ.
فالاعترافُ بأفضالِهِ تكريمٌ مستمرٌّ لَهُ، أمَّا رؤيةُ نَجَاحِ تلاميذِهِ فعيدٌ دائمُ لقلبِهِ، وَسُمُوقُ مجتمعِهِ وَرُقِيِّهُ احتفالٌ مَهِيبٌ بنجاحِهِ، لذا فهو أكثرَ الخَلْقِ تواضعًا، وأكثرُ بني البشرِ إنكارًا للذَّاتِ، وأكثرُ ذوي العطاءِ صمتًا ..
أمَّا تفاصيلُ المَحَبَّةِ الفَاخِرَةِ، وَصُورُ التبجيلِ والعرفانِ، فتتكدَّسُ كلُّها أكاليلَ غارٍ لِلْمُعَلِّمِ .. لِتَلْثُمَ يَدَهُ المُطَبْشَرَةَ المباركةَ ..مُنْشِدَةً عِنْدَ صَمْتِهِ المَهِيبِ، رائعةَ شوقي الكبير:
قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيلَا …. كَادَ المُعَلِّمُ أنْ يَكُونَ رَسُولَا