من ذكريات نقد ال (ق ق ج) (3)
منذ سنوات خلت، اتّصل بي أحد المشرفين على مسابقة ال (ق ق ج)، لأكون من ضمن لجنة التّحكيم. فمراعاة للصداقة التي تربطنا منذ مدّة في هذا الفضاء الأزرق. وافقت على مضض. لأنّني لا أومن بنتائج هذه المسابقات. ذلك لأننا في مرحلة تكوين و بناء، و ليس في مرحلة مسابقات. فحين نفعل ذلك نكون كمن يضع العربة أمام الحصان. وإن كان البعض يرى العكس بأن هذا التّنشيط القصصي يُحفّز على الكتابة و المنافسة الثّقافية.
كان عدد المشاركين أربعة و ثمانون مشاركا و مشاركة. وكنا خمسة حكام.
وزِّعت علينا النصوص على أن يختار كلّ واحد منّا ثلاثة نصوص. بعد القراءة الأولى أصبح بين أيدينا خمسة عشرة نصّا. وزّعت علينا ليختار كلّ واحد منّا نصّا واحدًا فقط. .فأصبح بين أيدينا خمسة نصوص. طلب منّا أن يختار كلّ واحد منا ثلاثة نصوص مع ترتيبها ، وأن يلغي نصين من الخمسة.
الغريب العجيب ، و غير المنتظر أنّ الحكام الأربعة اختاروا ثلاثة نصوص متشابهة ! كما لو أنّهم اتّفقوا على الاختيار الواحد ، و اختلفوا فقط، في ترتيبها. أمّا من جهتي فقد شاركتهم في نص واحد، و جعلت رتبته الثالثة.
و اخترت النّصين الذين ألغيا من طرفهم، و رتبت أحدهما الأّوّل، و الآخر الثّاني.
في المداولة النّهائية، قال المشرف على المسابقة، فضًّا لأيّ خلاف أو نزاع محتمل:
ـــ ما دام الحكام الأربعة، قد اختاروا الثلاثة الأوائل. سنحتفظ باختيارهم، من باب الديمقراطية، و ما عليهم إلا أن يتّفقوا فيما بينهم على التّرتيب.
هكذا باسم الديمقراطية ألغيت اختياراتي. فسألني المشرف هل عندي ملاحظة.
فقلت :بل .. عندي سؤال للسّادة الأساتذة الحكام الأربعة. ما هو المعيار و المنهج النقدي الذي جعلكم تتفقون على النصوص الثلاثة هذا الاتفاق العجيب ؟!
اكفهر جو النقاش..و بدأ الأخذ و الرّد ..
فقال الأوّل متسرّعًا: النصوص المختارة أجمل وأروع ما قرأنا في هذه المسابقة.
و قال الثاني لا تحسبنا ـ أستاذ ـ أننا اتفقنا على اختيار النصوص، بل جودة النصوص هي التي فرضت نفسها.
و قال الثالث موضحا : الأستاذ يسألنا عن المعيار و المنهج الذي اتبعناه في اختياراتنا.. فمن جهتي اعتمدت ذوقي الخاص، و فهمي المتواضع للقصّة القصيرة جدًا .
بينما لازم الحكم الّرابع الصّمت، و لم يعقب ، و كأنّه أحسّ بالورطة..
و بدوري، سَكتُ برهة حتّى ظنّوا أنّني اقتنعت بكلامهم، فقلت:
من جهتي كانت اختياراتي تعتمد المنهج البنيوي، ولقد أعددت تقريرًا مفصّلا حول كلّ نص، لأبين سبب اختياري .. و لا أظنّ أحدًا منكم أعدَّ تقريرًا كتابيا…
لقد راعيت المفارقة و مدى الإبداع في طرحها. و اللّغة الموظّفة و حسن صياغتها، و ملاءمتها لخدمة فكرة النّص. كما راعيت الخرجة و نوعيتها، و أثرها و اختراقها لأفق انتظار المتلقي…
فقاطعني أحدهم : يا أستاذ ..هؤلاء مجرد متأدبين في بداية الطّريق.. فأنّى لهم من المنهج البنيوي، و المفارقة، و اللّغة القصصية ، و الخرجة.. ؟ !
فصرخت على غير عادتي :
..فلماذا المسابقة إذاً ؟ ! و لماذا مشاركتم كحكام ما دامت نظرتكم دونية لهذا الحد ؟ !
فقال أحدهم ظل صامتا طوال النقاش : نحن مثلك استدعينا فأجبنا.أنا شخصيا لم أشارك في أي تحكيم سابق، و أشعر أنني أخطأت إذ قبلت المشاركة في التّحكيم .
فامتلكني ذهول فظيع، صَمت طويلا. كانت تتلبسني حسرة و ندم لكوني شاركت في مهزلة..إلى أنْ تدخل المشرف محاولا تلطيف الجو المتشنّج بقوله:
ـــ لننصف الأستاذ.. و نمنحه أحقية ترتيب نصوصكم المختارة. ما رأيك يا أستاذ؟
ــ رأيي ألا تستدعيني مرّة أخرى لعبثية كهذه…