د. عبد الواحد أكمير
مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات
عندما يرد ذكر الموريسكيين، فالذين نستحضرهم، هم بالخصوص أولئك الذين طردوا؛ نتذكر معاناتهم، ومصادرة أملاكهم، والتهجير القسري الذي تعرضوا له. لكن هؤلاء لما وصلوا إلى المغرب أو إلى مناطق أخرى من دار الإسلام، أصبح بإمكانهم أن يشهروا إسلامهم و بالتالي مشكل الهوية الدينية لم يعد يطرح لديهم بحدة. ليس الأمر كذلك بالنسبة للذين تخلفوا، لأن هؤلاء كان عليهم أن يعيشوا بهويتين: هوية داخل البيت هي الإسلام، وهوية خارج البيت، هي المسيحية.
كل هذا على صعوبته قد يتفهمه ويتقبله الذي عاش مرحلة الطرد، يعني إلى بداية القرن السابع عشر، لكن الذين جاءوا من بعد، أي الأجيال اللاحقة، كان من الصعب عليهم توارث تلك الازدواجية، وذلك الخوف الذي استمر معهم إلى غاية القرن العشرين. وسأعطي بعض الأمثلة، ليس من المصادر التاريخية، لأن طرد الموريسكيين كان يعني ولمدة طويلة نهاية التأريخ حولهم، وإنما من مصادر أخرى هي أدب الرحلة. وكما نعرف، الرحالة عندما يكتب، يفعل ذلك دون وعي بالتأريخ ودون خلفية تأريخية، و إنما يسجل انطباعاته، ويورد الأمور كما يراها في تلك اللحظة، وتكون كتابته في الموضوع نتاج تراكمات ثقافية ودينية وسياسية وسيكولوجية.
من بين الرحلات التي أخذتها كنموذج، رحلة الغساني، سفير السلطان مولاي إسماعيل، الذي انتقل إلى إسبانيا ثمانين سنة بعد طرد الموريسكيين أي سنة 1690، وهو يخبرنا بصدد الموريسكيين الذين التقى بهم، أنهم لا زالوا يحافظون على إسلامهم ولهم تقدير خاص للإسلام، لكنهم يخافون من إشهاره. عندنا شهادة أخرى من القرن الثامن عشر (1766)، هي رحلة المهدي الغزال، الذي يقول عن الموريسكيين، إن عددهم مرتفع في غرناطة، وإن أكثر ما يخافونه، هم “الفرايلية” frailes، (يقصد رهبان محاكم التفتيش). بمعنى أن ذلك الخوف كان لايزال يرافقهم.
بعد مرور عشر سنوات على الغزال قام ابن عثمان المكناسي برحلة ، يتحدث فيها هو الآخر عن ذلك الخوف، وفي نفس الوقت يقدم لنا شهادة طريفة؛ فلما زار غرناطة، وبصفته سفير دولة صديقة، وضيف ملك إسبانيا، خصص له البروتوكول الملكي، مرافقاً خاصاً هو رئيس الشرطة. وبما أنه كان يرتدي اللباس المغربي التقليدي، كان الناس يقتربون منه لمشاهدته، لأنهم لم يعد لهم عهد بذلك اللباس منذ طرد الموريسكيين. لكن رئيس الشرطة المرافق له كان يعاملهم بعنف وفظاظة، وهو ما أثار حفيظة ابن عثمان، الذي بعد أن اختلى به، سأله عن السبب الذي يدفعه لمعاملتهم بتلك الطريقة، فأسر له، أنه ينتقم منهم، لأنه مسلم وهم نصارى، وبالتالي يرُد لهم بعض الظلم الذي مارسوه على المسلمين.
بعض من هذه الصور نسجلها كذلك لدى الرحالة الغربيين الذين زاروا الأندلس في نفس الفترة، وتركوا أعمالاً عن رحلاتهم. ومن الأمثلة التي اعتمدناها، رحلة “هنري سوينبورن” Henri Swinborne الذي زار غرناطة سنة 1776 (نفس السنة التي زارها فيها ابن عثمان). ويحكي أنه وهو في غرناطة، لاحظ تعصب الرهبان الذين كانوا لا يزالون يطبقون حسبه القوانين الفاسدة التي تعود إلى القرون الوسطى. ولنا أن نتصور كيف يمكن أن ينظر “سوينبورن” وهو الرجل الذي عاش سنوات طويلة في فرنسا وتأثر بفكر الأنوار، وذو روح فولتيرية متدفقة، كيف يمكن أن ينظر إلى محاكم التفتيش. ولا يستطيع وهو في غرناطة أن لا يضع مقارنة بين الحضارة التي كانت عليها الأندلس على عهد المسلمين، والتخلف الذي آلت إليه مع محاكم التفتيش.
بالنسبة للمصادر الإسبانية، فإن تاريخ الموريسكيين وتاريخ الأندلسيين بشكل عام لن يتم انتشاله من النسيان المقصود إلا في القرن التاسع عشر، ويرجع الفضل لرواد الاستعراب الإسباني، الذين ظهروا آنذاك، ويعتبر رائد هذا الاستعراب هو “خوسي أنطونيو كوندي” José Antonio Conde الذي ألف سنة 1800 كتابا حمل اسم “تاريخ الاحتلال العربي لإسبانيا”. الكتاب لم يصدر إلا بعد وفاة المؤلف سنة 1820. ومن أسباب عدم صدوره في حياته، تخوفه من العواقب، لأن محاكم التفتيش لم تُلغ بشكل قانوني إلا سنة 1824 (أما بشكل غير قانوني، فقد استمرت سنوات طويلة بعد ذلك).
في نفس المرحلة التي نتحدث عنها، ظهر مؤرخ آخر هو “خوان أندريس” Juan Andrés ، وهو راهب يسوعي طرد من الكنيسة كما طرد من إسبانيا، وانتقل إلى إيطاليا حيث ألف كتاباً موسوعياً باللغة الإيطالية في ثمانية أجزاء، عن الأدب المقارن والتاريخ العام، وصل فيه إلى خلاصة استغرب لها الجميع آنذاك؛ هي أن كل ما تدين به أوروبا من تقدم في الآداب والفكر والعلوم لإسبانيا، ورثته هذه الأخيرة عن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس. أقول استغرب الجميع لتلك الخلاصة، بل ولم يصدقها أحد، لأن المصادر العربية التي يمكن أن تؤكد ذلك، كانت لا تزال مخطوطة، في وقت كانت الكتابات التاريخية الإسبانية تطبق الصمت عن الموضوع. وكانت الصورة المنتشرة في الغرب عن الشرق، هي التي سوقت لها حملة نابوليون على مصر، أي أن “الشرق لم يستيقظ من سباته العميق إلا على طلقات مدافع بونابارت”.
النموذج الثالث من المستعربين الإسبان الذين عرفوا بالتراث العربي الإسلامي في الأندلس هو، “باسكوال غايانغوس” Pascual Gayangos، وهو رجل ثري، ليبيرالي، كتب من منفاه بلندن، كتابا باللغة الإنجليزية وضع له كعنوان “تاريخ السلالات المسلمة في إسبانيا”، اعتمد فيه بشكل كبير على كتاب نفح الطيب للمقري. ولما تغيرت الأوضاع في إسبانيا عاد “غايانغوس” ، إلى مدريد، وتم انتخابه رئيساً للأكاديمية الملكية للتاريخ، وقد حرص من موقعه ذاك، وبسبب إعجابه بالحضارة الأندلسية وبالتراث الموريسكي، حرص على تكوين جيل من الباحثين المهتمين بالتاريخ الأندلسي والتاريخ الموريسكي، وسأذكر فقط إثنين منهم لهما علاقة بموضوعنا. أولهما “أليخاندرو إستبان” Alejandro Esteban، الذي ألف كتابا عن العادات والتقاليد العربية التي حافظ عليها الإسبان بعد طرد الموريسكيين، وبطبيعة الحال اعتمد في كتابه على ما كان يراه لدى الموريسكيين الذين تخلفوا بإسبانيا، والذين يرجع لهم الفضل في الحفاظ على تلك العادات.
الشخصية الثانية هو “فرانسيسكو كوديرا وزايدين” Francisco Coodera y Zaidin، وهو أول مؤرخ من أصول موريسكية كتب عن أجداده، وقد كون جيلاً من كبار المستعربين، الذين ارتقوا بشكل غير مسبوق بالاستعراب الإسباني في النصف الأول من القرن العشرين؛ يتعلق الأمر بأولئك الذين يعرفون باسم “بني كوديرا” Beni Codera، ومن أشهرهم: “خوليان ريفيرا” Julian Rivera، و”أسين بلاثيوس”Asin palacios، و”هويثي ميراندا”Huici Miranda، و”أنخل غونثالث بلينثيا” Angel Gonzalez Palencia وآخرون. هؤلاء هم الذين سيعيدون بعض الاعتبار للثقافة الأندلسية والثقافة الموريسكية. لكن رغم كل المجهودات التي قاموا بها، بقي صدى كتاباتهم محدوداً ولم يستطع مواجهة التيار المسيطر في الكتابة التاريخية الذي وضع أسسه “مارسيلينو مينينديث بيلايو” Marcelino Menendez Pelayo، والذي يستند على مبدأ النزعة القومية الكاثوليكية، ويناصب العداء كل أقلية عرقية أو دينية، مثل الموريسكية التي تدين بالإسلام.
شكرا لحضرتك يا دكتور على هذا المقال القيم.. فالقضية الموريسكية التى اهملها المسلمون واهتم بها الاسبان لغرض ما فى نفس يعقوب او كما يدعى البعض للبحث عن الذات،واي يكن من امر فالاهتمام يجب ان يكون من عندنا نحن المعنيين بالقضية، والتى تعد اعظم ماساة انسانية فى التاريخ باسره، وقد سعيت من اجل هذه القضية ،وبفضل الله حصلت على رسالة الماجستير من كلية الدراسات الافريقية العليا_جامعة القاهرة،وباذن الله رسالة الدكتوراه فى نفس القضية،وقد وفقنى الله فى تاليف كتاب بعنوان القضية الموريسكية ماساة امة، وكذلك هدانى الله لعمل شئ للناشئة وللتعريف بالقضية نفسها وهو بعض الالعاب الصغيرة للاطفال واتمنى من الله ان تروج عندكم فى المغرب بل والمغرب الاسلامى كله بتوفيق الله ومدده،وشكرا جزيلا لكم على عطائكم المشهود من اجل هذه القضية.