قراءة لـ (ق ق ج ) ” شغف ” للقاص عامر الشقيري / الأردن
لقد دأب كتّاب القصّة القصيرة
جداً على اعتماد التّكثيف اللّغوي. و الحرص عليه لدرجة الغموض و الإبهام أحياناً.
كما دأب البعضُ على الإيجاز المفرط، حتّى أصبحت نصوصهم في سطرين أو ثلاثة، و اعتقد
البعض أنّ القصّة القصية جداً هكذا تكون في شكلها و بنائها.
و قلّة قليلة تلك التي فهمت فهماً مختلفاً.
ليس أساسه بالضّرورة التّكثيف الشّديد و الإيجاز المبالغ فيه، و إنّما السّرد و
الحكي فيما يعتمده القصر. بمعنى طريقة الحكي، و مادة تحْكى بما يضمنُ ما قلّ و دلّ
و أمتعَ .
و من ذلك نص القاص عامر الشقيري
“شغف” الذي بلغت كلماته مائة و عشرين كلمة.
قد يكون الأمر غريباً بالنّسبة للذين ألفوا النّصوص التلغرافية، في بضع كلمات..و
لكنّه جدّ عادي لمن يستأنسُ بالسّرد القصصي، و يعشق الحكي بطرائق عفوية لا تَصنّع
و لا تكلّف.
النص :
شغف
“يا له من يوم!”
تقول المرأة وهي تفرك
جسدها الغض بالصابون وشعور جارف بالأسى ينتابها: “بإمكاني إنهاء الأمر وحالاً
..سأطرده”.
تتفقد شاماتها الثلاث
وتقول لنفسها: “هذا الجسد كاملاً لي” وتبتسم.
“من أين يتسرب كل هذا الحزن؟!”
يسأل الرجل نفسه وهو
يهم بغسل وجهه من أثر صابون الحلاقة.
“سأتركها حالاً”، يمرر يده على ذقنه الناعمة وعلى شعر الصدر ويقول
بانتشاء: “هذا جسدي كاملاً لي”.
مطر يهمي على المدينة
ويغسل الأرصفة والشوارع وخطى العابرين، فيثير مخاوف الزوار من أن تنساهم المدينة..
ويطرق بخبث نافذة المرأة التي تهذي منذ الصباح: “سيأتي وسأطرده..سيأتي
وسأطرده”، ثم تحسم الأمر: “سأذهب إلى هناك وأخبره ألا يأتي!”. بعد دقائق معدودة تغلق المرأة بيتها وتخرج راكضة تحت المطر الذي
اختلطت حبات منه بدموعها، الأمر الذي منحها فرصة البكاء في الطريق إليه دونما حرج.
1 ــ العنوان : شغف
لغوياً: شغَفَ يَشغَف ، شَغْفًا
وشَغَفًا ، فهو شاغف ، والمفعول مَشْغوف . و منه شَغَفَ الْحُبُّ قَلْبَهُ
: أَصَابَ شَغَافَ قَلْبِهِ ، و الشغاف غلاف القلب و حجابه .شَغَفَهَا حُبّاً :
أَيْ أَصَابَ قَلْبَهَا بِحُبٍّ قَوِيّ فأحبته و أولعت به و تعلقت ..و منها شغوفٌ
أو شَغوفة صفة مشبهة تدلّ على التبوت. و في القرآن الكريم في سورة يوسف الأية/30 (..قد
شغفها حباً..)
و يقول الشّاعر: وما حُبّ الدّيار شَغَفْن قلبي … ولكن
حبُّ من سكنَ الدّيارا
2 ــ بناء النّص ، و قد جاء في ثلاثة مقاطع : الأول و الثالث للمرأة ، و الثاني للرجل.
2/1 ــ المقطع الأول: (يا له من يوم!”
تقول المرأة وهي تفرك جسدها الغض بالصابون وشعور جارف بالأسى ينتابها: “بإمكاني إنهاء الأمر وحالاً ..سأطرده”.
تتفقد شاماتها الثلاث وتقول لنفسها: “هذا الجسد كاملاً لي” وتبتسم.
“من أين يتسرّب كلّ هذا الحزن؟!” )
يُستفتح المقطع بتعجب ، من يوم يبدو غير عادي ( شعور جارف بالأسى ينتابها ) و لا تعلم ( من أين يتسرّب كلّ هذا الحزن ؟) و لكنّها انهمكت تفرك جسدها الغضّ بالصّابون و تتفقد بإعجاب و نرجسية شاماتها الثلاث و تحدث نفسها مبتسمة :(هذا الجسد كاملاً لي). و تتدارك وكأنّها تنبّهت لمصدر قلقها، وانزعاجها، و حزنها، إنّه الآخر، فتقرّ بصرامة: (بإمكاني إنهاء الأمر وحالاً ..سأطرده).إذاً، يتمّ الإشعار بخلاف ما بين المرأة و رجل في حياتها، لا يريدُ منها إلا جَسدها، و هو مِلك لها، و لا أحدَ يمتلكه غيرها.
2/2 ــ المقطع الثّاني: (يسأل الرّجل نفسه وهو يهم بغسل وجهه من أثر صابون الحلاقة.
“سأتركها حالاً”، يمرر يده على ذقنه الناعمة وعلى شعر الصدر ويقول بانتشاء: “هذا جسدي كاملاً لي .) و كما في المشاهد السينمائية تنتقل بنا الكاميرا إلى رجل يحلق ذقنه، ثمّ يغسل أثر الصّابون و ينتشي بتمرير كفّه على ذقته النّاعم الأملس و شعر صدره النّافر، فتنتابه مشاعر نرجسية فيحدّث نفسه : ( هذا جسدي كاملا لي). ثم يتدارك و كأنّه أحسّ بمنْ ينغص حياته، و يقلق نفسيته، و يزاحمه في ذاته، و جسده فيقرّ بصرامة : ( سأتركها حالاً)
نستفيد من المقطعين، أنّ كلا منهما يحب ذاته /جسده بنرجسيةٍ و حرصٍ، و حبِّ تملك ، و يرغب في طرد و ترك الآخر، الذي لا يَرى فيه إلاّ جسدَ متعة و إشباع غريزة.
2/3 ــ المقطع الثالث : (مطر يهمي على المدينة ويغسل الأرصفة والشوارع وخطى العابرين، فيثير مخاوف الزوار من أن تنساهم المدينة.. ويطرق بخبث نافذة المرأة التي تهذي منذ الصباح: “سيأتي وسأطرده..سيأتي وسأطرده”، ثم تحسم الأمر: “سأذهب إلى هناك وأخبره ألا يأتي”. ! بعد دقائق معدودة تغلق المرأة بيتها وتخرج راكضة تحت المطر الذي اختلطت حبات منه بدموعها، الأمر الذي منحها فرصة البكاء في الطريق إليه دونما حرج)
المشهد يتغير في هذا المقطع ، اليوم ماطر، و قد يكون يوماً ضائعاً بالنّسبة لزوار المدينة، مطر غزير يطرق نافذة المرأة ، التي قضت الصّباح تهذي (سيأتي وسأطرده..سيأتي وسأطرده) إصرار على الطّرد، وعدم الرّغبة في رؤيته، أو سماع كلامه، ثمّ يبدو لها أنّها لا ترغب في أن تراه في بيتها، فتحسم الأمرَ بالذهاب إليه:(سأذهب إلى هناك وأخبره ألا يأتي). ثمّ تغادر راكضة تحت المطر. فبكت طوال الطريق، فاختلطت دموعها بحبات المطر الشيء (الذي منحها فرصة البكاء في الطريق إليه دونما حرج ).
3 ــ البناء الفنّي :
3/1 العلاقة الوطيدة بين العنوان (شغف ) و بين البداية التّعجبية ( ياله من يوم ! ) و الخرجة : (..منحها فرصة البكاء في الطريق إليه دونما حرج ) الشّغف هو شدّة التّعلّق بالآخر، فإنْ كان هذا الشّغف يأتي بكلّ هذه المُفارقات: غضب، حب تملك، طرد، الذهاب إليه تحت المطر، البكاء طوال الطريق.. ( لا شكّ أنّه يومٌ و أيُّ يوم ؟! (و الدّليل على الشّغف ذهاب البطلة بعد الاستحمام، دون أن تخشى الأذي من البرد على جسدٍ شغِفتْ بامتلاكه، و لكن انصاعت باكيةً تحتَ وابلٍ منهمرٍ إلى شغفٍ آخر.
3/2 بناء النص وفق المشاهد السينمائية. و هذا ما نشعر به، و كأنّه تقطيع لسناريو. و أن كاميرا متحركة تتعقب المقاطع الثلاثة و ما يجري فيها بالصّوت و الحَركة.و هنا استفادة ذكية من التقنة السينمائية فيما يخصُّ التقطيع.
3/3 اعتماد مفهوم النّرجسية ( narcissism) أو نقول الشّخصية النّرجسية ( narcissistic personality) و هي كما يقول عالم النّفس كريج مالكين، مؤلف كتاب “إعادة النّظر في النّرجسية”: “إنّها القدرة على رؤية أنفسنا والآخرين عبر عدسة وردية اللّون” و يقول أيضاً :”إن ما تشترك فيه جميع فئات النّرجسية هو ‘تعزيز الذّات ،فأفكارهم، وسلوكهم، وعباراتهم تفصلهم عن الآخرين، ويسكن الشّعور بالتّميز آلامهم، لأنّهم يعانون -إلى جانب ذلك- من مفهوم غير مُستقر عن الذّات”
و لذلك نجد المرأة في النّص: ” تتفقد شاماتها الثلاث وتقول لنفسها: “هذا الجسد كاملاً لي” وتبتسم “. و نجد الرّجل و قد راقه مظهره بعد الحلاقة فقال بانتشاء : ” “هذا جسدي كاملاً لي”. و لكن هذه النّرجسية لم يُرَد بها النّرجسية المَرضية، بقدر ما أريدَ بها إثارة قضية هي في أعمق مُلابساتها فلسفية: أنحب الشّخص لذاته/جسده أم حبنا له لخصائصه الأخرى: أخلاقية معرفية إنسانية عاطفية …؟ و من هذا تصبح النّرجسية في البطلين رمزَ قضية.
3/4 التّركيز على الخصائص المميزة للجنسين . باعتبر أنّ الشّخص لا يكون متّزناً نفسياً و جسدياَ.. إلاّ إذا كان في تصالح مع ذاتهِ كجنس : أنثى أو ذكر.فالبطلة في النّص ركزت على ما يميزها كأنثى جميلة : ( شاماتها الثلاث وتقول لنفسها: “هذا الجسد كاملاً لي” وتبتسم.)
و الرّجل أيضاً يتمسّك بما يميزهُ عن الجنس الآخر كحلاقة الذّقن، و شَعر الصّدر: (يمرر يده على ذقنه النّاعمة وعلى شعر الصّدر ويقول بانتشاء: “هذا جسدي كاملاً لي”.
3/5 اعتماد التّكرار. حجم القصّة القصيرة لا يسع الإسهاب، و الاستطراد، و التّرادف و بخاصّة التّكرار. إلا عند الضّرورة الأسلوبية، التي تخدم فكرة النّص. و لهذا تسامح القاص في تكرار عبارات و كلمات فمثلا بالنسبة للمرأة نجد: (“بإمكاني إنهاء الأمر وحالاً ..سأطرده”. ، “سيأتي وسأطرده..سيأتي وسأطرده” و ما هو مكرر بين المرأة والرّجل: المرأة ” هذا الجسد كاملاً لي” الرّجل”هذا جسدي كاملاً لي”.
3/6 الاقتباس . لقد جاءت الخرجة (راكضة تحت المطر الذي اختلطت حبات منه بدموعها، الأمر الذي منحها فرصة البكاء في الطريق إليه دونما حرج ) مقتبسة من قولة لشارلي شابلين و كان قد ردّدها بعده روان أنكينسون/ مستربين و هي (أحبّ المشي في المطر لأنّه لا أحدَ يرى دموعي.)
3/7 اللّغة القصصية لقد تجنّب القاص نسق التضخيم في الأسلوب ( Swelling of style)
او اعتماد التكثيف اللّغوي كما هو شائع في هذا الجنس السّردي .لقد جاءت لغة النّص تصويرية معبّرة..في تعدّد من الصّيغ و الأساليب : الأسلوب الإنشائي التّعجب : ” يا له من يوم !” الاستفهام : ” من أين يتسرّب كلّ هذا الحزن؟ “
الأسلوب الخبري: ” بإمكاني إنهاء الأمر وحالاً ..سأطرده”. و ” سأتركها حالاً” و كما هو ملاحظ فقد وظّف القاص حرف (س) مقروناً بالفعل المضارع سبع مرّات و (س) حرف تنفيس و توسيع لا محل له من الإعراب، مثله مثل (سوف) يخصان بالمضارع فيخصصانه للمستقبل دون الحاضر.
ملاحظة ، حبذا لو استغني النص في الأخير عن وصف الجو الماطر، و اكتفى بالتّلميح له فمثلا السّطر و نصف التاّلي :[ مطر يهمي على المدينة ويغسل الأرصفة والشوارع وخطى العابرين، فيثير مخاوف الزوار من أن تنساهم المدينة.. ويطرق بخبث نافذة.. ] أرى أن حذفه لا يغيرُ من فكرة النّص شيئاً . ثمّ هناك ما يشير للجو الماطر، كقول السّارد : ” وتخرج راكضة تحتَ المطر”.
ختاماً، هنيئاً للقاص عامر الشقيري بهذا النّص الإشكالي، الذي أثار شجون الجسد و الحب، و إشكالية الملكية الجسدية ،و حقيقة الأخذ و العطاء بين الجنسين، في إطار من المعاشرة، التي تحتملُ الاختلافَ و الاتّفاق …
هنيئا للقاص عامر الشقيري الاحتفالية الرائعة بنصه الجميل من معلمنا الدكتور مسلك ميمون
نعم الكاتب والناقد.
تحياتي
شكر لمرورك ….خالص تحياتي