(الق ق ج ) و الرَّمز

                               ( الق ق ج ) و الرَّمـز
ـ
     في حياة الإنسان مجموعة من الرّموز، ألفَها، و عايشها، وتأثر بها، فأصبحت وسيطا له في التّعبير و الإبداع و السّلوك و التّفاهم..فالرمز: لغة ضمن اللّغة،قد تربط بين معالم الواقع، و تجليات الخيال..
    لقد كان أرسطو يرى أنَّ ” الكلمات المنطوقة رموز لحالات النّفس و الكلمات المكتوبة رموز لكلمات منطوقة ” ([1]) و ورد في معجم المصطلحات المعاصرة: ”  الرّمز مفهوم استتيقي وهو (وسيط تجريدي) بين عالم الواقع وعالم الأخيلة وكلّ إبداع فنّي هو رمز لانتقاء الكاتب لجوهر الأشياء كما تمثلت في ذهنه“([2]) و يصوره د عزالدين إسماعل بأنّه” أكثر امتلاء، وأبلغ تأثيرا، من الحقيقة الواقعة. الرَّمز أكثر شعبية من الحقيقة الواقعة. فهو ماثل في الخرافات، والأساطير، والحكايات، والنكات، و كلّ المأثور الشّعبي. والتّفاهم بطريق الرّمز بين النّاس شيء مألوف، و النّاس يلتقون عند الرّمز لأنّه له تأثير مثل السّحر، فهو يأسرهم، و يجذبهم إليه بقوة، لا تجذبهم بها الحقيقة الواقعة ([3])
 
      و الرّمز رغم قدمه كمكوّن جمالي و أسلوب للتّعبير، فقد أطّرَته المدرسة الرّمزية التي ظهرت في فرنسا أواخر القرن 19 كرد على المدرستين : الواقعية  و الطبيعية أو الكوسمولوجية. و من روادها: ملارميه، و مورباس، و ألبير سلمان، و بول فالري..

   فماذا عن الرّمز في (الق ق ج) ؟
1 ــ إذا كان الرّمز مكوّنا في كلّ أصناف الإبداع على اختلافها.. فهو في ( الق ق ج)  يكاد يكون ضرورة تكوينية في إنشاء معنى أعمق. و ذلك لما يُنشئه من صور تخييلية، نتيجة استدعاءاته المجازية/البلاغية، و الايحائية/ التّلميحية ، التي تبعث الدّهشة و التّأثيرفي النّفس..و تلامس أغوار اللاّ وعي،  فتنطلق بعيدًا مُخترقةً تخوم النّص، مُتيحة مجالا فسيحًا للتّأويل.. فيحدث ما نسميه: إثراء مخيال المتلقي.

2 ــ و قد يتنوع الرّمز كما في باقي أجناس السّرد. فيكون رمزًا طبيعيا،أو تاريخيا، أو أسطوريا/ مثيولوجيا، أو فانتازيا/ غرائبيا، أو لغويا/ سيميائيا..شريطة أن يكون في متناول الفهم و التّأويل، في إطار نسقية مُنسجمة، و ألاّ يجعل النّص مُبهما مُطلسما..

3 ــ و إنّ دواعي توظيف الرّمز، فبقدر ما هي اختيارية ، بقدر ما تكون أحيانًا ضرورية، و حتمية فنّية، كأن تكون فكرة النّص غيبية، أو فلسفية، أو متمرّدة عن الوضع القائم.
كمواجهة الطابوهات الثلاثة : السّياسة، الدّين، الجنس. و الخوف من التّصريح في ظلّ ظروف مُلبّدة بالقمع و الاستبداد..لذلك الرّمز في (الق ق ج) ليس لبثّ العتمة، و الغموض، و الإبهام، و لكن لسَبر أغوار ما هو نفسي، مما لا يدركه العقل الواعي، فيعيده ذهنيا سيرته الأولى، بفعل عوامل رَمزية، تقرّب ذهنيا و خياليا ما انفلتَ من عِصمة التّعقل و الإدراك..
لأنّ الرّمز في عمومه ليس لغة اخْبار و تقرير، بل على  العكس من ذلك، فهو لغة إشارة و  إحالة (Langage de référence) و في ذلك تتمثل فنّيته التّخييلية من خلالِ النّص.

4 ــ  و متعة الرّمز الإستتيقية ، أنّه لا يبوح بغرضه من أوّل وهلَة، و لكن بعد مُماطلة منه.. فبقدر ما يخدم الرّمز النّص عمومًا، والقص القصير جدًا بخاصّة، بقدر ما يُعمّق نخبويته، و ضألة جماهريته، و قلة الإقبال عليه ، و ذلك في توظيفه التّاريخي ، و المثيولوجي مثلا :    ” تموز (Tammuz) ، أدونيس ( Adonis)، عشتار (Ishtar ) ،الفنيق ( Phoenix)، سزيف (Sisyphus )، إيزيس (Isis)، أوزريس (Osiris)…
فكلّ رمز من هذه الرّموز مثلا، هو قصّة كاملة مُكتملة، تمتُّ بجذور الصّلة إلى حضارات سادت ثمّ بادت. فمعرفة دور هذه الرموز في النّص،  يحتّم معرفة دورها التّاريخي والمثيولوجي..و هذا ليس من رغبة المُتلقي العادي، الذي يتغي الفهمَ السّريع من القراءة الأولى..  بل أحيانًا كثيرة يَعزف عن البحث حتّى مَن نظنهم مثقفين و مهتمين.

5 ــ حجم (الق ق ج) لا يتّسع للإسهاب و الاستطراد، و القاص مُجبر أن يوظف لغة مُكثفة، تنزع إلى التّلميح، و تنفر من التّقرير و التّصريح، فهي أقرب ما تكون من لغة الشّعر الحديث، و تحقيقا لذلك، و من أجلِ تمرير خطاب سردي هادف، يستنجد القاص بالرّمز لأنّه الأداة التي تتضمن وظيفتين هامتين:
إضمارات محدّدة (Ellipses déterminées) فقد يكون الرّمز بؤرة إضمارات ، و غايات محدّدة من واقع ما، أو خيال ما.. بحيث أنَّ شفرته أحيانا لا تتسع لتأويلات كثيرة. كما أنَّ الرّمز قد يتضمّن إضمارات غير مُحدّدة (Ellipses indéterminées) و هو في ذلك يتضمن إضمارات مُتعدّدة، تنفتح على كلّ القراءات، و التّأويلات، فتنعكس على النّص، فيصبح أبوابا مُشرعة، تفضي إلى ثراء دلالي تخييلي، قد يُجهد حتما المنهج التّأويلي/ الهرمونتيقي.. و هذا ما يوضح دور الرّمز في العمل القصصي، و بخاصّة إذا تمّ توظيفه بمهارة فنية، على أساس أن يكون مُكونا جماليا، يخدم فكرة النّص.

6 ــ من مواصفات الرّمز :
   ينبغي الإشارة بادئ ذي بدء أنّ التّعامل مع الرّمز ، ليس بالأمر السّهل. بل يتطلّب ممارسة و مهارة، كأي تقنية فعّالة. و إلا سيقع القاص في أخطاء سوء التّوظيف، التي تنعكسُ على النّص، و مقروئيته، و فهمه …
ــ الرّمز المختار عفويا أو عن قصد.. ينبغي التّيقن من فعاليته في خدمة فكرة النّص. و إلا سيصبح عبئًا على النّص.
ــ الرّمز ليس أداة إبهار و مثاقفة.. لإضفاء هالة من الغرابة على النّص.
ــ الرّمز لا يقصد لذاته، لأنّه عامل فنّي ضمن عوامل أخرى الهدف منها الانسجام و   
  التّجانس لخدمة هدف معين.
ــ الرّمز إنْ لمْ يُحقق إضافة نوعية للنّص، فهو مجرد زائدة من الزّوائد التي أخطأها الحذف
ــ الرّمز لا يوظف لذاته، أو ما كان منه في الأثر، بقدر ما يوظف لإيحائه ، و تلميحه..
ــ الرّمز حمال لتمثلات دلالية يشكلها خطابه الايمائي (Discours mi métrique).
ــ الرّمز لا يُختار اعتباطا، أو أن يكون اسقاطا، أو مُغرقا في المَحلية الضّيقة..
ــ الرّمز لا يكون دائمًا أحادي المعنى (Univoque) لأنّه بؤرة سوسيو ثقافية..
ــ …………………

فمن القصص الرمزية:

1 ــ قصة : “سياسة ” لعبد السلام بوزمور ([4])
(ضج النّاس بالشكوى للإلهة أورورو من ظام جلجاميش . فخلقت أنكيدو مكافئا له، ليحد من جبروته، و يخلق التوازن في المدينة.
تصارعا بعنف.. انتصر جلجاميش.. صارا صديقين حميمين.. كفّ النّاس عن الشّكوى.)
                                                 ***
2 ــ قصة : ” يوتوبيا”  لنفس القاص. ([5])
(أنصت بإعجاب إلى سقراط محاورا جلوكون.
ــ أنت توافق إذن أنّ حراس الدّولة، يجب أن يكونوا أشبه بالكلاب الأصيل . و أنّ الأصلح لحراستها هم الفلاسفة لتجسيدهم هذا الشّبه.
قرّر بناء دولة فاضلة . لم يجد فيلسوفا في المدينة، بعد تحريمه الفلسفة عقودًا.)

                                               ***
3 ــ و من مجموعة” طوفان ” لإسماعيل البويحياوي، قصة ” معجزة ” ([6])

(موسى البسيط يجمع المستضعفين.. يشقّ بهم الطّريق في البحر..و يكلّم الله..
و مسحقو اليوم يتدثرون بالظلم المعولم ، و لا معجزة في الأفق تدك صلف الفراعنة.)
                                             ***
4 ــ و من مجموعة ” قطف الأحلام” لنفس القاص، قصة : أركيولوجيا رؤيا ([7])

( حكى ابن الجوزي في” سلوة الأحزان” أنّ ابراهيم التّميمي كان إذا سجد تسقط العصافير على ظهره تحسبه قطعة حائط لطول سجوده و كثرة خضوعه.
  
يعرف راوي الرواة أنّ ابراهيم خلف ابناء و حفدة أعبد و أحلم . تمرّ الأيّام. يَبني الحكام على ظهورهم قصورًا فخمة.. تختال الدبابات و الطائرات و ي ت م ز ق الوطن
طبعًا يطول السّجود، و يحلو الخشوع، حتّى أخمص الرّؤيا.)



[1]  ـــ  محمد فتوح – الرمز والرمزية..

[2]  ــ  معجم المصطلحات المعاصرة/ د سعيد علوش

[3]  ــ اسماعيل عز الدين 1994 الشعر العربي المعاصر قضياه  و ظواهره الفنية و المعنوية  المكتبة
    الأكاديميةـ ط4 ـ ص431

[4]  ــ مجوعة عبد السلام بوزمور : “جراب الخيبات” ص/43 ط/1 مطبعة الخليج العربي ــ تطوان

[5]  ــ نفس المجموعة.ص/56

[6]  ــ مجموعة إسماعيل البويحياوي “طوفان” ص/13 ،ط/1 ـ 2009 سندباد للنشر و الاعلام/ القاهرة

[7]  ــ مجموعة إسماعيل البويحياوي “قطف الأحلام” ص/23 ط/1 2010 التنوخي  للنشر و التوزيع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.