ما قبل السّرد:
“الشيزوفرينيا ” مجموعة قصصية نفسية للقاص : علي قويدري
لقــد
شهد الثلث الأوّل من القرن العشرين ميلاد القصّة القصيرة الجزائرية، تأثراً
بالكتابات القصصية الأجنبية، و الفرنسية بخاصّة، أوالنّصوص المترجمة فضلا عن بعض
الكتابات التي كانت تصل من مصر، و لبنان، و سوريا…
فكانت
المحاولات الأولى تعتمد أحداثاً معيشية يومية ،ذات طابــع اجتماعي، الذي استغرقها
طويلا ..كالذي نجده في قصص أحمد رضا حوحو، رائد القصّة القصيرة فيما قبل الاستقلال.
و حين بدأ الوعي التّحرّريّ يسري في مفاصل المجتمع. بدأتِ المُزاوجة بين الاجتماعيّ،
و مبادئ الثّورة التّحرّرية من ربقة الاستعمار الفرنسي.
حقّاً البداية كانت متعثرة، لعدّة أسباب و إكراهات ذاتية وموضوعية. ولكنّها
استطاعت أن تواكب سنوات الثّورة. إلا أنّ البداية الحقيقية كانت بعد الاستقــلال
عام 1962، و ذلك بالاهتمام بالتّعريب، وإرسال بعثات الطّلبة
للشّرق العربيّ، حيث تمّ الاحتكاك المباشر بكلّ أصناف الأدب، بما في ذلك القصّة
القصيرة. فظهر جيل التّأسيس من أمثال عبد الحميد هدوقة ،و الطّاهر وطّار، وزهور
ونيسي، و عمار بلحسن، و جيلالي خلاص..
إذ تعدُّ الثلاثة عقود بعد الاستقلال، من أزهى محطّات القصّة القصيرة في الجزائر كتابة ، و نشراً، و قراءة، و نقداً، و يكفي أن نذكر “ملتقى القصّة القصيرة ” في مدينة سعيدة و كيف كان عرساً ثقافياً للقصّة وقراءتها،ونقدها، وعرضٍ لانتاجاتها، وملتقى لمبدعيها..وإلى حدود عقد الثّمانينيات بقيت القصّة القصيرة في الجزائر محافظة على المضامين الاجتماعيّة، وبعضها كان متأثراُ بإديولوجية السّلطة، و بعضها الآخر ينحو منحى ذاتياً ..إلا أنّه بعد ذلك، أي في عقد التّسعينيات بدأت أساليبها تختلف لاعتماد البعض منطق التّجريب، و الاستفادة من الحداثة، و ما بعدها.كمثل عيسى شريط السّعيد، بوطاجين، عزالدين جلاوجي، الخير شوار، محمد بغورة، عيسى بن محمود، السّعيد سلوم، والطيب طهوري.. للأسف، لم تواكبْ هذه التّجربة مُتابعة نقدية هامّة ، إلا من بعض التّعليقات والتّقاريرالصّحفية لم تفيها حقّها من الدّراسة، لتبين أهمّ شروطها،و اختلاف مضامينها، و أساليبها.. في تطورها و نموها من خلال محطّاتها، كما حدث في الرّواية التي استقطبت بشرهٍ أقلام القاصّين والقاصّات و الأقلام النّقدية، لاهتمام دور النّشر بها، و احتفاء الدّراسات الأكاديمية، فضلا عن الجوائز الإقليمية و الدولية..كجائزة : البوكر..
ورغم ذلك، فالقصّة القصيرة الجزائريّة، اسْتعادت بريقها، وتوهّجها مع السّنوات القليلة الأخيرة، بفضل جهود وعطاءات بعض المهتمّين بها، من أمثال نوالدين مبخوتي، و عبد القادر الزّيتوني، و جيلالي عمراني ، وعبد الكريم ينّينة وعبد القادر ضيف، وعبد الوهاب بن منصور، وحسين علّام ، وحفيظة طعّام وجميلة طلباوي ، ونسيمة بو عبد الله. وسعدي صباح…
و لكن في كلّ ما اطلعنا عليه، كان الجانب النّفسي في القصّة القصيرة الجزائرية خافتاً، كما هو الشّأن في مجموع القصّة العربية، إذ يأتي ذلك عبر السّرد كإشارات ، و تلميحات ، لا يتنبه إليها إلا ناقد مُتفحص، لأنّ قصدية الكتابة غير معقودة في هذا الاتجاه .عكس ما نجده في الرّواية .إلاّ أنّ الاهتمام بالقصّة النّفسية بدأ يشعّ مع نهاية عقد الخمسينيّات و بداية عقـد الستينيّات، و بخاصّة مع كتابات المصريَين: القاص أبوالمعاطي أبو النّجا، والقاص إبراهيم سليمان حدّاد/ ( ابراهيم المصري)، و قد استفادا من الكتابة القصصية الغربية كقصص الأمريكي إرنيست همنغواي، و الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس … فالقصّة النفّسية / السيكولوجيــة تعتمدُ التّركيز القصــديّ على كـلّ ما يتعلّق بنفسية الشّخصية : كالسّلوك، المشاعر، الرّغبات ، الميول،النزوات، العقلية، القلق ،المواقف، الأحلام، الآمال، الجنس، الإيجابيات، السّلبيات …
هذا الاهتمام واكب القصّة، و قبلها الرّواية، منذ فجر كتابتهما. إلا أنّ النّقد الغربيّ ركّز على هذا الاتّجاه كمنهج نقديّ أواخر القرن التّاسع عشر، مع ظهور النّظريات الحديثة في علـم النّفس، و انتشار نظريات سجموند فرويد حول الشّعــور و اللاشعــور، و تدعيم كلّ ذلك بأبحاث و دراسات تلاميذه مثل كارل غوستاف يونغ ، الشيء الذي أكّد أنّ الإنسان بشعوره و لا شعوره، و لا يمكن العيش بدونهما بشكل طبيعيّ. فكان لزاماً على القاص الذي يُعْنى بالقصّة النّفسة بخاصّة، أن يَسبرَ نفسية أبطاله، وأن يَستنطق و يكشف مشاعرهم، و ذهنياتهم في شكل مونولوج داخلي.
فحين تظهر مجموعة القاص علي قودري :” الشزوفرينيا ” في هذه الفترة إنّما لتساير الرّكب في نسقية التّجديد، و الابتكار، في هذا الجنس السّردي الجميل. و عنوان المجموعة يحيلنا على عوالم النّفس التي اتّسمت بالغرابة و العجائبية منذ أن اكتشف بعض سراديبهـا المظلمة الأولى، جسموند فرويد .
فالشيزوفرينيا”Schizophrenia” مرض انفصام الشّخصية، سمّاه الطّبيب النّفسيّ الألمانيّ كربليــن عام 1896م اسم “الخَرفُ المُبكر”، أمّا تسميته الأخيرة فتعــود للطبيب النّفسي السويسري يوجن بلوير (1857-1939) عام 1911م. و هو مصطلح مركب من كلمتيــن “Schizo” ومعناها الانقسام و ” Phrenia ” ومعناها العقل .
يتسبّب المرض في ضعف التّرابط الطبيعيّ المنطقيّ بالتّفكير ،ومن ثمّ السّلوك والتّصرّفات والأحاسيس وما يُصاحبها من تهيؤات، وأوهام، وهلوسة ، و شعور بالعظمة…و كلّ ذلك لا صلة له بالواقع، ولكن ينعكس لا محالــة على حياة المريض، فيجعله ينعزل تدريجياً عــن المجتمع والحياة، في ظلّ شخصيتين مُختلفتين.
هذه الازدواجية الانفصامية الخِلافية المتناقضة التي تشكّل مُفارقة في المجموعة بدأت من الاهداء: ” إلى أبي الذي عاش صامتاً ورحل صامتاً ..إلى زوجتي وكل أبنائي، ما أكثر ما قلت وكأنك لم تقل شيئاً…” العيش ليس هو الرّحيل ، وصمت العيش ، ليس هــو صمت الرّحيل. و كثرة القول، ليست هي بالضّرورة عدم القول! نفس المفارقة الضدية نجدها في نص “جريمة حي الحديقة” البطل يرغب في دراسة الأدب و الفلسفة، أبوه الدّركي المتقاعد يريده أن يدرس القانون ليصبح مفتشاً في الشرطة إعجاباً بالمفتش كلومبو، و محقق روايات أغاثا كريستي.والنّص يحتوي مجموعة من الكلمات التي أصبح بعضها في القاموس النّفسي : [ هوسي بالأدب،الخوف والهلع، أصواتهم وسيمات وجوههم مرايا تعكس ذواتهم،هستيريا، عشت عقدة أوديب لعلّك عشت عقدة ألكترا، كان غريباً في أقواله وأفعاله.. هاملت لم يكن هكذا ..كما حدثني عن جنون تاس، واكتئاب سويفت، وهذيان روسو، وانتحارهمينغـــواي وجنون نيتشه، ومثلية صاحب الدون كي شوت ميغيل دي سيرفانتس ..كــان يقــرأ لي أشعاراً، غريباً ويحدثني عن فلسفة الحلول ،وأنه غير هذا الذي أراه.. شخصية مركبــة وذكية، وكان هَملت يَسكنني، كعباش انتحر، ذاكرتي تحتاج إنعاشاً ] هذا الكم من الكلمات ، في قصة بوليسية تفتح الباب مشرعــاً على القصّة النّفسية، التي لم يُهتم بها في سَردياتنا العربية و بخاصّة في القصّة القصيرة ،العناية التامّة، إلا أن يأتي الهاجس النّفسيّ في شكل مقاطع هنا و هناك بدون قصد أو تركيــز.
في نص “الشيزوفرينيا ” يجد المتلقي نفسه أمام شخصية مركّبة ، تعكس بعض أعراض المرض، و إن كان القاص جعلها و كأنّها تشعر بهذه الازدواجية أو التّعددية النّفسية. علماً أنّ المريض النّفسيّ، لا يُدرك حالته و غرائبيتها، بل على العكس يعتقد نفسه سوياً و كلّ ما حوله مخالف لما هو عادي و طبيعي . و لربّما سلك القاص هذا المنحى إشعاراً للقــارئ بالانفصام ، الذي يتجلى في:
1ــ التّهيؤات و الهواجس:” أتملّى وجوه المارين..أتحسّس دواخلهم ..أحسبني فرويد اكشف عقدهم وأعلن عن اللّوبيدو القابع فيهم والمحرك الرّئيسيّ لنظراتهم..يعتريني شعور أنّ هؤلاء الذين يسكنون أجسادهم ويمرون تركوا عقولهم في أمكنة شتّى ولغايات أخرى وما هم إلاّ أشباح..”
” يصل مسمعي طقطقة حذاء نسويّ.. ألتفت آلياً للصّوت دون أن أهتم للوجه..جسم يرتدي ملابس مدرسية..يقف بيني وبينها نزار قباني وهو يردّد إلى تلميذة ..أمارس معها لعبة أدمنتها يومياً..أراقبها وأمشط كامل جسدها من بعيد وحين تقترب أغض الطّرف فأبصر عنترة يصيح مستهزئاً منّي أغض الطّرف “
“يبصق جسمٌ قربي ماراً دون اعتذار وأنا أشاهد جموعاً منهن في أقصى الشّارع..”
” يخالجني إحساس يعيدني إلى أصلي البدوي..أسمع صوت ابن خلدون يرعد من مغارته البعيدة “إذا عُرِبتْ خُربتْ”. “..يقاطعني صديقي جواد ونحن في غرفة بالسكايب (هو لا يقصد اللغة بل يقصد الطباع ياصديقي..)”، ” يوقظني جسمٌ آخر رمى بعقب سيجارته دون اعتذار .”، ” جسم آخر يقود سيارة يلعن صبياً كاد يدهسه.” ، ” كلّ الذي خبأته في غيابات الجبّ العتيد تلتقطه تفضحه الأجسام المارة من هنا ..”
2 ــ ما يَكشفُ
التّهيؤات والهواجس:
سكت الاسكافي وليس من عادته أن يتوقف عن الكلام…ينظر إلي ملياً رفقة جسمين دخلا دون
شعور منّي…تأمّلتهم بدوري حائراُ (- ماذا هناك يا صديقي فلتكملْ حديثك ..)
ترجّاني الاسكافي كما يترجّى مريدٌ شيخه..راودني ذهول أنّ كلماتي وأفكاري التي كانت تتصارع بداخلي خرجت للتّو فحنطتهم و فضحتني ..فإذا بي أنا مَن كنتُ أتكلّم والكلّ صامت…سألته (- منذ متَى وأنا أتكلم؟!) ، ( – ههههييه يا صديقي من زمن طويل طويل جداً جداً ولكن ما أكثر ما قلت وكأنّك لم تقل شيئاً..) ، ( – ومنذ متى وأنتم جميعاً هنا ومتى دخلت يا مالك بن نبي.؟! )
لوح الاسكافي بيده محاولا أن يعرف هل أنا في كاملِ وعيي أم أنّ مسّاً تملّكني..
انفجرت ضاحكاً تجتاحني رغبة في الجري ورغبة في النّوم…ورغبة في أن أكون كائناً ورقياً أو رقمياً خير من أكون جسماً لا هوية له..
3ــ الإحساس بالعظمة الكاذبة ، أو ما يسمّى في علم النّفس Megalomania” جنون العظمة، إذ قال بعد قتله لثلاث نملات .
” قتلتُ واحدة ثمّ الثانية ثمّ ثالثة ..أحسستني نيرون في هذه اللّحظة لأنّي قادر أن أحرق الكون… ”
4 ــ ما له علاقة بالحالة النّفسية : ” أعود لفرقعة أصابعي(1)، ..يتحرك مجدداً ذلك الذئب الجائع داخلي، أعود لفرقعة أصابعي.(2)، ” اشتاق أن أخرج من هذا الجسم الذي ألبسه الآن” ،” هل يمكن أن أكون ثلاثة في واحد؟ كائن ورقي وكائن رقمي وجسم لا هوية له هنا بين أزقة قريتي وبين أهلي؟!
5 ــ توظيف المُزاوجة الانفصامية كمُفارقة فكرية:
” تذكرت حين مات ابن فرناس محاولا الطيران تساءل علماؤنا هل مات شهيداً أم منتحراً وتساءل الغرب هل يمكن لنا الطيران ..تذكرت أستاذنا يقول تخيلوا لو وقعت التّفاحة على جسم من هاته الأجسام فإنّه سيأكلها ويكمل نومه، ولكن الحمد لله أنّه كان نيوتن…تذكرت برناردو شو وهو يقول هناك أناس يصنعون الأحداث وهناك من يتأثرون بها وهناك أناس لا يرون ما يحدث لعلّه يقصد هذه الأجسام….تذكرت برتنارد راسل وهو يقول مشكلة العالم أنّ الأغبياء والمتّشددين واثقون من أنفسهم أمّا الحكماء فتملؤهم الشّكوك ..يجيب أحمد زويل الغرب يشجعون الفاشل حتّى ينجح ونحن نهمّش النّاجح حتّى يفشل….”
و الأمر ينسحب على جلّ نصوص المجموعة ما يجعلها متميّزة، في كتابتها، واختيار نسقها ، و تنوع تيماتها …الشّيء الذي سيثير التّفكير و التّأمّل في نفسية الشّخصيات بل و في عوالم النّفس التي كانت ومازالت تتّسم بالغرابة..وبذلك ستقتحم مجموعة “الشيزوفرينيا ” للقاص علي قويـدري عالم القصّة القصيرة النّفسية، وستكون علامة بارزة في هذا الاتّجاه، الذي مازال بِكراً في القصَة العربية. كما ستعلن ميلاد قاص بارع متمكن، يَعِـد بالعَطاء الأوْفى في هذا المَجال.
د مسلك ميمون
شكرا جزيلا دكتور مسلك..سعدت جدا بقراءتك المميزة لنصوصي..
دمتم لعالم النقد ..
محبتي