كتب سعيد يقطن:
يعز علينا فراق الكثيرين من الأدباء والمفكرين، ممن نتعرف عليهم بطريقة غير مباشرة من خلال كتاباتهم أو إبداعاتهم، أو بطريقة مباشرة ممن كانت لنا معهم ذكريات، وخبرناهم عن كثب، وأدركنا ما يتميزون به من شيم وأخلاق، وما كان لأعمالهم من آثار. لكن أن يغادرنا من الأدباء من هم في بداية أو أوج العطاء، ولهم مشاريع يعملون بكد وبهمة عالية، ويحلمون بتحقيقها، فهنا تكون الخسارة مضاعفة، والفقدان أكثر مرارة. حصل لي هذا مع أصدقائي محمد الماكَري، وعبد الله راجع، وأحمد بركات، وأخيرا مع إبراهيم الحجري الذي ربطتني به علاقة مباشرة وقوية.
قبل ثلاثة أيام من دخوله المستشفى، في غيبوبة، اتصل بي إبراهيم هاتفيا يستفسر عن صحتي، وعن الأسرة. كان يباغتني بين الفينة والأخرى بهذه الاتصالات، علاوة على مشاركاته وتعليقاته الدائمة على كل ما أكتب أو أنشر، وكنت أشاطره هذا النوع من التواصل والتفاعل. وحين تزامن خبر لم يصدقه أحد في البداية، مع مرض بشير القمري، ورحيله، كان الألم مضاعفا. إن فقدان أحد أخلص الزملاء يعني توقف مشاركة شخصيات في إنتاج قصة حياتك، والحقبة التي تعيش فيها. ويجعلك هذا تحس بأن جزءا من المهام التي كنتم تسعون لإضافتها إلى تلك القصة بات مبتورا ومعطلا.
تعرفت على إبراهيم الحجري في وحدة التكوين حول الأدب الأندلسي، التي كانت تنسقها الأستاذة فاطمة طحطح، حيث كنت أدرِّس مادة «السرد الأندلسي». كان دائم الحضور والتفاعل وتظهر عليه علامات التميز. كان محبوبا لدى جميع الأساتذة والطلبة. وأستنتج من خلال تجربتي الطويلة في التعليم أن الطالب النموذجي، الذي يتميز بأخلاق عالية ومستوى ثقافي جيد يؤثر في مجموعته، ويعمل دون قصد على أن تكون في مستواه، والعكس صحيح. ضمت المجموعة التي كانت تدرس معه المرحومة مليكة نجيب التي كانت وإياه فرسي رهان، إلى جانب طلبة آخرين كانوا من خيرة طلبتنا. لقد سجل معي أطروحته لنيل الدكتوراه حول خطاب الرحلة، وكنت مسرورا جدا للتعامل معه، لما رأيته فيه من خصال وخلال نادرة. كانت لديه قدرة هائلة على القراءة والكتابة. تركته يشتغل بعد أن اتفقنا على الخطة. بعد مدة بعث إلي بعض ما أنجز، وجاء موعد مناقشة ما كتب. تركته يتكلم: «وبعد أن قلّب أوراق مذكرته الصغيرة طويلا، طرح عليّ سؤالا لم أفكر فيه قط من قبل: ما الذي تريده من خلال هذا العمل؟ وران بيننا صمت مطبق انعقد معه لساني. فبت أخرس صامتا، أحاول من خلال قراءة ملامحه الوصول إلى جواب، لكنه لم يمهلني كثيرا، فسرعان ما بدأ يعدد الغايات المفترضة في إنجاز العمل. وطلب مني أن أختار منها واحدة كي يقرر على ضوئها الخطوة الموالية.. فاخترت أن أسلك طريق العلم.
يتميز إبراهيم الحجري بثلاث ميزات لا أجدها لدى كثير من الباحثين من جيله. فإلى جانب مزاوجته بين الإبداع والبحث، وتفوقه فيهما معا لأن إبداعاته السردية ذات خصوصية، وكتاباته النقدية جادة وعميقة، نجده مواكبا جيدا لكل ما يكتب وينشر عربيا. فهو مهموم بالكتابة، نذر حياته لها.
فكّر وتفرس ملامحي جيدا كأنه يختبر جدية اختياري، بعدها فتح مذكرته من جديد، واستعاد هدوءه السابق واستعرض ملاحظات وتوجيهات أعادت العمل لأول الطريق. كنت مطالبا بإعادة ترتيب مادة البحث، وهدم بعض المفاصل، وحذف أخرى، وإضافة بعض الفصول، وإعادة النظر في كثير من الأحكام والمسلمات والمنطلقات والهفوات المنهجية». وكان أن نوقشت أطروحته وطبعت مرتين.
يتميز إبراهيم الحجري بثلاث ميزات لا أجدها لدى كثير من الباحثين من جيله. فإلى جانب مزاوجته بين الإبداع والبحث، وتفوقه فيهما معا لأن إبداعاته السردية ذات خصوصية، وكتاباته النقدية جادة وعميقة، نجده مواكبا جيدا لكل ما يكتب وينشر عربيا. فهو مهموم بالكتابة، نذر حياته لها. ولا يمكن للكتابة أن تتحقق إلا وهي رديف القراءة. كنت أغبطه على قراءاته المتعددة للنصوص الروائية وغيرها، وكتابته عنها. أما الميزة الثالثة فهي سمو أخلاقه ونبل مشاعره. كنت أتتبع بعض ما ينشره في الوسائط الجماهيرية من تعليقات ومشاركات، وكنت أقف على ردود أفعال القراء على ما يكتب. لم تكن للحجري حساسية بعض المثقفين، ولا مواقف متشنجة منهم. يحب الخير للجميع، ولا يحمل قلبه الضغينة لأحد. كان شغله الشاغل أن يقرأ ويكتب، غير مهتم بما يشغل به بعضهم نفسه من هوامش قاتلة للوقت. كان جادا وصادقا في كل ما يكتب، سواء تعلق الأمر بمشروعه البحثي، أو مواكبته لقراءة كتاب جيله.
هذه الميزات الثلاث جعلته مختلفا عن الكثيرين، ولذلك أحبه الجميع، وأحس كل من يعرفه، مباشرة أو ضمنا، بفظاعة فراقه. كان مشروعه الكتابي بعيدا عن الصفات التي باتت مبتذلة، مثل الحداثة والعقلانية والتقدمية. كان يحمل، بصدق، هم الوطن والمواطن في المغرب والوطن العربي، وينشغل بأسئلة المستقبل، التي تفتح آفاقا جديدة للحياة. كانت حرقة الكتابة لديه تصدر من حرقة إحساسه بكل ما يحول دون تطورنا. وكان هذا جزءا من معاناته اليومية والدائمة. إنه وإن كان يبدو ظاهريا هادئا ومبتسما، وشبه محايد، كان في العمق بركانا يغلي ويتألم على ما يقوم به الإنسان لأخيه الإنسان.
سيظل الحجري حاضرا ومحبوبا باجتهاداته وإبداعاته وأخلاقه النموذجية. وهذا أثمن رأسمال يخلِّفه المثقف.
كاتب مغربي
الخميس , 15 يوليو , 2021