قراءة في ( ق ق ج) :” خصخصة ” للقاص زهير سعود / سورية
إنّ كتابة نصّ في مناسبة ما، و تحت تأثيرها ، و ما تفرضه من ضغط نفسيّ و إيحائيّ، يجعل الإنتاج في حالة من حالتين، إمّا أن يكون في مستوى الحدث الطّارئ، فيكسب القارئ دفقة شعور، و يعمّق ما لديه من إحساس و وعي.. و يحلّق بخياله أبعد ما يكون من تخوم النّص، حيث التّأمل و حسن التّأويل… و إمّا يكون نصاً لا يختلف في شيء عن تلك المهاترات الإخبارية، و الأقوال السّائرة بين النّاس..
بين يدي الآن نصّ للقاص زهير سعود :
خصخصة
كان عزرائيل يركض في شوارع الشتاء، فيهرعون إلى الحجر… حين قدم الصّيف عرّج إلى السّماء. كانوا قد سبقوه.. نصفهم بوجوهٍ شاحبةٍ، والآخرين أمعاؤهم مطبقة.
العنوان خصخصة : مصدر ” خَصْخَصَ ، و هو مصطلح اقتصادي، يفيد نقل تسيير إدارة مؤسّسة عمومية، و شؤونها المالية من ملكية الدّولة إلى القطاع الخاص.و ذلك وفق عملية بيع و شراء، بغرض تحسين الأداء و منه خصْخصَ الشّيء:أي جعله خاصّاً.
و يبدو العنوان و كأنّه مُقحم على النّص، و لا يَمتّ له بصلة، و لكن سنعود إليه لاحقاً.
ــ النّص : و يتكون من أربعة مقاطع :
1 ــ [كان عزرائيل يركض في شوارع الشتاء ]: المقطع مجازيّ بشكل واضح، تلميحيّ للموت / عزرائيل، الذي سَببه الدّاء القاتل المتفشي، وقد أخْبرَ عنه بأنّه يَركض، أي: إنّه ينتشر بسرعة في كلّ اتّجاه، مَن يُصبه يمته. إشارة لكثرة الضّحايا.و بخاصّة و الجو شتاء (شوارع الشّتاء)، إشارة لوقت ظهور هذا الوباء، و الذي كان أوّل مرّة في شتاء 2019 و استفحلَ شتاء 2020 في مدينة ووهان الصّينية.
2 ــ [فيهرعون إلى الحجر ] : واو الجماعة يعودُ على النّاس التي ركبها الخوف و الهلع.. لِما تراه من أثرٍ لهذا الوباء، الذي تفشى في كلّ أقطار الدّنيا، مُسبّباً كوارث اقتصادية، و نفسية، و ضحايا ..و بخاصّة مَن يعانون من أمراضٍ مزمنة. فالكلّ هرَع إلى الحجر الصّحي اتقاء العدوى، استجابة لأوامر السّلطات المَحلية. و خوفاً من أن يلاقوا مصير أناس في العالم، أصبحت أخبارهم تذاع في كلّ المحطات الإذاعية، و القنوات التلفزية.
3 ــ [حين قدم الصّيفُ عرج إلى السّماء.]: صيغة تلميحية، فقدوم الصّيف إشارة لانتهاء الوباء، بالقضاء عليه، أو الحدّ من انتشاره و سطوته. و الضّمير المستتر الذي أصله (هو) يعود على عزرائيل/ الموت. كإشارة على انتهاء مفعول الوباء..
4 ــ [ كانوا قد سبقوه.. نصفهم بوجوهٍ شاحبةٍ، والآخرين أمعاؤهم مطبقة ]: ذلك أنّه ما أن يتنفّس النّاسُ الصّعداء.. حتّى يُصدموا بالخسائر الفادحة التي خلّفها الوباء. إذ الكثير من أحبائهم سبقت أرواحُهم عزرائيل إلى السّماء.. شاحبة و جوههم، منطبقة أمعاؤهم مما عانوه من وطأة الوباء.
دلالة العنوان و صِلتها بالنّص ، تبقى محلّ تأويل، و اجتهاد..فمادمنا علمنا صلة العنوان كمصطلح اقتصادي بالتّنازل عن ما هو عام لما هو خاص. فمسألة الوباء كانت عامّة في الصّين، و هَمٌّ يُساورُ الشّعبَ و حكومته. حيث هناك ظهر الوباء أوّل مرّة. و لكن بعد أن عمَّ و أصبح متفشياً في كلّ أقطار العالم أصبح الشّأن خاصّاً بكلّ قطر، يتدبّر أمره، سواء بتقليد الصّين بحجرها العام و بخاصّة للمناطق الموبوءة. أو يُبقي على الحجر الجزئيّ. و قد يكتفي بإمكاناته الخاصّة، أو يستنجد بغيره. فالأمر أصبح يَخصّ كلّ قطر، و سياسته، و رؤيته في التّعامل الصّائب مع هذه الجائحة.. كما أنّ العنوان قد ينفتح على قراءات أخرى..
ــ فنّيـــاً :
1 ــ توظيف اللّغة المجازية (figurative language) و هي أنسب للقصّة القصيرة جداً. لأّنّها تحافظ على مستوى الإيجاز، و تمنح لمسة من التّكثيف اللّغوي، و تفسح المجال للتّخييل، كالمقطع الأوّل: [كان عزرائيل يركض في شوارع الشتاء ] و هي في ذلك عكس اللّغة المعيارية.
2 ــ توظيف اللّغة الدّلالية ( referentical language) و هي على عكس اللّغة المجازية لا تفتح مجال التّخييل على مِصرَعيه، بقدر ما تستدعي معلومات المُتلقي لتتمّة تركيبها، و توضيح معناها. بمعنى أنّها لغة عرفت حذفاً فنّياً، حتّى أنّ الفيروس القاتل (كورونا) لم يذكر إلا تلميحاً، فأصبحت دلالة الجمل رهينة باستدعاء ما حُذف منها. و من صياغتها.. و النّسق الذي جاءت عليه في النّص، يسمح لها رغم ذلك أن تكون لغة دالة كالمقطع الرّابع و الأخير :[كانوا قد سبقوه.. نصفهم بوجوهٍ شاحبةٍ، والآخرين أمعاؤهم مطبقة ] نلاحظ تلاحق الضمائر: (سبقوه ــ نصفهم ــ أمعاؤهم ) إشارة للحذف، و تجنباً للتّكرار، و محافظة على الإيجاز و التّكثيف اللّغوي..
3 ــ البناء المنطقي ( Logical from) اتبع القاص طريقة السّبب و النّتيجة: (cause and effect) و هو أسلوبب متّبع في كلّ الأعمال السّردية. إذ لا نتيجة بدون سبب. إنّما هنا يبدو الأمر و كأنّ القاصَّ بدأ بنتيجة ليصل إلى نتيجة النتيجة. فالوباء لا يأتي من ذات نفسه إن لم تكن له أسباب داعية لوجوده. و ما دام الأمر واضحاً في ذهنِ المتلقي فضّل القاص أن يبدأ النّص بالوباء مُباشرة متضمناً سببه فكان البناء:
السّبب: ( الوباء / عزرائيل/ الموت) ←← (كان الحجر)، (النتيجة ): ←← (ضحيا).
4 ــ الرّمزية (Symbolism)
لعلّ من جودة الأساليب الرّاقية ، التي تساعد على التّكثيف و الاختزال، و الإيحاء.. الأسلوب الرّمزي..حقاً هو أسلوب نخبوي، و لا يطيق فهمه عامّة القراء.. و لكن القاص في هذا النّص، وظّف رمزاً لغوياً، و تحاشى الرّموز الأسطورية، و التّاريخية،كالرّمور :الإغريقية و البابلية، و الآشورية ،و الفرعونية …و الرّمز اللّغوي يُفهم من خلال سياق النّص، ثمّ هو أقرب للتّداول العام. و من ذلك:
ــ عزرائيل : ملك الموت، أو المكلف بقبض أرواح البشر. و هو هنا الموت نفسه.
ــ شوارع الشتاء: رمز الصّقيع و البرد الذي يجتاح البؤر الموبوءة ، علماً أنّ الفيروس القاتل ينتعش و يتفشى في الأماكن الباردة و الرّطبة و لهذا جاء التّنصيص على فصل (الشّتاء).
ــ الحجر : رمز الوقاية من العدوى و انتشارها، لذلك أصبحت شوارع المدن خالية من سكانها، الكلّ ينشد السّلامة، و يحتمي بجدران بيته..و كأنّه الفزع الأكبر.
ــ الصّيف : رمز انقشاع الغمة.و انحسار أثر الفيروس، و التماثل إلى الشّفاء.. علماً بأنّ الفيروس القاتل لا يمكنه التّعايش مع الحَر، أو ارتفاع الحرارة. لذلك أحسّ عزرائيل/ الموت، أنّ مهمته من خلال الفيروس انتهت فـ ( عرّج إلى السّماء ).
ــ وجوه شاحبة: رمز لما أحدثه الفيروس من اختناق لضحياه، و بخاصّة كبار السّن و المصابين بأمراض مزمنة. فالاختناق عِلميّاً: نقص حادّ في الإمداد بالأكسجين، الشّيء الذي يؤدّي إلى تنفس غير طبيعي. بسبب ارتفاع ثاني أكسيد الكربون في الدّم فتُمنعُ الخلايا من القيام بوظائفها، و تتضرّر الأنسجة و الأعضاء، و بالتّالي تصبح البشرة شاحبة ..
ــ أمعاؤهم مطبقة: رمز لحالة أخرى يُسبّبها الفيروس القاتل، و هي عارض من عوارضه.. إذ المصاب لا ينفك يقيء و يقيء.. فكأنّ لا شيئ يبقى في أمعائه، فتصبح ملتصقة ببعضها البعض، و كأنّها منطبقة..
5 ــ نَحوُ الجملة ( Sentence grammar) : فالقاص زهير سعود لم يحفل بالجمل الفعلية فحسب، كما هو شائع في هذا الجنس، و إنْ كانت قد هيمنت [ كان، يهرعون، عرج، كانوا ] و ربّما هذا مؤشر على الحركية و الديناميكية التي انتابت العالم خوفاً و اضطراباً. و لكن فضلا عن ذلك جاء بشبه جملة : [ حينَ قدم الصّيف] فحين ظرف زمان، و قد تضاف إلى مفرد مبني مثل : حينئذ ،فيجوز أن تكون مبنية على الفتح في محل نصب على الظرفية الزّمانية . كما وظف النّص الجملة الاسمية :[ نصفهم بوجوه شاحبة] و [ الآخرين أمعاؤهم مطبقة]، و ربّما في ذلك إشارة للسّكون و الهدوء الذي انتاب المدن في مختلف الأقطار، بسبب الدّعوة للحجر الصّحي ، فالجمل الاسمية على عكس الجمل الفعلية تعبّر على الأحوال و الأشياء السّاكنة.
6 ــ القدرة الإبداعية ( Creativity)
النّص يصبح في إطار الإبداع حين يمتلك البنيتين: البنية السّطحية التي قد يدركها أيّ قارئ عادي، و بنية عميقة ليست في مستوى القارئ العادي،و لا يمكن أن يسبر أغوارها، و لا أن يفهم دلالتها، أو يستنتج أبعادها و مراميها.و هذا النّص من هذا النّوع، رغم أنّه يبدو بسيطاً،و لربّما واضحاً.
فالبنية السّطحية (Surface structure) تكشف النص سطحياً من القراءة الأولى: الموت الذي يشكله فيروس الكورونا يجول الأقطار الباردة، و النّاس يلجؤون إلى الحجر الصّحي، و حين أقبل الصّيف انحسر الوباء. و عاد ملك الموت إلى السّماء ليجد أرواح الضحايا قد سبقته إلى هناك، نصفهم بوجوه شاحبة و الباقية بأمعاء منطبقة.
بهذه القراء تتحدد البنية السّطية، التي تجعل النّص يبدو عادياً.
و لكن البنية العميقة ( Deep structure ) على خلاف ذلك، تساعد على الغوص في عتَمة النّص. و الذي ساعد على ايجاد هذه البنية عبارة ” الخرجة ” التي مفادها : ( كانوا قد سبقوه ) إشارة لكثرة الضّحايا، في وقت وجيز. و دلالة واضحة على مدى خطورة الفيروس الذي انطلق من عُقاله كالوحش الكاسر (يركض في شوارع الشّتاء) مُسبّباً ضحايا في الأنفس، وركوداً في الاقتصاد، و توقفاَ في مجال التّعليم، و الطيران و النقل عموماَ، و منعاً لكلّ التّجمّعات، و فرضاً للحجر الصّحي..
و يبقى السّؤال : لماذا لم تتخذ دول العالم حتّى العظمى و المتقدمة منها احتياطاً لمثل هذه الجائحة ؟! لماذا لم تأخذ حِذرها و تستفيد من حادثة كحادثة تشرنوبيل و غيرها ؟! لماذا كان الاهتمام كلّه منصباً على مجالات تخصّ فئة اجاماعية محدودة.. و أهمل ما يخصّ الجميع كالصّحة و دعمها ، و التّعليم و تطويره ، و البحث العلمي و الرّفع من شأنه؟!لماذا كان كلّ ذلك الاطمئنان و الارتياح ..و لم يكن هناك حذر أو تخوّف من خبايا المستقبل المتوقعة في أيّ لحظة ؟! ألا يدعو ما حدث إلى تغيير وجهة نظر العالم للأولويات، و ما يجب، و ما ينبغي ؟
فإذا أثار النّص بفنّيته، و طريقة كتابته.. فقط هذه الأسئلة. كان نصاً ناجحاً و حقّق عمق الوعي بما حدثَ و يَحدث.
فهنيئاً للقاص زهير سعود بهذا النّص الذي هو مناسباتي،يخص جائحة الكورونا و لكن مع ذلك جاء بتصوّر فنّي فارق، يُثير التّساؤل، بل و يحثّ على التّأمّل.. لا في الحدث الذي سبب صاعقة، والذي قلب الموازين، و تحدى الحدود و الموانع.. فقط .و لكن لما يتركه في أعماق المتلقي من أسئلة حول العالم ، و كيف سيكون بعد هذه النّكبة الوبائية .