نص الحوار الذي أجرته معي صفحة ” الهراديبية ”
حسام أبو أنس الساحلي إلى الهراديبيه
القصة القصيرة جدا في الممارسة العربية..
الحلقة : الثانية
ضيف الحلقة : الدكتور مسلك ميمون(له جزيل الشكر)
س ــ كيف تعرّف باختصار فن القصّة القصيرة جداً؟
ج ــ القصة القصيرة جداً فنّ سرديّ حديث، هو عبارة عن قصّة، تعتمد
الحكي أساساً، و تقدمه بصورة موجزة، و بلغة مكثفة إيحائية، تنتهي بخرجة،
تنفتح على مجال التّأمّل و التّأويل.. و قد تتقاطع (ق ق ج) دون تماهٍ و
الأجناس السّردية الأخرى في بعض الخصائص. و لكنّها تنفرد بلغتها، و نسقها، و
حجمها..
س ــ كيف تنظر للخصائص التي تميّز القصّة القصيرة جداً عن القصّة بأنواعها: (الرواية، القصيرة)؟.
ج ــ كلّما طرح هذا السّؤال إلا و كان الجواب مركزاً على الحجم.
و أرى أنّ الحجم خاصية من جملة خصائص أخرى، في مجموعها تكون ما نسميه قصّة
قصيرة جداً. ولكن التّميّز حاصل و لاشك ، و إلا كان الأمر مجرد تكرار مع
اختلاف الاسم ليس إلا. قد تكون الفكرة هنا و هناك واحدة. “الوفاء” مثلا. و
لكن الفكرة نفسها في نسقية الرّوائي تختلف عن نسقية القاص في القصة القصيرة
، و هي أشد اختلافاً في القصّة القصيرة جداً. و النّسقية المقصودة تعتمد
الإيجاز، بصورة مقصودة حتّى يصبح النّص في بضعة أسطر، إن لم أقل بضع كلمات.
و لتحقيق هذا بشكل فنّي، قصصي، بليغ ، و ممتع.. هناك عناصر تكوينية، تضمن
الأسلبة، و البنية.. ينبغي توفرها في القاص. حقاً كثير جداً من هذه
المكونات، هي عناصر مشتركة في باقي الأجناس والأنواع السّردية الأخرى و لا
غروَ في ذلك، و لكن الفرق بينها أن لكلّ جنس أو نوع نسقيته التّركيبية
(synthétique) التي تحتكم إلى سعة حجمه. و من هنا ينبغي لكاتب القصة
القصيرة جداً، أن ينصرف كلياً عن التّفكير في الرّواية، و القصّة القصيرة
..لأنّه بصددِ نسقٍ سرديّ مُختلف.
س ــ لوحظ خلاف بالرأي حول محددات الفن وما يمكننا نعته بالأركان، فكيف ترون تلك العناصر البنائية على أهميتها؟.
ج ــ الخلاف ظاهرة صحية و طبيعية ، إذ لا يُمكن أن ينتعش الإبداع في ظلّ
التّوافق التّام، و عدم الاختلاف.إنّما تبقى دائماً أشياء قليلة تشكّل
أساسيات و أركان البناء، بدونها سينهار كلُّ شيء، و هذه غالباً ما يكون
حولها إجماع: فلا ناقد يجادل في مسألة الحجم، و الاحتكام إلى كلمة ( جداً)
بمعنى كلّ ما هو دون حجم القصّة القصيرة و لا يشاكلها بنية، ولغة، و
تركيباً..ولا أحدَ يطالبُ بعدم التّكثيف اللّغوي أو إلغاء الإدهاش، أوعدم
خرق توقع القارئ ..
و تبقى هناك عناصر تكوينية تحفل بها القصّة القصيرة
جداً و من ذلك: الجملة الفعلية، التّراكب ،التّتابع، التّسريع، الانزياح،
الاستهلال ، الحبكة، العقدة، النهاية، الوصف المقتضب، الشّعرية، ضروب
البلاغة، المفارقة، التناص، الفانتاستيك، التبئير، الاتساق، الانسجام…. و
ما إلى ذلك، و الخلاف النّقدي ليس في توظيف هذه المكونات، إنّما في سوء
توظيفها…
س ــ هناك من يرى أن القصة القصيرة جداً هي القصّة
الومضة، وبعض النقاد يرون أنهما جنسان أدبيان متمايزان، فكيف تنظرون لدلالة
التعبيرين؟.. وكيف تفندون موقفكم؟.
ج ـ أعتقد أننا لسنا في حاجة
لكثرة الأسماء و المسميات و المصطلحات لأشياء قد تبدو لنا مستحدثة و
جديدة.. و هي في النصوص القديمة جداً شعراً و نثراً.
ما معنى الومض في
السّياق النّقدي ، أليس ذاك التصوير الفنّي العميق الخاطف، الذي يغنينا عن
الطول و الإسهاب؟ و هل الرّواية ينقص معظم فقراتها ومض بهذا الفهم؟ و هل
فقرات من القصة القصيرة تخلو من ومضّ؟ بل هل الشّعر و هو جنس آخر مختلف عن
السّرد يخلو من الومض؟ بل ماذا أقول.. هل بعض المشاهد من مسرحية ما، أو
فيلم سينمائي ما يخلو من الومض ؟ دعك من كلّ هذا.. هل الفن التّشكيلي يخلو
من الومض..؟
كلّ الفنون، و بدون استثناء، هي فنّية بومضها الفنّي.
فلماذا نأخذ جملة ما، أو جملتين و نطلق عليها ( القصّة الومضة) و الأدهى و
الأمر لا هي قصّة، و لا تتوفر فيها عناصر القص.. و فوق هذا تسلب كلّ الفنون
خاصية مشتركة ،و تتصف بها و كأنّها خاصيتها المميزة. و هكذا نكذب على
أنفسنا قبل غيرنا، فنخلق جنساً جديداً وهمياً من لا شيء..
أمّا الذين يعتبرون القصّة القصيرة جدا هي القصة الومضة. فهم لم يأتوا
بجديد فالقصّة القصيرة جداً منذ أنشئت.. أنشئت على أساس حجمها القصير، و
دلالتها المبرقة الوامضة، التي لا تقبل اسهاباً و لا اطناباً .. و بالتّالي
أصحاب ( القصة الومضة) أضافوا مسمى/مرادفا جديداً.و كأنّ خمساً و عشرين
اسما للقصّة القصيرة جداً في العالم لم يكف..
الجزء الثاني لردود د. ميمون مسلك:
س ــ يتفق النقاد على قيمة الكثافة في النص القصصي القصير جداً، ومن
الواضح أن هناك فروقات في تحديد مفهوم التكثيف للقصّة، فما هو مفهومكم لهذا
الركن البنائي؟.
ج ــ التّكثيف : معنوي و لغوي. الّنص الذي ينتهي
بانتهاء قراءته نص يعاني التّسطيح المعنوي، و هو أشبه بالرسالة العادية، و
المقالة الإخبارية..على عكس القصة التي تبدأ من نهايتها، و كأنّ كلّ ما
كُتب قبل الخرجة إنّما هو تمهيد وتوطئة لما سيدور في خلد القارئ، و هذا
دليل على أنّ المعنى كثيف ،عميق ، و يفترضُ تدبّراً، و تأمّلا، و لربّما
نقاشاً…لما يفترضه من تعدّد دلالي (Polysémie)
و لكي يكون المعنى
هكذا،فلاشك أنّه وليد لغة مكثفة أيضاً، لأنّ النتيجة من جنس العمل. و كثافة
اللّغة، لا تأتي من عدم، بل هي نفسها وليدة ضروب بلاغية، من مجاز، و
استعارة، و كناية.و إضمار، وحذف، و تقديم و تأخير..شريطة ألا يكون التّكثيف
غاية في حدّ ذاته، بل هو خاصية كباقي خواص هذا الفنّ المُجمل الصَّعب. و
تبقى قولة فيثاغورس عمدة في ذلك : ” لا تقل القليل بكلمات كثيرة، بل الكثير
بكلمات قليلة.”
س ــ يصرّ البعض على اعتبار القصصية أول ركن بنائي في
حين يرى الآخر الحكائية، فهل ترون فروقاً بين المصطلحين، وأيهما ترونه
الأنسب؟.
ج ــ البعض يجعل “القصصية” و “الحكائية” شيء واحد ، و في
حقيققة الأمر، (القصصية) مرتبطة دلاليا باللّغة ، فنقول: لغة قصصية .
تمييزاً لها عن اللّغة المباشرة ،أو العادية، أو المعيارية ، باعتبار أنّها
لغة فنّية، وظيفية، متميّزة…
أمّا الحكي أو الحكائية فهي وليدة
اللّغة القصصية و ما تعبر عنه، فلا حكي بالمفهوم الفنّي في غياب اللّغة
القصصية، و لا قصّة في غياب أحد الركنين البنائيين : لغة القصّ و الحكي.
فهما معاً مصطلحان متكاملان. الفصل بينهما، كجعل طائر يحاول الطّيران بجناح
واحد، و ما رأينا طائراً يفعل ذلك ! هذا من حيث التفصيل و إلا، الرّكن
الأساس هو الحكي باعتبار، لا حكي بدون لغة خاصّة هي لغة القص.
س ــ هل ترون تمايزاً بين لغة القصة الكلاسيكية والحداثية؟. وما هي لغة القصّة القصيرة جداً؟.
ج ــ اللغة القصصية متميزة، و مختلفة عموماً.لأنّ لها خصائصها التّواصلية ،
و الفنّية، و قد تطوّرت كثيراً عما كانت عليه في القصّة الكلاسيكية، و
السّبب في ذلك تنوع لغات الأجناس الأخرى و استفادة بعضها من البعض.. و
مادمنا بصدد القصّة القصيرة جداً.فلغتها أصبحت تلميحية، إيمائية إسوة بلغة
الشّعر، أو ما يُشاكل ذلك، تركز على ذاتِ الفعلِ و ذات الحالِ ، وِفقَ
تنظيم ترميزي شفري، وتوحّد مُعجمي ، صوتي ، صرفي، يجعل النّص قابلا
للتّحميل الدّلالي، و يُفسح المجال للتّخييل الشّاعري..
إلا أنّ البعض
بالغ في نسج اللّغة و فق الإمكانات التي تجعلها قصصية و ذلك منْ لغة حكي
قابلة للتّأويل..إلى لغة غرائبية (Instinctif) تعتمد الجمل المتقطّعة،
المُبهمة، و الكتابة الشذرية ، فتحتجب عن النّص معالم القصّة: من حدَث، و
عقدة /حبكة، و مفارقة، بله الخرجة، فيصبح النّص يعني أي شيء ..إلا أن يكون
قصّة.
الجزء الثالث لردود د. ميمون مسلك:
س ــ يرى البعض أن
الجراءة ركن من أركان القصّة القصيرة جداً، في حين يراها البعض تقنية من
التقنيات، فما هو رأيكم؟.. وكيف تفندون ذلك في مخالفة الرأي الآخر.س
ج ــ الفنّ عموماً بدون جُرأة، ليس فنّاً..بل هو عمل عادي. الجرأة عامل
أساسي في خلق المُفاجأة و الصّدمة، و في إحداث المُفارقة، و فسح مَجال
الخرجة.. و الجُرأة تكونُ في اقتحام المَسكوت عنه، و إثارة القضايا
الشّائكة، و طرق الثيمات الآنية…إنّ عدم توظيف جرأة فنّية معناه المكوث
في رحاب ( كان يا ما كان) و النّمطية الكلاسيكية ، و اجترار ما في التآليف
القديمة .. و لا سبيل للحديث عن نصوص حداثية.. و بذلك، فالجرأة رهينة بالفن
عموماً، و ليس القصّة القصيرة جداً فقط .
س ــ يتردد مفهوم الثنائية
اللغوية في بعض الدراسات الخاصّة بالقصّة القصيرة جداً، ماذا تقولون
بالمصطلح وهل هو من الأركان أم التقنيات، أم أنه لا يمتلك قيمة نقدية في
هذا الفنّ.
ج ــ لغة القصّة القصيرة جداً يستحسن أن تكون باللّغة
العربية الفصحى، ليتمكن كلّ مواطن عربي من فهم النّص ، و التّعامل معه،
أمّا إذا كان النّص خليطاً بين عربي و عامي و لو على صعيد الحوار..
فاللهجات العربية مختلفة، و أحياناً تكون محلية/إقليمية تخص جهة من القطر
العربي. فيصبح الفهم مُعضلة حقيقية..
و عموماً يبقى الازدواج اللّغوي
مجرّد تقنية. ينبغي ألا يطغى توظيفه، و حبذا أن يوظف عند الضّرورة فقط ،
كأن لا يجد القاص كلمة تعبر عمّا يريد إلا كلمة من العامية، و بخاصة في
الحوار.
س ــ من الملاحظ وجود نشاط مميز لمقاربات هذا الفن، فما هو
رأيكم بما ينشر على صفحات التواصل والكتابات الورقية؟. وما تجريه بعض
المجموعات من مسابقات بخصوص الفنّ؟.
ج ــ في الحقيقة، لست مطمئناً
كامل الاطمئنان لما ينشر في صفحات التّواصل. بل أحياناً كثيرة أشعر بضيق
كبير، و أنا أقرأ بعض النّصوص. و يؤسفني جداً ما يعقبها من عبارات الإعجاب و
الاستحسان المجانية..و غير المسؤولة ..التي لا تستند إلى ذوق فنّي، أو
معرفة بخصائص هذا الفن.
الشيء الذي يثير مخاوفي. فلا القاص في المستوى
ليكتب نصاً قصصياً، و لا القارئ في المستوى فيرمي كلماته الإعجابية كما
اتّفق . فيعتقد البعض الآخر الذي لم يجرأ على التّعليق أنّ التعليقات تحدّد
و تزكي معالم القصّة القصيرة جداً الحقيقية.. فإذا كتب فسيكتب مقلداً نصاً
ليس بقصّة .. فيتكرّر الإثم في غياب النّقد.. يؤسفني أن أقول هذا و لكنّه
الواقع المرير.
أمّا المجموعات و المسابقات.. فمن خلال متابعتي تبين لي
أنه ما دام ليس هناك نقاد و نقد بمعنى الكلمة.. مختصين في هذا الإبداع
الجميل ..يصبح من العسير الحديث عنها و عن مسابقاتها.. لأنّ القاص المبتدئ
ينبغي أن يستفيد من توجيهات نقدية مجدية ، و إن فاز نصه في المسابقة ، أن
يفوز عن جدارة و استحقاق، و أن يُقدَّم للقراء تحليل مفصّل عن النّص، يكشف
أحقيته بالفوز .. أمّا أن تعلن النتائج : فلان الرتبة الأولى، و فلان…
تكون الأمور غير جادة ..إن لم أقل اعتباطية .. بل أكثر من ذلك قد تخلق نوعاً من الغرور لدى بعض المبدعين المبتدئين..
عليك السلام والتحية العطرة