حوار مع الباحث والكاتب العربي (الدكتور جميل حمداوي)

حاوره الباحث العراقي حيدر الأسدي

د جميل حمداوي

1- بداية كيف تختصر سيرة حياتك الأدبية والثقافية لجمهورك؟

جميل حمداوي ناقد مغربي، يشتغل ضمن رؤية موسوعية، من مواليد مدينة الناظور بالمملكة المغربية، أمازيغي الهوية، غيور على وطنه وأمته العربية الإسلامية. كتب مجموعة من المؤلفات والكتب الورقية والإلكترونية في مجالات علمية ومعرفية متنوعة.

2- كتبت أكثر من 500 كتاب في مختلف فنون الكتابة؟ إلى أين تريد أن تصل يا دكتور جميل؟

سؤال وجيه وسديد، فالإبداع يتحدد كما وكيفا، وإن كان الكيف والنوع أهم من الكم. لذا، وجدتني أكتب في مواضيع شتى، وكلما وصل البحث الذي كتبته خمسين صفحة أو أكثر من ذلك حولته إلى كتاب، ثم نشرته في موقعي (موقع الثقافة للجميع) لكي يطلع عليه الطلبة والباحثون والمدرسون. وأنا على يقين أن القارئ العربي يفضل الكتب القليلة الحجم لتساعده على القراءة واستيعاب فكرة المكتوب.
فعلا، لقد كان الكتاب القدامى كالسيوطي وابن حزم وغيرهما يكتبون مؤلفات عدة. لذا، أردت أن أسايرهم في ذلك قدر الإمكان إن استطعت، وبتوفيق من الله، وبفضل منه سبحانه وتعالى، قد يكون الهم الكمي يراودني أحيانا، ولكن هم الكيف هو الذي يثيرني ويحفزني على البحث عن الجديد. لذا، انتقلت، في مسار حياتي، من مرحلة الاتباع والتقليد عندما كنت طالبا في فترتي الماجستير والدكتوراه إلى مرحلة التجريب والمغامرة والتجديد. والآن، أفكر أن أتجاوز الكم إلى الكيف، بالبحث عن الجديد على مستوى النظريات والمقاربات والمناهج والمعارف بإذن الله تعالى. وقد قررت أن استمر في الكتابة إلى أن يأخذ الله وديعته وأمانته. وأرجو أن يكون عملي في سبيل الله، وليس رياء أو تكبرا أو افتخارا، ويكون في مرضاة الله وتوفيقه، وخدمة لوطني وأمتي.
إذاً، فالهدف الذي أرومه من وراء كتاباتي هو توعية المتلقي أو القارئ المفترض، وتنويره بما استجد في الساحة الثقافية الغربية والعربية على حد سواء. وأعترف بأني بدأت بكتابات تعريفية وتحليلية وتاريخية بسيطة. وبعد ذلك، انتقلت إلى التفكير في الجديد، والبحث عن مشاريع حداثية نظريا وتطبيقيا لإيصالها إلى المتلقي بطريقة سهلة واضحة. ومن ثم، فقرائي متعددون ومتنوعون، فهم تلاميذ، وطلبة، ومدرسون، وباحثون، وأساتذة أكاديميون، فأكتب لكل فئة على حدة، وأختار الأسلوب الصالح الذي يلائم كل فئة، دون غموض أو إبهام أو تعقيد. ومن ثم، فرسالتي ثقافية محضة، مبنية على تزويد المتلقي بمعرفة خلفية موسوعية، وهي متعددة المقاربات والاختصاصات، تساعده على التفكير الجاد، والنقد البناء، والتطبيق المستحدث، بغية التعامل مع النصوص والقضايا من منطلقات منهجية جديدة.

3- هل الكاتب العربي يسعى لتلبية متطلبات أناه ونرجسيته أم يسعى لاستهداف الجمهور في كل ما يكتب؟

ينبغي للكاتب العربي أن يسعى إلى خدمة الجمهور فيما يكتبه وينتجه من المعلومات والمعارف. وهذا هو الهدف الحقيقي من الكتابة. وأنا أكون سعيدا عندما يخدم كتابي تلميذا أو طالبا أو باحثا، فأكون مبتهجا بذلك؛ لأني حققت هدفا معينا يتمثل في توصيل معلومات ومعارف جديدة أو قديمة بأسلوب بسيط وواضح إلى أكبر شريحة من القراء العرب. فهناك الكثير من المعارف الأجنبية التي تحتاج إلى من يبلغها إلى المتلقي العربي. وهنا، يتجلى دور الباحث العربي في تسهيل عملية النقل المعرفي وتبسيطها عن طريق الترجمة والتعبير عنها بلغة واضحة ومبسطة ومفهومة. وهذا ما أفعله في كثير من مؤلفاتي وأبحاثي ودراساتي المتواضعة.
ولكن النرجسية تحضر بطريقة واعية أو غير واعية. فالكاتب العربي لا يكتب لنفسه، وإنما يكتب للجمهور. وبطبيعة الحال، يُعجب الكاتب بتشجيعات القراء وتعليقاتهم الإيجابية، فتتولد لدى الكاتب نوع من النرجسية اللاشعورية الناتجة عن الشهرة والمكانة العلمية بين الناس. ولكن لابد للكاتب العربي أن يضع بين نصب عينيه أنه يخدم الجمهور بعيدا عن خدمة أناه. بمعنى أن يذلل ذاته وأناه لخدمة المتلقي العربي، ويقوم بدور المدرس والأستاذ وجامع المعلومات ليبلغها إلى المتلقي بالسبل الكفيلة والسهلة.
وقد يُفهم مما أكتبه، وبهذه الغزارة في الإنتاج، أن ذلك من أجل إثبات الذات، أو من أجل تحقيق الشهرة، أو من أجل الظهور، أو لميل نرجسي أو سادي أو مازوشي، أو لهدف تنافسي، أو لإثارة الغير من أجل الانتباه إلى هذا الباحث المسكين. فالدواعي والأسباب كثيرة كما يراها الآخرون. يمكن أن تكون تلك الدواعي صحيحة بحال من الأحوال، ما دمنا ذواتا بشرية ضعيفة، قد ينخرها الإعجاب بالذات، أو تنساق وراء الغرور والتكبر والخيلاء، ونعوذ بالله من هذا كله…
بيد أن هدفي هو إخراج مجموعة من الكتب القديمة ونشرها بسبب قلة الإمكانات لطبعها ورقيا. والهدف الثاني هو تقريب كتبي ورسائلي ودراساتي وأبحاثي من التلاميذ والطلبة والباحثين والمدرسين بأبسط الوسائل الممكنة. لذا، اخترت النشر الإلكتروني وسيلة ناجعة لتعريف القراء بإنتاجي المتواضع. ويعد الفايسبوك – اليوم- أداة تواصلية فعالة لخلق نوع من التفاعل المباشر وغير المباشر مع الراصد المتقبل لتبادل الأفكار والمعارف والبيانات. وأكتب كذلك طمعا في صدقة جارية تنفعني بعد موتي، إذا رضي الله – فعلا – عن ذلك العمل.

4- هل أنصف الباحثون منجزك الابداعي والبحثي؟

مازلت لم أتثبت من ذلك بشكل جلي وواضح، فهناك بحوث الإجازة ورسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه التي تناولت كتبي بشكل مباشر أو غير مباشر. فهناك من تعجبه كتاباتي، وهناك من لا تعجبه. وهذا شيء طبيعي. وهناك من الناس من يحاكم الشخص، ولا يحاكم العمل. ولكن كتاباتي ومؤلفاتي تُدرس في بعض الجامعات العربية كالجزائر، وتونس، والسعودية، والعراق…، وقد ترجمت بعض كتبي وأبحاثي إلى الكردية، والفارسية، والفرنسية. وقد أضحت كتبي مرجعا للكثير من التلاميذ والطلبة والباحثين والمدرسين في مجالات مختلفة.
وهنا، أفتح قوسا لأترك الناقد المغربي الدكتور ميمون مسلك يقول في حقي ما يروج في الساحة الثقافية المغربية والوطنية:” د جميل حمداوي منارة النقد و البحث و الدراسة..بحر بدون ساحل، أمواج متلاحقة ،كلها عطاء و إفادة و في فنون و أجناس مختلفة، تشعر و أنت أمام هذا الفيض أنك تغرق في موسوعة ضخمة ، و تسبح في فضاء من المعارف، والعلوم، و الثقافة…
احتار في شأنه الكثيرون، وتقوّل عن كتابته المتقولون، ولكن قلّة قليلة من تصفّحت كتبه بالتّحليل والنّقد البنّاء.. والكثرة الكثيرة اكتفت بالانبهار، والحيرة، والتساؤل…حقاً الأستاذ د جميل حمداوي ظاهرة نقدية أدبية غريبة. والغرابة ليس فقط في كمِّ ما أنتج من كتب مختلفة.. بل الغرابة في الذي تحتويه هذه الكتب، من حيث أفكارها، وطرائق كتابتها، وتصنيف أبوابها، والعناية بمصادرها ومراجعها..
شيء مبهر…يدعو للدراسة والبحث، ولعلي وقد تعاملت مع انتاجه النقدي من خلال كتابي: ” النقد التطبيقي” أجدني أدرى بإمكاناته، وعطاءاته وأفكاره.. فحفظه الله ناقداً متميزاً، وباحثاً مجدّاً، ومبدعاً مِعطاء….”
إذاً، هناك موقفان إزاء ما أكتبه: موقف قائم على التبخيس والتنكير والتجاهل وغض البصر، وموقف مشجع ومثمن لما أكتبه بكل موضوعية وحياد ونزاهة.

5- طيلة فترة كتابتك في مختلف الحقول الثقافية، أي المشاكل التي تراها الأكثر تأثيرا في بنية الثقافة العربية؟

فعلا، لقد وجدت مجموعة من المشاكل التي تعاني منها بنية الثقافة العربية منها تهميش المثقفين، ومحاصرة المثقفين المتميزين، وانتشار ثقافة التبخيس والتنكير والتجاهل، وعدم الاعتراف بجهود الآخرين، والميل الكبير نحو التقليد والاتباع، وعدم العناية بالتجريب والاجتهاد والمغامرة في البحث العلمي، واحتقار كل من يحاول التنظير للآداب والفنون والعلوم الإنسانية، على أساس أن الباحث العربي دون المستوى، وغير قادر على ذلك. ناهيك عن استهجان الفكر الموسوعي، ووسم أصحابه بالسطحية والدونية. دون أن ننسى غياب الإعلام الحقيقي والنزيه الذي يواكب إنتاجات الكتاب الحقيقيين بدلا من الاهتمام المبالغ فيه بالكتاب المبتدئين أو فارغي الرؤوس لأسباب سياسية، وحزبية، ومادية.
وهناك مشكل غياب التواصل الحقيقي بين المثقفين والكتاب المبدعين، وانعدام المؤسسات الثقافية الحاضنة لهؤلاء الكتاب المتميزين، حتى إن مؤسسات اتحادات الكتاب العرب قد أضحت مؤسسات إخوانية ومصلحية فارغة لا جدوى منها.
ولا ننسى كذلك مشكل حقوق المؤلف، فكثير من الناشرين لا يعترفون بحقوق المؤلفين، يطبعون كتبهم بطرائق غير شرعية وغير قانونية. ناهيك عن مشكل الطباعة والنشر والتوزيع؛ مما يدفع الباحثين إلى النشر الإلكتروني للاقتراب أكثر من الجمهور العربي بدل الاكتفاء بجمهور محلي أو وطني فحسب.

د جميل حمداوي

6- لو قلت لك سم الكتاب الأقرب لقلبك من بين أكثر من 500 كتاب كتبتها؟ ولماذا؟

هناك كتب كثيرة قريبة من قلبي، ولكني أحب كتابي (القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق)؛ لأني طرحت فيه منهجية جديدة لمقاربة جنس القصة القصيرة جدا وفق سماتها ومكوناتها الداخلية. وطرحت فيه المقاربة الميكروسردية التي تدرس هذا الجنس الجديد الذي يسمى بالقص الوجيز في ضوء مجموعة من المعايير التجنيسية التي تميز هذا الجنس عن باقي الأجناس الأخرى، وسميت تلك المعايير بالأركان والشروط أو السمات والمكونات. وتعد هذه المقاربة أولى منهجية توظف في الوطن العربي لمدارسة القصة القصيرة جدا. أي: إنه نوع من الاجتهاد والمغامرة الأدبية والنقدية.
ويعني هذا كله أن لكل جنس أدبي مقاربة منهجية خاصة به، فللشعر منهجيته التي تقوم على دراسة المكونات الصوتية، والإيقاعية، والصرفية، والتركيبية، والدلالية، والتداولية. وكذلك للمسرح والسينما والرواية والقصة القصيرة منهجية خاصة بكل واحد على حدة. أما القصة القصيرة جدا، فقد كان النقاد يقاربونها انطلاقا من مقاربات سردية أو مضمونية أو اجتماعية أو سيكولوجية. وهذا نوع من الإسقاط المنهجي الذي يتنافى مع خصوصيات جنس القصة القصيرة جدا. وإلا كيف سنميز بين جنس سردي وآخر، إذا كانت المنهجية واحدة في التحليل والتقويم والقراءة؟
لذا، طرحنا منهجية عربية جديدة هي المقاربة الميكروسردية تحلل القصة القصيرة جدا من داخل هذا الجنس، برصد مكوناته البنيوية وسماته الفنية والجمالية. أي: تعنى هذه المقاربة الجديدة باستكشاف البنى الثابتة التي سميناها أركانا (الحجم القصير جدا، وفعلية الجملة، والتراكب، والإضمار، والمفارقة، والصورة الومضة، والتنكير، والإدهاش، والمفاجأة، والحذف، والسخرية، والتسريع…)؛ واستجلاء البنى المتغيرة في حضورها وغيابها، وقد سميناها شروطا أو سمات (ما تشترك فيه القصة القصيرة جدا مع باقي الفنون والأجناس الأدبية الأخرى).

7- كيف تقسم أوقاتك ما بين الالتزامات الأخرى وأوقات الكتابة، وماذا تعني لك لحظة الكتابة؟

تتأرجح حياتي بين التدريس والتكوين من جهة أولى، وقضاء حاجيات الأسرة من جهة ثانية، والاهتمام بالقراءة والكتابة من جهة ثالثة. ويعود الفضل في ذلك إلى زوجتي الصبور التي تساعدني على تحمل مسؤولية الأسرة، والاهتمام بالأولاد صباحا ومساء. وقد ضحت كثيرا من أجل أن أتفرغ للبحث العلمي وإفادة الوطن والأمة على حد سواء.
فقد كنت، في مرحلة البداية، أكتب في الليل والفجر. وبعد كبري في السن، خصصت الصباح للكتابة. أما المساء، فخصصته للاختلاء بأصدقائي وطلبتي. وفي الليل، أدخل إلى مكتبتي العامرة بالكتب والمؤلفات النفيسة في شتى الميادين والمجالات المعرفية. أسمع الموسيقا وأنا أكتب، أو آكل وأنا أكتب، أو أشرب الشاي أو العصير وأنا أكتب. وأصحح مقالاتي وأضبطها وفق الأغاني الأمازيغية، أو الأغاني العربية الكلاسيكية، أو أغاني الشباب. وبعد ذلك، أنشر ما كتبته رقميا وورقيا.
أنا مدمن على القراءة والكتابة بشكل غير طبيعي بكل صراحة؛ لأني أجد في ذلك راحتي ونشوتي وسعادتي الكاملة. فالكتابة فضيلة، وحرية، وكينونة، ووجود. ومن ثم، فالكتابة هي الحياة، والحب، والدنيا، والآخرة. وهي كذلك محراب الزهد، ومقام العطاء، وكتاب التفاني، ومسلك التجلي الصادق. وفي الأخير، الكتابة هي حياة جديدة بامتياز.

8- اشتغلت كثيرا على حقول التربية …هل تعدها حقول مهمشة في الكتابة العربية؟

فعلا، أضحى حقل التربية مهمشا في الكتابة العربية بشكل جلي، فقد ظل تخصصا علميا دقيقا، يهتم به المشرفون على شؤون التدريس والتكوين، ولايَعني الكتاب والمبدعين والمثقفين بأي شيء. بمعنى أن التربية اختصاص علمي من اهتمام المربين ورجال التربية وعلماء النفس والاجتماع. وقلما نجد مبدعا أو ناقدا يهتم بالتربية وشؤونها المعقدة الشائكة.
وقد دفعني اهتمامي بالتربية والتعليم منذ وقت مبكر إلى أن أخوض في المسألة التربوية التعليمية، فكتبت مجموعة من الكتب والمقالات والدراسات والأبحاث في مستجدات التربية والتعليم تتجاوز الثمانين كتابا ورقيا وإلكترونيا، فقد كان آخرها حول (مناهج البحث التربوي). وأكثر من هذا فنحن ننادي إلى نظرية تربوية جديدة نسميها (البيداغوجيا الإبداعية) التي تجمع بين ما هو نظري وتطبيقي، وتقوم على الإبداع، والإنتاج، والتميز، والابتكار.
وقد شاركنا – مرارا وتكرارا – في تنشيط ملتقيات وندوات تربوية عدة تتمحور حول الجديد في التربية والتعليم. كما كنا سباقين إلى تبيان مفهوم الأستاذ المرشد. ودافعنا كثيرا عن الترقية العلمية لتكون بديلا عن الترقية بالأقدمية. وأشدنا كذلك بفلسفة التنشيط التربوي، والقراءة الممسرحة، ونظرية الملكات، وغيرها من أفكار تربوية جديدة…

9- لديك استمرارية في مسالة النشر الالكتروني لكتبك؟ كيف ترى ظاهرة النشر الالكتروني للابداعات وهل هي نهاية للكتابة الورقية؟

فعلا، يبدو أن المستقبل الثقافي والحضاري والعلمي للنشر الإلكتروني؛ لأن الباحث لا يمكن أن يطبع كتبه كلها على نفقته. لذا، يُسهل النشر الإلكتروني هذه العملية بيسر ومرونة وسرعة وسهولة دون إضرار بالجيب. بالتالي، تصل المعلومات إلى القراء بشكل سريع.
وفي الوقت نفسه، لقد أصبح القارئ، اليوم، مدمنا على المنشورات الإلكترونية والافتراضية، يتصفحها بنهم كبير. علاوة على ذلك، فما ينشر من الكتب الورقية في المغرب لا توزع دائما خارج الوطن، على عكس النشر الإلكتروني الذي وسع دائرة القراءة والنشر والتوزيع والاطلاع على المنتج الثقافي والإبداعي في مختلف بقاع العالم. وعلى الرغم من ذلك، سيظل النشر الروقي حاضرا بكثافته؛ لأن للنشر الإلكتروني أضراره الصحية والأخلاقية والمادية.

10- من الأكثر تأثيرا على الجمهور من المفاصل الأدبية الآتية (الشعر، الرواية، المسرح) ولماذا؟

يعرف عصرنا بأنه عصر السرديات بامتياز، فهو عصر الرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، بعد أن كسد الشعر، وعمه البلوى، وصار كل من هب ودب يكتب الشعر، إلى أن تحول الشعر العربي المعاصر إلى نصوص مبهمة وغامضة وطلاسم سحرية معقدة، لا يمكن تفكيكها ولو بأعتى المناهج النقدية كالبنيوية، والتشريحية، والسيميائية. إذ تحولت هذه الكتابات “الشعرية” إلى استعارات بعيدة وغامضة لا معنى لها ولا هدف. وقد لاحظنا أيضا خلو ذلك ” الشعر” من أي رسالة نبيلة أو هدف سام؛ حيث ينطلق الشاعر من الفراغ والعبثية والعدم. وبالتالي، لا يملك رؤية للعالم أو نسقا فلسفيا شاملا، يلخص لنا رؤيته إلى الوجود والمعرفة والقيم. أما الإيقاع الشعري والعروضي في تلك الأشعار، فهو مغيب بشكل لافت للانتباه، إما جهلا، وإما عمدا؛ مما أوقع الشعر في النثر، والمباشرة، والحرفية، والتقريرية، والتعيين. والدليل على كساد الشعر وبواره، وجود آلاف من الدواوين الشعرية مكدسة في المكتبات الخاصة والعامة، ولا أحد يسأل عنها. كما يتهرب النقاد من نقد النصوص ” الشعرية” النثرية التي يعرفون أصلا أنها لا علاقة لها بالشعر بأية صلة من الصلات. كما لا نجد في تلك النصوص نوعا من الجهد والبحث والتنقيح، بل تواجهنا الأشعار ثملة بأخطائها اللغوية، والنحوية، والتعبيرية. لكن ثمة استثناءات جيدة قليلة.
ومن جهة أخرى، يُقبل الناس بكثرة على الرواية استفادة واستمتاعا، ولاسيما الروايات المتميزة بعبقها الفني والجمالي والسحري، كالروايات التراثية، والروايات الجريئة التي كسرت الطابو العربي، والروايات العالمية، سواء أكانت مترجمة أم غير مترجمة. لكني أرى أن فن المستقبل هو للقصة القصيرة جدا؛ وذلك راجع لأسباب ذاتية وموضوعية، كعامل السرعة، وعامل التطور الإعلامي والرقمي، وتزايد مشاكل الحياة التي لا تسمح للمتلقي بقراءة النصوص السردية المسترسلة، سواء أكانت طويلة أم متوسطة أم قصيرة.
وقد قُلت في كثير من الجلسات والمداخلات والندوات الثقافية، مرارا وتكرارا ، وبكل جرأة وشجاعة ، بأن القصة القصيرة جدا ستكون أفضل الأجناس الأدبية في المستقبل؛ لأن عصرنا يتسم بالسرعة والعجلة والإيقاع المتسارع. وبالتالي، لا يسمح للقارئ العربي، بأي حال من الأحوال، بأن يقرأ نصوصا مسترسلة كما وكيفا. ولا يعني هذا أن الأجناس الأدبية الأخرى ستختفي وتنقرض بشكل نهائي، بل ستبقى حية ترزق إلى جوار القصة القصيرة جدا. لكن البقاء والاهتمام الكبير، بلا ريب، سيكون لهذا الجنس الأدبي المستحدث. والدليل على ذلك أن كثيرا من الروائيين وكتاب القصة القصيرة العرب قد بدأوا في التخلي عن كتاباتهم السابقة التي تعودوا عليها، وشرعوا في تجريب هذا الجنس الأدبي المستحدث، والتكيف معه إبداعا، وكتابة، وتصورا.

11-كيف ترى حركة التأليف العربي في مختلف أنواع الكتابة، ولاسيما كثرة دور النشر العربية ومعارض الكتاب؟

أرى أن حركة التأليف العربي في مختلف أنواع الكتابة إيجابية ومثمرة وهادفة وبناءة، والدليل على ذلك كثرة المعارض ودور النشر العربية؛ مما يسهم ذلك كله في إثراء الحركة الثقافية في الوطن العربي، على الرغم من تراجع القراءة والإقبال على الكتب لأسباب عدة، من بينها الأسباب المادية والمالية والمعنوية، وغياب التشجيع والتحفيز.
ويلاحظ أن النشر الإلكتروني أكثر ديناميكية مقارنة بالنشر الورقي، ويتعلق بإقبال الشباب والمثقفين على الخوض في كثير من الأجناس الإبداعية والفكرية من أجل المساهمة في إغناء المشهد الثقافي العربي، وظهور أصوات إبداعية شبابية كثيرة في مختلف الإبداعات المعروفة.
وإذا أخذنا على سبيل المثال، النقد الأدبي، فأعتقد أنه في حركية نشيطة ودؤوبة بشكل مستمر، ويتسم بفعالية وديناميكية بارزة؛ بسبب وجود مجموعة من الباحثين والدارسين الأكاديميين الشباب الذين يهتمون بتقويم الإبداع الأدبي والفني والثقافي بحيوية لافتة للانتباه. بيد أن المشكل الأول يتمثل في ضرورة تجديد المقاربات النقدية، والبحث عن مناهج نقدية جديدة لمسايرة الإبداعات الجديدة.
ويتمثل المشكل الثاني في كثرة المنتج الإبداعي؛ إذ يصعب تتبع جميع ما يكتبه المبدعون.
أما المشكل الثالث، فيكمن في أن أغلب الإبداعات مجرد إنشاءات تخييلية لم تصل بعد إلى مستوى الإبداع الحقيقي.
ومن هنا، لابد للناقد العربي أن يقوم بدوره التنويري الذي يتمثل في القراءة، والتحليل، والتقويم، والتوجيه.
وشخصيا، فأنا متفائل بمستقبل النقد العربي، إذا احترم ضوابط النقد الأكاديمي، وحاول أن يكون موضوعيا إلى حد ما بعيدا عن النقد الإخواني والنقد التملقي الذي يسيء إلى الناقد والإبداع على حد سواء. 12- تحدث لي عن علاقتك بالثقافة العراقية من أين بدأت، وكيف تجسرت؟

د جميل حمداوي

12- تحدث لي عن علاقتك بالثقافة العراقية من أين بدأت، وكيف تجسرت؟

بدأت علاقتي بالثقافة العراقية منذ أن كنت طالبا في جامعة محمد الأول بمدينة وجدة (المغرب)، فقد كان يدرسني أستاذ عراقي الرواية والشعر السياسي الأموي، وهو الدكتور جاسم الساعدي الذي عرفني بعبد الرحمن مجيد الربيعي، فقد قرأت روايتي (الوكر) و(الوشم). وبعد ذلك، كان لي احتكاك مباشر بالكتب العراقية التي كانت تصل إلينا كالمورد، والموسوعة الصغيرة، وغيرها من الكتب العراقية المتميزة. كما درست ما كتبته نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وجميل الزهاوي، ومعروف الرصافي، وبلند الحيدري، وعبد الوهاب البياتي. لقد أعجبت بالشعر العراقي كثيرا؛ لأنه شعر حواري ودرامي متنوع. كما اطلعت على مؤلفات إحسان عباس النقدية والأدبية.
وبعد ذلك، توطدت علاقتي بكتاب العراق في مجال القصة القصيرة جدا، وربطت معهم صلات حميمة، وأصدرت كتابا بالعراق حول (سيميولوجية الشخصية الروائية)، وصدر ببغداد عن وزارة الثقافة العراقية ضمن الموسوعة الصغيرة.
كما نشرت مقالات عدة بالصحف والمجلات والجرائد العراقية كمجلة الضفاف ومجلة الرقيم وغيرها من الدوريات. وأخيرا، أعدت الطالبة العراقية أريج داود حمد رسالة الماجستير حول كتبي بعنوان (المقاربات النقدية للدكتور جميل حمداوي في النقد الأدبي الحديث)، وتقدمت بها إلى مجلس كلية الآداب بجامعة بغداد سنة 2018م. وهذا كله غيض من فيض !

13- أي نصيحة توجهها للكتاب الشباب في الوطن العربي؟

أحث الشباب المبدعين على كثرة القراءة، والتحكم في اللغة العربية وآدابها وعلومها، والتمكن من اللغات الأجنبية، واستيعاب التراث العربي الإسلامي، والابتعاد عن الكتابة الإنشائية، وتحويل الإبداع إلى بحوث أكاديمية دسمة، والتزود من معين الفلسفة والفكر الإسلامي، والنبش في التصوف، وكثرة الكتابة لتحقيق الكم والكيف على حد سواء.


14- كلمة أخيرة نتركها لك لتقدمها لجمهورك في العراق والوطن العربي؟

أوجه رسالة شكر وثناء وتقدير إلى كل من يقرأ كتاباتي المتواضعة من العراق والوطن العربي، فأنا أسهر الليالي من أجل أن أوصل إليهم أبحاثي ودراساتي في مختلف المجالات، بأسلوب تعليمي واضح وبسيط. وأنا سعيد بجمهوري من القراء الأعزاء بالمغرب، والجزائر، والعراق، والسعودية، وكردستان، وإيران، ونيجيريا، وموريتانيا، وتونس، وليبيا، ومصر، وسلطة عمان، وغيرها من الدول العربية والإسلامية والأجنبية. فلدي قراء من الهند، وتركيا، وإيطاليا، وسلطنة بروناي…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.