الـ ( ق ق ج ) و أخطاء الكتابة .. (2)
تابع..
7 ــ اللّقطة السّردية:
كلّما تحدثتُ عن الـ (ق ق ج) إلاّ و اسْتحضرتُ ذاك السّائح الذي يَتجولُ في المدينة و على صدره تتدلى آلة التّصوير. كلَّما رأى منظراً جَميلا ، أو آخر لافتاً ، أو شاهد إنساناً في وضع ما، أو حيوانا أو طيرا أو أزهارا…إلا والتقط آلته بشغف ، و اتَّخذ وضعاً مُلائماً، و حرص على الإضاءة الكافية، و عمدَ إلى نموذجه الأثير، في لقطةٍ معبِّرة رائقة.. هي اللَّقطة التي صدمته أوّل وهلة..فكذلك (ق ق ج) هي لقطة، عفوية، صادمة، لها أثر بليغ في النّفس..
فبراعة اللّقطة السَّردية، مُكوِّن فنِّي، يرقى بالعمل القصصي درجات التَّميز، و الإبداع. و كما أنّ ليسَ كلّ من أخذَ آلةَ التَّصوير يستطيع أخذ اللَّقطة المَشهدية الرَّائعة. فكذلك ليس كلّ من حمل قلماً يستطيع نقل اللَّقطة السَّردية المُتوهّجة، المُتميّزة.
ــ و الخطأ أنَّ البعض يكتبُ (ق ق ج) كما يكتب القصَّة القصيرة، أي بنفسِ الأسلوب، والصِّيغة،( Mode)، بلْ أحياناً بنفس التَّراكيبِ اللُّغوية. ما يجعل منْ عمله مشروعَ كتابة قصة قصيرة.
ــ و منَ الخطأ أيضاً تجاهل مفهوم اللَّقطة السّردية، إنْ لمْ أقل ْ جهلها،في مجالٍ محكومٍ بالحَجم، و التَّكثيف اللُّغوي. ما ينتج عنه عمل يُشبه شكلا الـ (ق ق ج) دون أن يكونَها..ليس إلا ..
8 ــ الإبهار و المُفاجأة و الإدهاش.
نبقى مع المصور الفوتوغرافي، إنّ ما جعله يلتقط الصّورة: انبهارهُ بمشهدِها ، و مُفاجأته أن تكونَ كذلك، و اندهاشُه أن تكون على ما هي عليه في الزّمان و المكان المحدّد…و هذه المشاعر الثلاثة : ” الإبهار و المُفاجأة و الإدهاش ” شكّلت التّحفيـــز (Motivation) فكانت اللّقطة الفنّية المُؤثِّرة، التي تعكسُ نفس المشاعر للمتلقي و لَربَّما بصورةٍ أعمق، و أكثر تأثيراً..
فكذلك (ق ق ج): إبهار ، و مفاجأة ، و إدهاش.. فهذا الثّلاثي يشكّل نَكهة هذا الفن المُتميّز. فحين يُفتقدُ، أو يَخفت أو لا يُعْنَى به العناية الواجبة..يُصبح النَّص كجسدٍ فارقته نَسمةُ الحياة. و من تمَّ كثير من النّصوص تفقد فاعليتها القصصية، و تصبح رُكاماً لفظياً، يَحسبه من يَجهلُ هذا الفن عملاً قصصياً، و هو بمعيار الفنّ، أبعدُ منْ أن يكون كذلك.
ــ و الخطأ هنا، في كتابة الـ (ق ق ج) دون وعي بمقوماتها الأساسية، في حدود حجمها و مُتطلباتها، و مُقتضى بنيتها، و خطابها ..
ــ و الخطأ أيضاً أن يُنْهِيَ المتلقي النّص، فلا هو انبهر بشيء، و لا شيء فاجأه، أو أدْهشه، فذاك إعلان عن فشل كتابة النص.
9 ــ اللّغـة الفاعلـة :
و نبقى مع مصورنا الفتوغرافي. لا شكَّ أنَّ اللَّقطة التي أتانا بها، فأبهرتنا، و فاجأتنا، و أدهشتنا.. قد فعلت به ذلك من قبل، و إلاّ ما كان ليلتقطها. و لكن لو كانت آلة تصويره رَديئة، أو غير مُتوازنة و مضبوطة.. أو كان المُصور نفسه لا يُحسن تقنية و فنِّية آلة التَّصوير .. أكانت اللّقطة تأتي بهذه الجودة، التي حَظيت بإعجابنا ؟
كذلك لغة الـ (ق ق ج) ينبغي أن تكون فاعلة، مؤثّرة، تخدم فكرة النّص. و الأمر هنا رهين بقاموس القاص، و قدرته على الكتابة (Le pouvoir d’écrire) عِلماً أنَّ الجملة القصيرة أصعب من الطّويلة، لأنّها رغم قصرها فهي خزّان كلام كثير، و مُضمراتٍ لمْ يُفصَحْ عنها. و بالتَّالي قد لا تعني معناها الظّاهر، بل يتَّضح ذلكَ نتيجة تأويل فنِّي، أو تفسيرٍ رَمزي، لأنَّها جملة بَلاغية، قد تكون مَجازية، أو رَمزية، أو مُؤسطرة..
ــ و الخطأ هنا، اعتماد اللُّغة المعيارية (المباشرة) بدل اللُّغة الإيحائية ( الشّعرية) و التَّوسل بالخطاب الإنشائي، أي ( اعتماد الوصف) بشكل خاص. ما يجعل النّص ينتهي بانتهاء قراءته، كأيّ رسالة، أو خبر عادي.
ــ و من الخطأ أيضاً أن يطمئن القاصُّ لرصيده اللُّغوي، و يظنُّه كاف لكلِّ وجوه التَّعبير. بل لا يطمئنُّ حتَّى للنّقد الذي يخصُّ لغته..الشَّيء الذي يجعله يكتب و لا يكتب إلا ما يزيد الرُّكام الموجود ركاماً آخر،لا يُجدي فنِّياً، و لا يُجدي قصصياً..
10 ــ الإيحاء و التّلميح..
و نأبى ألا نُفارق السّائحَ المُصور.. و نتساءل : ماذا لو أخذنا الصُّورة الملتقطة لمنظر طبعي ما. و حكمنا أنّها لقطة جميلة. فإنَّ كلَّ شيء سينتهي عند كلمة ( جميلة ). فكذلك النّص القصصي إذا راقنا شكلاً و مضموناً و حكمنا أنّه ( جميل ) فإنَّ النّصّ ينتهى عند كلمة ( جميل ) و لكن لو عُدنا لصور المصور و وجدنا أنَّه أبدع في لقطة ما، إذ صور السُّحب الدَّاكنة كأنَّها ، ستسقط على المدينة، و أن الأشجار اكتستْ قتامة، و كأنَّها افتقدت الاخضرار اليانع. و الشارع الممتدّ يبدو مقفراً، إلا من قط أسود تائه وحده، و أوراق جافة متناثرة، و بنايات شاهقة تعانق سطوحُها الضّباب… فهذه لقطة تبعث على التّساؤول و لربَّما توحي بأشياء و تخيلات، و لربّما تستدعي صوراً و أفكاراً ثاوية في الذَّاكرة.. المهمُّ في الأمر، لا يكفي أن نقول اللّقطة جميلة.. بل سنقول إنَّها معبِّرة، و لمَّاحة، و توحي بأشياء كثيرة..
فكذلك (ق ق ج) لا يُرادُ لها أن تعتمدَ أسلوب الإخبار، من أجل الإخبار . فذلك مجاله الإعلام، و إنَّما دورها الإيحاء و التّلميح.. لأنّها كُتبت لمثقف ذكي، يقرأ ما بين السُّطور القليلة. و يَستقطرُ معاني الجمل التّخييلية، و يُدرك المعاني و الأبعاد، و هذا ما تقرّه النّظرية التّداولية المعرفية، التي تعتبر التّخييل من مظاهر التّواصل .
ــ و الخطأ هنا، سُوء توظيف العامل الشّفري، أو الرّمزي أو الأسطوري.. أو إهماله إطلاقاً..و اختيار الكتابة ذات النّزعة التّقريرية، المباشرة، قصد إفادة المعنى و تبليغه..
ــ و الخطأ أيضاً،عدم التَّمكن من فهم السّنن اللّغوي:( صوت، تركيب، معجم، دلالة..)
11 ــ الابتكــار:
لو عدنا إلى سائحنا المصور ، و تأمّلنا صوره فوجدناها كلّها، أو أغلبها صورا للطّبيعة. و فوق هذا أُخِذَت بنسق واحد لم تحد عنه. لربّما ستروقنا الصّورة الأولى، و الثّانية و لكن لمَّا يتكرَّر نفس النّسق بدون اجتهاد أو ابتكار، و نفس الموضوع ( الطبيعة)، ستصبح الصّور عادية جداً. و كأنّها تكرِّر نفسَها.
نفس الشّيء يقع في الـ ( ق ق ج) بمجرد أن يُحقّق نص ما بعض النّجاح و يحضى ببعض الثّناء يتّخذه القاص كنموذج ينسج على منواله كلّ القصص التي تليه بنفس النّسق، و التّركيب، و الرّؤية السّردية.. وهذا يحدث كثيراً مع استسهال كتابة النّص القصير.
و التّشجيع اللامسؤول، في وسائل التّواصل الاجتماعي، و المواقع الالكترونية، و يُسر النَّشر و توفُّر امْكانات الطَّبع..و بالمقابل قلَّة النَّقد الموضوعي، و المتابعة التَّوجيهية، كلُّ ذلك ساهم بشكل أو بآخر في عدم الاهتمام بالابتكار(Innovation) كخاصية تضمن تجدُّد الإبداع و اسْتمراه، ابتعاداً عن النَّمطية و التّكرار. .
ــ و الخطأ هنا، أنَّ القاص لا يلتمس وجه النَّقد الحقيقي،بحثاً عن المرآة الصّافية، التي تعكس ما لديه بكلّ جلاء و صفاء و صدق.. بل تجده يرتمي في أحضان اللاَّ نقد، و اللاّ توجيه، بحثاً عن الثناء الذي لا يَستحقُّه انتاجُه، و الافتخارُ بالشَّواهد التَّقديرية التي لا تُقدِّر شيئاً.. و بذلك ينعدم الابتكار، و ينحسر التَّجريبُ و التَّجديد.
ــ و من الخطأ أيضاً قلّة الاطلاع على ما يُكتب في هذا الفنّ الجميل، و ما يُكتب عنه من نقد و تنظير. و قلَّة المتابعة و الاهتمام باللّسانيات النَّصية (Linguistique textuelle ) ..فليت شعري كيف يبدع القاص و يَبتكر ..و بينه و بين هذا المجال قطيعة ابستمولوجية؟!
12 ــ أخلاقيـات الكتابـة
و قبل أن نودع السَّائح المصور، الذي راكم مجموعة من الصّور الجميلة الفنّية و التي نالت إعجابنا ، و جعلتنا نعيدُ النَّظر فيما حولنا، و نقدّر فنّية ما نرى ..لا شك أنّ هذه الصّور لم تكن اعتباطاً أو محض مُصادفة .. بل جاءت نتيجة آلة تصوير جيِّدة، و نتيجة مصور بارع نال حظَّه من ثقافة التَّصوير: اطلاعاً، و ممارسة ، فكانت له أخلاقيات التَّصوير الفنّي.
نفس الشئ بالنسبة لكاتب ( ق ق ج) لا بدّ له من أخلاقيات الكتابة :
1ـــ الموهبة وحدها لا تفيد، و إن كانت عاملا مساعدا. بل لا بدّ من صقلها بتكثيف المطالعة القصصية، و كلّ ما يتعلق بـالـ (ق ق ج) إبداعاً، و نقداً، و تنظيراً..بمعنى اعتماد الثّقافة السّردية.
2 ـــ الابتعاد عن كتابةِ النّصوص المعيارية التي تنحصر فيها الاحتمالات الدّلالية في المعنى و ينطبق عليها المصطلح الأصولي: (قطعي الدّلالة). فهذه نصوص لا صلة لها بنسق الـ (ق ق ج).
3 ــ الاهتمام ببناء الحبكة، و تقنية القص، و أسلوب السَّرد، و لغة الحكي، و الصّورة السّردية التي أساسها اللّغة و العاطفة، و الخيال.. دون إهمال الوعي بالتَّجربة الحياتية، و القصصية، و المتغيرات الاجتماعية و السّياسية..
ــ و الخطأ، إهمال كلّ هذا ، أو اعتماده بدون وعي فنيي أو اهتمام نقدي .. فينعكسُ الأثر السّلبي على كلّ النّصوص المكتوبة، فتبدو ارتجالية، مُتهافتة، مُباشرة، تقريرية (Dénotative) لا تمتّ بصلة ما للقصّة القصيرة جداً.
ــ و الخطأ أيضاً في غياب هذه المقومات السّردية، أو بعضها، اتباعاً للواقعية النّمطية، و الفهم الخاطئ لعملية القصّ. و بخاصّة القصّ القصيرُ جداً.
تحياتي/ مسلك ميمون
موقع الدكتور مسلك ميمون
جميل أستاذي البارع
حفظك الله و رعاك .. و دمت للوفاء..