لماذا القصّة القصيرة جدا؟

د حسين الجداونة

د حسين الجداونـة

الأستاذ الدكتور ميمون مسلك،
تحية طيبة، وبعد..
أرجو أن تسمحوا لي بالمشاركة في الموضوع الذي طرحتموه من خلال مقدمة أضمومتي “عيون أمي” قصص قصيرة جدا التي نشرتها مؤخرًا في طبعة إلكترونية. مع خالص التقدير والاحترام.
***
مقدمة
لماذا القصة القصيرة جدًا؟
القصة القصيرة جدًا أو كما يرمز لها اختصارًا (ق. ق. ج) جنس أدبي حديث. يستلهم الأجناس الأدبية السابقة، ويتفاعل معها تفاعلا جدليًّا، يأخذ من الرواية عمقها، ومن القصة القصيرة أناقتها، ومن الشعر دهشته، ومن المقامة رزانتها، ومن المقالة فكرتها، ومن الخبر جدّته، ومن الخاطرة رونقها، ومن النكتة خفتها ومن المسرحية حركتها ومن المثل شعبيته ومن الحكمة إيجازها ومن اللوحة فنيّتها. لذا فقد تتماهى القصة القصيرة جدًا مع كلّ هذه الأجناس والفنون النثريّة والشعريّة لكنّها في الوقت نفسه ليست أيًّا منها، فهي تحتفظ بهويتها الخاصة وبرؤيتها، ولغتها، وكينونتها، وشغبها، وانفتاحها، وغموضها، وفتنتها، ودهشتها.
هي أوّلا وقبل كلّ شيء قصّة لها بناء معماري، متمثل بالاستهلال والجسد والقفلة. تروي متنًا حكائيًّا، أي أنها تعالج الفكرة عبر الأحداث المرئية، وقد يظهر المتن الحكائي جليًا في بعض النصوص وقد يخفت حضوره لكنّه لا يغيب، ولا ينبغي له أن يغيب. ولكل حكائية حدث خلفية لا بد من وعيها كتابة وإدراكه تلقيًا. وإذا انتفى وجود القصة فقد انتفى وجود القص من أساسه. وهذا يعني أنّ لها أركان القصة من: حدث وشخوص وزمان ومكان وحبكة وعقدة وحلّ. ويتميّز الحدث فيها بأنه لقطة، ويتطور عبر تجلياته، مركّزًا على نفسه وليس على التطور، كما يعالج في القصة القصيرة.
وهي قصيرة جدًا، تتراوح بين بضع كلمات إلى بضعة أسطر. وهذه الصفة ليست مضافة للقصة وإنما نابعة من كينونتها، فلا وجود لها من غير صفتها التكوينية. ومن حجمها القصير جدًّا تأخذ أركانها وشروطها وعناصرها ولغتها خصائصها المميزة وسماتها المنفردة بين سائر الأجناس السردية، عبر التكثيف ركنها الأساس المهيمن على سائر الأركان. وأيّ عبث بحجمها كفيل بتقويض هذا الجنس من أساسه. وتتجلى هيمنة التكثيف على كل من الشكل والمضمون واللغة، عبر الإيجاز والحذف والإضمار والاقتصاد والاختزال والرمز ومساحات السواد والبياض. فالتكثيف يقتضي حذف كل الزوائد، فالتكثيف يمنح القصة القصيرة جدًا هويتها المميزة. فالقصة القصيرة جدًّا لا تعرف التفصيل أو الشرح أو التفسير أو التكرار أو الوصف المجانيّ.
للقصة القصيرة جدًا عتبات، أهمها عتبة العنوان. يقف المتلقي عندها قبل أن يلج المتن، وهي عتبة تلمّح وتشير من بعيد إلى المسكوت عنه، وقد تحقق المفارقة مع المتن، وقد تتناغم مع مضامينه. وهي نصّ مواز للمتن، تغري المتلقي بالقراءة وتثير فضوله وتحفزه، لكنها لا تشرح ولا تفسر ولا تكشف عن مكنون النص بل قد تسهم في تشويشه، ولا تدعم تفسيرًا أو تأويلا أحاديًّا له. وثمة علاقة جدلية بين العنوان والنص؛ يتولد منها دلالة جديدة ليست العنوان تمامًا وليست النص تمامًا. وغياب العنوان يترك النص في مهب رياح هوجاء تعصف به، وللعنوان وظائف كثيرة قد تهيمن إحداها على الوظائف الأخرى، ولا يعني هذا عيبًا فيه.
أمّا المتن أو الجسد فهو مقطع يحكي حدثًا ذا ملامح واقعية، يحيل إلى حدث مضمر، ذي دلالات أعمق وأنبل وأبعد غورًا. وهو مبني بناء وظيفيًا على مستوى المفردات والتراكيب والجمل واللقطات، لكلّ منها حملها الدلالي المتسق مع مغزى المتن، وبذا تتحقق لبنية النص دلالة ظاهرة ودلالة عميقة، وكلتا الدلالتين مقصودة، ولا تغني إحداهما عن الأخرى.
وأمّا القفلة أو الخاتمة أو الخرجة فهي مآل السرد ومنطلق التأويل. فالقفلة الصادمة هي ابنة كل ما سبقها من عنوان وعرض من غير أن يكون لدى المتلقي القدرة على التنبؤ بها أو توقعها. وبينما يأخذ العنوان والعرض المتلقي في اتجاه فإنّ القفلة قد تأخذه في اتجاه مختلف تمامًا وربما مضاد، أو تترقى به، مانحة النص العمق، والانفتاح على التأويل، وخالقة الدهشة والتوتر والتحفيز. وترفض القصة القصيرة جدًا النمطية، فهي تنوّع في شكل العلاقة بين البداية والعرض والقفلة، بل تنوع في شكل كلّ جزء من أجزائها.
وتتميّز القصة القصيرة جدًا بقيمتها الإيحائية النابعة من طبيعة بنيتها اللغوية، ومن معمارها الفنّي المنتمي للقصّ الوجيز. فهي ترفض المباشرة والتقريرية والنزعة التعليمية والمواعظ والحكم. والإيحاء لا يعني الإبهام أو الإلغاز، لكنّه يسمح بتوسيع المعنى وتعدّد الدلالات. ولا معنى أو مسوّغ للقصة القصيرة جدا إذ قرئت من نفس الزاوية التي كتبت بها، فلا بد من القراءة الجدلية للنص، بمعنى نفيه، ثم ولادة نص جديد آخر مختلف، وهكذا تتولد من النص الواحد نصوص متعددة بتعدد القراء. ولن يجد المتلقي فيها معنى جاهزًا أو نهائيًّا، ولكن بنى لغوية ذات دلالات متظافرة توحي للمتلقي بتأويلها وفق رؤيته الخاصة، على أن يكون التأويل محكومًا بالبنى اللغوية، فالنص شرط التأويل اللازم. وبالتأويل يكشف المتلقي عن النص المضمر جابرًا ما يبدو أنه خلل في بنية النص الظاهر، ولذا فالقصة القصيرة جدًا لا تقصد لذاتها وإنّما للرمز الذي بنته؛ فهي قصة رمزية بمعنى أنها تستحيل هي نفسها إلى رمز وإن لم تستخدم الرمز.
وثمّة تناغم بين العنوان والعرض والخاتمة إذ تتآزر جميعها لخلق حالة تدعم التأويل والقراءات المختلفة والمتعددة. وتبدأ القصة القصيرة جدًّا من حيث ينتهي نصها الكتابي؛ لتنفتح على التأويل والقراءة، فتثير وتحفّز وتغري وتشاكس وتلمّح وترمي بظلالها، لكنّها لا تخبر، ولا تقول الكلمة النهائية، وهي تضمر أكثر ممّا تكشف، وتترك فراغات على المتلقي أن يملأها بحسب ثقافته وأدوات التلقي لديه.
ولغتها جدليّة؛ تتراوح بين اللغة المعيارية واللغة الشعرية، لغة المجاز والتوسع والانزياح البلاغي، والترميز والتخييل والأسطرة، وأنسة الحيوان والجماد والنبات، وتعتمد على الجملة الفعلية التي تمنحها نوعًا من الحيويّة والتوتّر والتجدّد والتحوّل وتسريع الأحداث، بخلاف الجملة الاسمية التي تفيد الثبات والسكون. وهي لغة تعتني بالإخراج الكتابي، أي بتوزيع السواد والبياض، لتحفيز خيال المتلقي.
تنبع ثيمات القصة القصيرة جدًّا من فلسفة الكاتب ورؤيته لنفسه وللعالم. وتتمحور حول الصراع بين الأنا والآخر، وتجلياته وأثره على كل طرف. ويندرج ضمن هذا الصراع القضايا المصيرية كالحياة والموت، وموضوعات وجودية وعبثية، وموضوعات الحرية والحب والإنسانية، والوطن والقوة والعجز والغنى والفقر والبسيط والحالم والمثابر والمغلوب… والصراعات الطبقية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والعنصرية. وهي لا تهدف إلى الإخبار أو التعليم أو الوعظ، لكنها تهدف إلى الإيحاء بالفكرة والتلميح إليها، وطرح الأسئلة وقلقة يقين المتلقي، وفتح باب التأويل والحوار والتأمّل.
تقدّم القصة القصيرة جدًا نفسها عبر تقنيات سردية متنوعة، كالتبئير (وجهة نظر الراوي/ الزاوية التي يقف فيها)، والمفارقة إذ تعمل على خلق حالة من الصراع بين الأطراف وتعمل على تعميقه بما يتوافر لها من أساليب لغوية مختلفة، مولّدة روح السخرية الناقدة والدهشة، ولذا فهي فن اقتناص المفارقات بامتياز، وخلقها خلقًا جديدًا. والقصة القصيرة جدًّا فنّ الانزياح عن المألوف، إذ يفتح آفاق التأويل أمام المتلقي، محقّقًا الإدهاش والمفاجأة وكسر أفق التوقع والصدمة.
والقصة القصيرة جدًّا شأنها شأن الإبداع عامة، ترفض القواعد والمقاييس الصارمة والنماذج والمواصفات الجاهزة، منطلقة من الحرية، وساعية إليها. غير محكومة إلا بمسوّغ وجودها وهو كونها قصة قصيرة جدًّا.
شهد مفهوم القصة القصيرة جدًّا حالة من الجدل بين المهتمين بشأنها من نقاد ومنظرين ومبدعين، وربما ما زالت الحالة مستمرة. فقد حاولت أطراف عديدة فرض مفهومها لهذا الفن على سائر الأطراف، ومصادرة حقّ الآخرين بالتنوع والاختلاف، وقد يعود ذلك لصعوبة الإمساك بمفهوم واحد بعينه لهذا الجنس الأدبي الجديد؛ فاختلفت المذاهب باختلاف المرجعيات النقدية والفكرية وباختلاف الأذواق والأهواء.
يتبلور مفهوم القصة القصيرة جدًا عبر شكلها ومضمونها. ومن هنا يأتي الاختلاف بين المنظّرين والمبدعين حول مفهومها، وذلك بحسب تصور كل منهم لأركانها وعناصرها وتقنياتها ولغتها وثيماتها، وبحسب تقديمه لعنصر على آخر. فإذا كنا نتحدث عن قصة تتصف بأنها قصيرة جدًا فلا بد من توافر ركني الحكائية والتكثيف، ثمّ بعد ذلك تأتي سائر الأركان والعناصر والتقنيات… من الإيحاء والمفارقة والرمز والأنسة والانزياح والتناص والتضمين والحوار والإيجاز والتلميح والغموض والوحدة والجملة الفعلية والسخرية وكسر أفق التوقع والصدمة والإدهاش والانفتاح والتأويل وتعدد القراءات.
في القصة القصيرة جدًا جانبان، فكري وفني. يدخلان في حالة جدليّة تأثّرًا وتأثيرًا، فينتج عنها فنّ قصصيّ ذو عمق دلالي مستفزّ لفكر المتلقي ولذائقته الفنيّة والجماليّة؛ ولذا فإنّ كتابة القصة القصيرة جدًا تعبير عن تفاعل القاص الفكري والجمالي مع جميع عناصر الواقع المعيش على المستوى المادي والمعنوي. ولا شيء يعدل لذة الخلق، فهو عمل باهر يمرّ بمرحلة كمون حتى تنبثق البذرة، ثم تنمو شيئًا فشيئًا إلى أن تنضج، وما يرافق تلك المراحل من قلق وتوتر وخوف.
وهي ابنة هذا العصر شكلا ومضمونًا، فهي شبيهة به في زئبقيته وصعوبة القبض عليه، وفي جدليته، وسرعته، وفي حركاته وسكناته، وفي قلقه وتوتره… فهي صيغة فنية مكثفة ومشفرة لحالة من الواقع لكنها لا تشبه الواقع، وهي استجابة لرؤية الكاتب لمتطلبات العصر فنيًّا وثقافيًا وجماليًا. تسلط الضوء على قضية ما، طارحة أسئلة أكثر ممّا تجيب عنها، وأكثر ممّا تجد حلولا، وتنطلق من رؤية واضحة لدى القاص، وإلا فقد تغرق في الإبهام والاضطراب. وهي تحريضية، تحرّض المتلقي على التأمّل والتفاعل معها، تارة بخلخلة يقينه، وتارة بطرح الأسئلة عليه وتارة بغموضها وتارة باستفزازه ومفاجأته وكسر أفق التوقع لديه.
والقصة القصيرة جدًا شأنها شأن أيّ عمل فني، كلٌ لا يتجزأ. يستحيل فيه الشكل إلى مضمون والمضمون إلى شكل، وأي تفكيك لأجزائها أو أركانها أو عناصرها أو تقنياتها أو لغتها هو محولة لفهما فحسب، وإلا فلا بد من فهمها كما هي كلّ لا يتجزأ.
وتتمركز القصة القصيرة جدًا في التحولات المفصلية التي يمرّ بها الفرد والجماعة على المستوى النفسي والفكري والاجتماعي… فتقتنص تلك الأحداث في لقطات مشهدية، صانعة نصّها الخاص تكثيفًا ومفارقة وإيحاء، في معمار فنّي مبتكر من بضع كلمات أو بضعة أسطر.

*يدين الكاتب بأفكار هذه المقدمة لعدد كبير من نقاد القصة القصيرة جدًّا ومنظريها ومبدعيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.