من ذكريات نقد ال (ق ق ج) (4)
حين التقينا ذات مساء في المقهى،منذ سنوات خلت ، كان حديثنا حول ال (ق ق ج) و ما آلت إلبه من سوء فهم، و ترَدٍّ في الكتابة و الأسلوب، و تماه و أجناس أخرى كالشّعر,, فكان الصّديق مُتسامحًا لأقصى حدٍّ مُمكن ، و كان يعارضني في كلّ مرَّة و يقول:
ــ لنترك النّاس تعبّر كما تشاء.. إنَّ ضبط الأمور بقواعد، تحدُّ من حرية التّعبير. إنّها نكسة للإبداع، و تجميد لطاقات المبدعين…
و كنت بطبعي ضد هذا التشجيع المجاني، الذي يتّسمُ بالفوضى، و التّمرّد على التَّوابث.. و كنت أريد أنْ أردَّ عليه ،و إذا بصديق له يأتي فشاركنا جلستنا و حوارنا.. الرّجل لا أعرفه، و لكنّه يعرفني من خلال كتاباتي. فانتهز فرصة وجودي، و أخرج من جيبه ورقة و قال مُبتهجا :
اليوم في قاعة انتظار طبيب الأسنان، ألهمتُ بنص في ال (ق ق ج). و لأوّل مرّة أكتب نصًّا دون أن أجري عليه تعديلا. و أظنّه كاملا مكمولا.. لعلّه يروق الأستاذ. فبدأ في قراءته.
ثمّ سلّم الورقة لصديقي الذي قرأها بارتياح ، فاثنى على ما قرأ الثّناء الأوفى. و سلَّمني الورقة لأقرأ بدوري ما تحتويه. ثمّ بعد الاطلاع أعدتُ الورقة لصاحبها دون تعقيب…و استمرَّ الصّديق في الثّناء، و تبيان مزايا النّص و مقارنته ببعض النّصوص التي قرأها لكتّاب غربيين..
الرّجلُ لم يهتم بذلك .. بل أخذ يتطلّع إلي، يُريدُ معرفة َرأيي. فشعرتُ بالاحراجِ يُحاصرني.. ففكرتُ في الانْصراف.. قبلَ أن أغرقَ فيما لا أريدُ. و لكنَّ الرّجلَ أحَسَّ بِرغبتي .. حينَ رآني أمْسح نَظّارتي، و أطْوي جَريدتي.. فقال على التّو:
ـــ الأستاذ لم يقل شيئًا عن النّص ؟
التَمستُ سبلَ الهَرب.. لأنّني أعرفُ نفسي جيّدًا: لا أجامل، و أكره المُجاملة.. و بخاصّة في النّقد.. فقلت :
ــ النّص يحتاج قراءة متأنية.. ثمّ أجده طويلا نسبيًّا : تسعة أسطر، لقد أصبح هكذا مشروع قصّة قصيرة. و أرى أنّه شَكلاً ..في حاجة إلى تكثيفٍ لغوي..
فقاطعني الرّجل:
ـــ أغتقدُ أنَّ الحجم ليس ضروريًا ..المهم الفكرةَ هل وصلتْ ؟
ـــ الفكرة قد تصل بمختلف الطّرائق و لا ضير . و لكنَّ الأهمّ كيف تصل. و ذاك ما نُسمّيه بالفـــن…
شعرت أنّ الرّجل بدأ يَمتعضُ، و يَتململ في مكانه، و قد غابت ابتساماتُ المجاملة عن محياه. فنظر صديقه و قال باعتزاز و استعلاء :
ــ لعلّ الأستاذ لا يعرف أنّني كتبتُ مجموعتين قصصيتين…و الثالثة في الطّريق… و لستُ قاصّا مُبتدئا على كلِّ حال..
فنظرني صديقي نظرة قراتُ من خلالها : “أن ْتلطف مع الرّجل .” و لكنّني تجاهلتُ ذلك و قلت:
ــ الإبداع تارة يحضر و تارة يغيب.. فمثلا عن نفسي، كتبت ُنصوصا تمنَّيتُ لو لم أتسرع في نشرها. بل ندمت أنّني نشرتها..
ففال الرّجل حاسمًا :
أرى أنَّ النّص لم يرقك كنص قصصي.
ــ، ليس المهم أن يروقني أم لا. إنّما المهم هل هو قصّة؟
ـــ كيف.. ألا تراه قصّة ؟!
ـــ أراه تقريرًا عن إنسان يتألّم من ضرس، و جاء لخلعه، و لكنّه يخشى كلاب الطّبيب، لو صيغ النّص صياغة قصصية، و تخلّص من التّقريرية، و بعض اللّفظ الزّائد ، و اعتمد التّركيز، و الايجاز.. لكان أحسن…
انتفض الرّجل في مكانه. و عاد صديقي لينظرني بنظرات فيها ما فيها من التّوسّل، عسّاني أتلطّف…و لكن الرّجل من ذات نفسه تدارك قائلا:
ــ لربّما هي الكتابة الأولى للنّص. لقد قلت لكما أنّني لم أنقّحه، و لم أعدّل شيئًا… سأعيد فيه النّظر…
ثمّ لزم الصّمت قليلا.. فودَّعنا و انصرف .
نظرني صديقي معاتبا و قال:
ــ يا أخي حرام عليك..! لا ترحم و لا تترك رحمةً تنزل.! كان عليك ان تقول له كلاما لطيفًا، و تجامله بالتي هي أحسن، و أن تتركه يَسعد بوهمه..ألم أقل لك أوّل ما جلسنا لنترك النّاس تكتب كما تشاء؟ و لكن ها أنت فعلت ما تشاء !
ـــ …………………………..؟!