نظرية التناص /بيير مارك دو بيازي / تعريب: المختار حسني

بيير مارك دو بيازي

نظرية التناص

ب.م.دوبيازي Pierre Marc de Biazi

تعريب: المختار حسني

يعتبر مفهوم التناص، بعد ظهوره إلى الوجود، بفعل التجديد الذي لحق الفكر النقدي في سنوات الستين من هذا القرن، من الأدوات النقدية الرئيسية في الدراسات الأدبية؛ وظيفته تبيان الدعوى القائلة بأن كل نص يمكن قراءته على أساس أنه فضاء لتسرب وتحول واحد أو أكثر من النصوص في نصوص أخرى. ولكن، وخلال ربع قرن، أثار مفهوم التناص كثيرا من الجدل، ولم يفرض وجوده مؤخرا إلا بعد أن خضع لكثير من التنقيح والإصلاح على مستوى التحديد. ومن أجل إدراك ما له من أهمية؛ ينبغي تتبع هذا التطور خطوة خطوة.

ـ تكون المفهوم:

لا يمكن عزل فكرة التناص، في أصلها، عن الأعمال النظرية لجماعة “تيل كيل Tel Quel” ومجلتها الحاملة لاسمها (تأسست سنة 1960 بإدارة “فيليب سولرس Philippe Sollers”). فقد نشرت المفاهيم الرئيسية التي أعدتها طائفة من منظري الجماعة الذين تركوا بصمات عميقة في جيلهم؛ ففي مرحلة أوج “تيل كيل Tel Quel” سنة 1968/1969، ظهر المفهوم الجوهري بشكل رسمي في المعجم النقدي للطليعة؛ وذلك في إصدارين مخصصين لعرض الجهاز النظري للجماعة:

1 ـ الأول هو نظرية الجماعة: (Théorie d’Ensemble. Coll. Tel Quel, Seuil, Paris 1968.) وهو مؤلف جماعي شارك فيه كل من فوكو Foucault وبارت Barthes ودريدا Derrida وسولرس Sollers وكريستيفا Kristeva.

2 ـ والثاني هو سيميوطيقا؛ أبحاث من أجل تحليل دلائلي: (Séméiôtikè, Recherches pour une symanalyse) سنة 1969 لجوليا كريستيفا؛ ويجمع سلسلة من المقالات كانت قد كتبتها بين سنتي 1966-1969.

في نظرية الجماعة ينتقد فيليب سولرس التصنيف اللاهوتي للموضوع والمعنى والحقيقة… الخ، ويقترح، مقابل النص الكامل الجامد المسيج بقدسية شكله وفرادته، فرضية التناص المستعارة من الناقد الروسي ميخائيل باختين Mikhael Bakhtine القائلة بأن “كل نص يقع عند ملتقى مجموعة من النصوص الأخرى؛ يعيد قراءتها ويؤكدها ويكثفها ويحولها ويعمقها في نفس الوقت”. وفي نفس المؤلف، في مقالها (مسألة بنائية النص Problème de la structuration du texte)، تقدم جوليا كريستيفا الرواية القروسطوية (Jéhan de Saintré) مثالا لتحديد ما ينبغي أن يفهم من مصطلح التناص؛ فهو “تفاعل نصي يحدث داخل نص واحد” ويسوغ تناول “مختلف متتاليات أو رموز بنية نصية ما باعتبارها جملة تحولات لمتتاليات ورموز مأخوذة من نصوص أخرى. وهكذا يمكن اعتبار بنية النص الروائي الفرنسي في القرن الخامس عشر نتيجة لتحول عدد كبير من هذه الرموز… من أجل هذا يغدو مفهوم التناص علامة للطريقة التي بها يقرأ نص ما التاريخ ويندمج فيه”. إن جوليا كريستيفا التي كانت تنطلق من التحليل التحويلي (المستعار من شومسكي Chomsky وسومجان Saumjan) وجدت نفسها مرغمة على إضافة مفهوم التناص لتبلغ بتلك الطريقة ما هو اجتماعي وتاريخي؛ إذ بدون هذه الفرضية سيبقى ما هو اجتماعي وتاريخي بعيدا عن المتناول ضمن ما تتيحه ثنائية الدال/المدلول؛ تحول الدال/ثبات المدلول. هذا الإصلاح المنهجي سيرتكز، لتعويض ذلك، على “المنهج التحويلي” الذي، بوساطته، وبإضافة مفهوم التناص “يمكن وضع البنية الأدبية في المجموع الاجتماعي الذي يعتبر بمثابة مجموع نصي”. بوضع هذا المبدأ يغدو التناص في “Petit Jéhan De Saintré” تفاعلا، في هذا النص، لأربعة مكونات تناصية:

1 ـ نص التقسيم التقليدي (تصميم الرواية بحسب الأبواب والفصول، النبرة الوعظية، الإحالة الذاتية في الكتابة والمخطوط).

2 ـ نص الشعر الغزلي (حيث “السيدة” La Dame “ّمركز اهتمام وتمجيد مجتمع ذي علاقات مثلية homosexuelle تجعل صورتها تنبعث من خلال.. المرأة.. والبكر” وحيث شبق الشعراء الجوالين (التروبادور Troubadours).

3 ـ النص الشفوي للمدنية (الأصوات الإشهارية للباعة، لافتات وعناوين المحلات، لغة اقتصاد العصر..).

4 ـ وأخيرا، خطاب الكرنفال (حيث يتجاوز التجانس والغموض والضحك واستشكال الجسد وجنس المشارك والقناع… الخ).

وتستخلص جوليا كريستيفا بأن هذا الرابط التناصي الذي يغير دلالة كل هذه الملفوظات بتجميعها في بنية النص، والذي من الممكن أن ينظر إليه كمجموع متنافر، يشكل مقاربة أولى لما يمكن أن تكون عليه “وحدة الخطاب” في عصر النهضة. وباعتماده على مفهوم التناص، يسمح المنهج التحويلي، أيضا، باستنتاج “العينة الإيديولوجية Idéologème من النص. وهذا الاسم أطلقته جوليا كريستيفا على هذه الوظيفة التي تربط بنية أدبية متماسكة (مثلا رواية) ببنيات أخرى (مثلا خطاب العلم). لقد كان أثر نظرية الجماعة كبيرا في أوساط الطليعة النقدية بعد أحداث ماي 1968. ومع سيميوطيقا؛ أبحاث من أجل تحليل دلائلي ستعود كريستيفا إلى هذه الأداة المنهجية وستحدد، على الخصوص، في دراستها “اللفظ والحوار والرواية” ما لباختين من فضل على مفهوم التناص؛ فإن الأساس في هذا المفهوم نشأ بدءا عن “اكتشاف كان باختين أول من أدخله إلى النظرية الأدبية؛ وهو أن كل نص يتشكل من فسيفساء من الاستشهادات، وكل نص امتصاص وتحويل لنص آخر. وهكذا يحل مفهوم التناص محل تواصل المعارف الذاتية Intersubjectivité. لا يستعمل باختين مصطلح التناص، ولكن الفكرة كامنة في المفهوم الباختيني لـ الحوارية Dialogisme كما نجدها في شعرية دوستوفيسكي Poétique de Dostoïvski (موسكو 1963، الترجمة الفرنسية لـ:إيزابيل كوليتشاف Isabelle Kolitcheff تقديم جوليا كريستيفا؛ سوي 1970 Seuil) وفي فرانسوا رابلي والثقافة الشعبية François Rabelais et la culture populaire (موسكو 1965 الترجمة الفرنسية لـ: أندري روبيل 1970 (André Robel, Gallimard, Paris ونجدها، فيما بعد، في جمالية ونظرية الرواية لـ: باريا أوليفي Baria Olivier, Gallimard, 1978 وفي جمالية الإبداع الشفوي Esthétique de la création verbale (موسكو 1979 الترجمة الفرنسية لـ: ألفريدا أوكوتيريي Alfreda Aucouturier, Gallimard, 1984). ويوضح باختين بجلاء ظواهر الانبعاث التي تجعل من الثقافة مكان عودة عنيفة للتقاليد المنسية، ويقيم الدليل على كون الرواية مهيأة مسبقا ببنيتها الخاصة، لدمج عدد كبير من المكونات اللسانية والأسلوبية والثقافية المختلفة على شكل تعدد الأصوات Polyphonique. إن مجموع تبادل المواقع الممكن، وتواجه الاختلافات على شكل حواري، يجعل من هذا الشكل الأدبي نموذجا تركيبيا يسمح بالتفكير في الأدبية بشكل مغاير. “فالمؤلف مشارك في روايته، كلي الحضور فيها، ولكن بدون لغة خاصة ومباشرة؛ فإن لغة الرواية نظام من اللغات التي تتضح معالمها بالمشاركة والتعاون أثناء الحوار”. إن العناصر المستمدة مباشرة من باختين: (اللغات، التحول عبر ترابط الأصوات المتعددة، الحوارية، الوحدات الخطابية للثقافة) هي العناصر التي تكون مفهوم التناص. وكان تأثيره، بعد، أوضح ما يكون سنة 1981؛ فقد خص تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov هذا الناقد بكتاب قيم هو “ميخائل باختين، المبدأ الحواري” Mikhael Bakhtine, Le principe dialogique, Seuil, 1981 وفيه يقترح تقسيم المبدأ الحواري إلى مفهومين: مفهوم الحوارية بهذا المعنى الضيق، ومفهوم التناص كما حددته جوليا كريستيفا مع احتفاظ هذا المفهوم الثاني بـ”تسمية الحوارية” لـ”بعض الحالات الخاصة للتناص؛ من مثل تبادل الأجوبة بين متحاورين، أو في التصور الذي أعده باختين عن الشخصية الإنسانية”.

هذا الجهد في التوضيح، وهذه “العودة إلى المنابع”، أمر لم يكن، في الحقيقة، امتيازا يحظى به تزفتان تودوروف وحده سنة 1981. ففي نفس الفترة كان هنالك مشارك آخر هو جيرار جنيت Gérard Genette مدير مجلة شعرية Poétique (منشورات سوي Seuil) الذي وضع اللمسات الأخيرة على الموضوع في كتابه “أطراس Palmpsestes” الذي سيقلب بعد حين كل هذا الصرح المفهومي؛ ذلك أن الوضعية النظرية للمفهوم منذ كتاب “سيميوطيقا” تعرضت لكثير من التطوير.

ـ سنوات السبعين: المقاربات الأولى:

لقد ساعد كتاب “نظرية الجماعة” و”سيميوطيقا” بشكل واسع في إخراج مفهوم التناص من دائرة جماعة “تيل كيل”، ولكن، بفضل التأثير الواسع لـ”رولان بارت Roland Barthes، فقط، سيصبح المفهوم محميا في الصفوف الأولى من الساحة النقدية. كانت الكلمة/المصلطح لا تزال تحتفظ لسنوات عديدة بنكهة التمرد. والجامعات (باستثناء أصغر الجامعات في فانسين Vincennes وباريس VII جوسيو Paris VII Jussieu) كانت تفضل تجاهل الفكرة، ولكن المفهوم بدأ شيئا فشيئا في الانتشار؛ فمنذ 1972 دخل المصطلح (التناص) دخولا محتشما إلى الحقل المعجمي حيث نجد في ملحق المعجم الموسوعي لعلوم اللغة Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage لمؤلفيه: أ.دوكرو Oswald Ducrot وت.تودوروف Tzvetan Todorov، نجد فرانسوا واهل François Wahl يتحدث عن “شبكة صلات واسعة وذات مراتب متنوعة” يقيم بها نظامه الخاص وفقا لقواعد اللغة المحددة سلفا.

وفي 1974 نشرت جوليا كريستيفا كتابها ثورة اللغة الشعرية […] لوتريامون وملارمي: La révolution du langage poétique, de l’avant garde à la fin du XIX° siècle : Lautréamont et Mallarmé حيث كانت طليعة نهاية القرن التاسع عشر وخاصة لوتريامون مجال اختبار لتحليل البنية الشعرية تحليلا تناصيا.

في السنة الموالية، بدا مفهوم التناص وقد تماسك بما فيه الكفاية لكلي يصبغ عليه رولان بارت صفة الرسمية في مادة “نظرية النص” من الموسوعة العامة Encyclopaedia universalis كمادة تدخل التأليف الموسوعي. ومن هذا التاريخ صار مفهوم التناص أمرا مقبولا، ولكن، مع الاحتفاظ، دائما، بحق المراجعة.

وتميزت سنة 1976 بغزارة المساهمات الجديدة في الموضوع، فمجلة شعرية خصصت عددها السابع والعشرين كاملا لمفهوم التناص؛ ونجد فيها من البحوث دراسة لوران جيني L.Jenny (استراتيجية الشكل La stratégie de la forme) وبحث أ.توبيا A.Topia (طباقات جويس Contrepoints Joyciens) ونجد دومنيك مانجينو Dominique Maingueneau بدوره في دراسته (مدخل إلى مناهج تحليل الخطاب، Initiation aux méthde l’analyse du discours, Hachette, Paris, 1976) يقترح نوعا من التبسيط للمفهوم الذي، وبسبب تأثير التعميم البيداغوجي، سيتحول إلى تغليب الجانب العلائقي على حساب المكون التحويلي. وبتحديد مصطلح التناص على أنه “مجموع العلاقات التي تربط نصا ما بمجموعة من النصوص الأخرى وتتجلى من خلاله” يغدو مفهومه أكثر رسوخا وسهولة في الاستعمال لكون حقل تطبيقاته غير بعيد عن المجال التقليدي لـ”نقد المصادر”. ونستطيع بالتدريج أن نضم إليه ميادين كلاسيكية أخرى كدراسة المعارضة والمحاكاة الساخرة، وقد يتم أيضا ضم الكثير من الإشكاليات الكبرى للأدب المقارن. إلا أن توسيعا كهذا، مع ما له من مساهمة كبرى في تعميم استعمال مفهوم التناص؛ لن نستغرب وقوفه وراء الاضطراب النظري الذي سيفقد فيه التناص، في المطاف الأخير، ولمدة معينة، الخصائص الرئيسية لمفهومه.

هذا النمو السيء للمفهوم، والذي لا تزال آثاره اليوم قائمة، كان تفاقمه راجعا بدون شك لسنتي 1975-1976 بسبب بعض الاضطرابات الاصطلاحية، خاصة ما يتعلق منها بالمفهوم الفرعي: المتناص [ على وزن المتفاعل ] L’intertexte. فلوران جيني مثلا يقصد به “النص الذي يمتص عددا واسعا من النصوص مع اسمراره في التركيز على معنى معين”، أما ميشال أريفي Michel Arrivé فقد اقترح للمتناص تعريفا يولي فيه الأهمية لجانب العلاقات مما يجعله أوسع من التعريف السابق؛ حيث يرى أنه “مجموع النصوص التي تحكمها علاقات تناصية”، أما ميكائيل رفاتير Michael Riffaterre فلا يرى في المتناص غير النص الذي يشكل مرجعيته، بينما ينتقد بيير مالاندان Pierre Malindain في محاولته تعريف المصطلح، هذا البعد الغيري الخارجي الذي يعرف به المفهوم ويقترح بدلا من ذلك “افتراض وجود فضاء ما في المتناص تتولد فيه تلك العلاقات المتبادلة المكونة للتناص”.

على هامش هذا التشويش، لم يتوقف المفهوم عن الانتشار في لغة النقد، ولكن بهيمنة واضحة لجانب العلاقات. واعتبارا لهذا الإشكال، وقصدا منها لتلافي الانحراف، عادت جوليا كريستيفا سنة 1976 لتلح على البعد التحويلي للمفهوم موضحة أن التناص “تقاطع تحويلات متبادلة لوحدات منتمية لنصوص مختلفة”. إن الجدل إذن لم يزد إلا حدة في نهاية سنوات السبعين.

ـ سنوات 1980: الإنتاجية وتنقيح المفهوم

كانت سنوات 1979-1982 الغنية بالإصدارات شاهدا على دخول مفهوم التناص مرحلة النضج؛ فكانت أعمال “ريفاتير”:

ـ إنتاجية النص: La production du texte, Seuil, 1979

ـ (التعالق النصي): La syllepse intertextuelle, in Poétique, n°40, Seuil 1979

ـ (أثر التناص): Paris, oct.1979 La trace de l’intertexte, in La pensée,

ـ سيميائية الشعر: Sémiotique de la poésie, Seuil 1982

التي تحتل بكل تأكيد مكان الصدارة في هذه الناحية من البحث النقدي؛ وإن كنا نجد فيها تصورا فضفاضا عند تحديد المفهوم؛ فعنده أن “التناص هو ملاحظة القارئ لعلاقات بين عمل أدبي وأعمال أخرى سابقة أو لاحقة عليه”. ويؤدي إجراء “ريفاتير”، على الأقل مبدئيا، إلى المطابقة بجرأة بين التناص والأدبية؛ فعنده أن “التناص هو الآلية الخالصة للقراءة الأدبية، إذ هي وحدها فقط التي تنتج الدلالة في الوقت الذي لا تستطيع فيه القراءة السطرية المشتركة بين جميع النصوص أدبية كانت أو غير أدبية، أن تنتج غير المعنى”. ولكن، وكما ينص على ذلك جيرار جنيت الذي يستشهد بهذه التعريفات في كتابه أطراس، فإن “سعة هذه النظرية مصحوبة بالتقييد والجزئية في التطبيق؛ لأن العلاقات المدروسة من قبل ريفاتير هي دائما منتمية لنظام البنيات الدقيقة micro-structures والدلالية الأسلوبية sémantico-stylistiques في سلم الجملة، لمقطع أو نص قصير، شعري في الغالب. الأثر التناصي، حسب رفاتير، مثل التلميح، ينتمي لنظام الصورة الجزئية بالنظر إلى بنية الجملة أكثر ما ينتمي للعمل الأدبي”. في الحقيقة، وبالرغم من سيطرة بعض الصياغات على مفهوم التناص، فإن الأبحاث الوفيرة لريفاتير حول (بودلير Baudelaire وبروتون Breton وديسنوس Desnos ودي بيللاي Du Bellay وإيلوار Eluard وجوتيي Gautier وكراك Cracq وهوجو Hugo وليريس Leiris ومالارمي Mallarmé وبونج Ponge..) تتميز بإتاحة استعمال جهاز سيميائي يركز على تفسير ظواهر التناص الأكثر تحديدا. إن مجموع هذه التحاليل تم تقديمها باعتبارها تمثل طريقة جديدة للقراءة ينكشف فيها سر الأدبية ذاته ويستفيد النص من دلالته كاملة، ولكن في التطبيق استعمل المفهوم من قبل ريفاتير في حدود الأداة الأسلوبية والسيميائية المسايرة للفرضيات التي صاغتها كريستيفا، مع تعزيزها بتجارب نصية غنية ومكثفة.

وثاني هذه الإصدارات المهمة في أوائل سنوات الثمانين كان مؤلف أنطوان كومبانيون Antoine Compagnon الذي بدأه حوالي سنة 1975 ونشره سنة 1979 بعنوان اليد الثانية أو اشتغال الاستشهاد (La seconde main ou le travail de la citation, Seuil ) ويقدم فيه لأول مرة دراسة منهجية واسعة للاستشهاد باعتباره ممارسة تناصية. وبإدراك أن الاستشهاد “تكرار لوحدة من خطاب في خطاب آخر”، فإن ذلك يعني كونه إعادة إنتاج للملفوظ (النص المستشهد به) الذي يقتطع من نص أصل (نص1) ليتم إدخاله في نص مستقبل (نص2). وإذا كان هذا الملفوظ المستشهد به يبقى على حاله بالنظر إلى دواله، فإن تغيير الموقع الذي يتعرض له يحول دلالته وينتج قيمة جديدة، ويتسبب في تحويلات تؤثر في دلالة النص المستشهد به والنص المستقبل له معا، عند نقطة الاندماج بينهما. بهذا التحديد المنهجي لقضية الاستشهاد يقترح أنطوان كومبانيون اعتباره نموذجا للكتابة الأدبية التي تتسم بنفس مقتضيات تحويل العناصر والتوفيق بينها: “دور الكتابة هو إعادة كتابة كلما تعلق الأمر بتحويل عناصر متفرقة ومنقطعة داخل كل مستمر ومتماسك […] كل كتابة هي تجميع وشرح واستشهاد وتعليق”. بطبيعته الهجينة (قراءة وكتابة في نفس الوقت) ينظر إلى الاستشهاد على أنه وجه من أوجه التناص الذي من خلاله تنكشف قضية أعمق لا يمثل هو فيها غير أثر من آثارها المميزة، وهذه القضية هي اشتغال الكتابة والطاقة التي تسري في هذه البنية المتحركة.

كانت دراسة أنطوان كومبانيون مثلها مثل أعمال ريفاتير –ولكن من وجهة نظر أخرى- تذهب في اتجاه إعطاء قيمة أكثر عمومية للتناص باعتباره معطى رئيسا لتفسير الظاهرة الأدبية، ولكن هذا التقدير الواسع يبقى محصورا في دراسة الأشكال الأكثر وضوحا للتناص (أي في كونه حضورا فعليا وحرفيا لنص في آخر)، ويغدو مفهوم التناص نفسه ثابتا في بعده المزدوج: العلائقي والتحويلي. وإذا كانت الأدبية قد اعتبرت أفقا له، فذلك بسبب توضيح بعض جوانب الوحدة بين الاستشهاد والكتابة.

وكما نلاحظ، فبعد عشر سنوات عشر من الجهود المكثفة والمتشعبة، أخذ حقل الدراسات التناصية في التكون، وقد جاء المشروع العام للتوضيح النظري لا من النقد الأدبي، ولكن من الشعرية التي تسعى بالضبط إلى تجاوز فرادة النصوص وتميزها، والاهتمام بدلا من ذلك بجامع النص L’Architexte، أي بمجموع الأصناف العامة (أنواع الخطاب، أنماط الملفوظ، الأنواع الأدبية.. الخ) التي عليها تتأسس النصوص. كان ذلك أولا على شكل مشروع عمل في مدخل لجامع النص (Introduction à l’architexte, Seuil, 1979)، ثم بطريقة أكثر تفصيلا في أطراس ( Palimpsestes, Seuil, 1982 حيث يقترح جيرار جنيت تحديدا جديدا وشاملا للمجال النظري الذي يمكن أن ينحصر فيه بوضوح الفضاء المميز للتناص. إن إعادة تنظيم كهذه، لا يمكن أن تتشكل إلا بالانطلاق من زاوية نظر خارجية بعيدة تماما عن المنحى التأويلي. هذه الرغبة في البعد التي تبلور وجهة نظر واضحة وموضوعية هي التي تميز مفهوم “ما وراء النصية Transtextualité” التي يجعل منها جيرار جنيت موضوع الشعرية ويحددها كمتعالية نصية للنص Transcendance textuelle du texte تؤطر “كل ما يجعل نصا ما في علاقة ظاهرة أو خفية بنصوص أخرى”. وبعيدا عن التطابق مع التناص تظهر “الماوراء نصية” فروقا عميقة بين مختلف أشكال العلاقات التي يمكن للنص أن ينشئها مع نصوص أخرى؛ من هنا يقترح جيرار جنيت التمييز بين خمسة أنواع من العلاقات الماوراء نصية ويرتبها وفق نظام تصاعدي من التجريد Abstraction إلى التضمين Implication إلى الإجمال Globalité وهذه الأنواع هي:

1 ـ التناص بالمعنى الذي صاغته جوليا كريستيفا وينبغي أن يكون محصورا في حدود “حضور فعلي لنص ما في نص آخر”.

2 ـ التوازي النصي Paratextualité أو العلاقة التي ينشئها النص مع محيطه النصي المباشر (العنوان، العنوان الفرعي، العنوان الداخلي، التصدير، التنبيه، الملاحظة..الخ). ففي إطار هذا المجموع النصي يتكون العمل الأدبي (ينظر: جيرار جنيت، عتبات، منشورات سوي G.Genette, Seuil 1987).

3 ـ النصية الواصفة Métatextualité أو علاقة التفسير التي تربط نصا بآخر؛ بحيث يتحدث عنه دون أن يتلفظ به بالضرورة. وبتعبير أفضل: هي علاقة نقد.

4 ـ النصية المتفرعة Hypertextualité أو العلاقة التي من خلالها يمكن لنص ما أن يشتق من نص سابق عليه بوساطة التحويل البسيط أو المحاكاة، وفي هذا النوع ينبغي تصنيف المحاكاة الساخرة والمعارضات (وقد كرس كتاب أطراس لهذا النوع من الماوراء نصية).

5 ـ النصية الجامعة Architextualité وهي علاقة بكماء ضمنية أو مختصرة لها طابع تصنيفي خالص لنص ما في طبقته النوعية (ينظر جيرار جنيت، مدخل لجامع النص Introduction à l’architexte).

مثل هذا الجهاز المفاهيمي يزيح كثيرا من الغموض الذي كان الخطاب الواصف النقدي يكثر حوله الجدل. فهو يسمح مثلا بتمييز المجال الدقيق للتناص والنصية المتفرعة عن المعارضة والمحاكاة الساخرة التي تمتلك قواعد تكوينها الخاص بداخلها. وبكل وضوح فقد أصبح مفهوم التناص أكثر حصرا وتحديدا عما كان عليه في الماضي؛ يعرفه جيرار جنيت “بعلاقة حضور متزامن بين نصين أو أكثر” أو هو الحضور الفعلي لنص داخل نص آخر (حضور ملاحظ، مع الأثر التحويلي لهذا الحضور) وبدرجات وأنماط عديدة ومختلفة في هذه العلاقة: “بشكلها الأكثر جلاء وحرفية؛ وهي الطريقة المتبعة قديما في الاستشهاد (بين مزدوجتين، بالتوثيق أو بدون توثيق). أو بشكل أقل وضوحا وأقل شرعية (في حال السرقة الأدبية كما نجد مثلا عند “لوتريامون Lautréamont) وهو اقتراض غير مصرح به ولكنه أيضا حرفي. أو بشكل أقل وضوحا وأقل حرفية في حال التلميح L’allusion، أي في ملفوظ لا يستطيع غير الذكاء الحاد تقدير العلاقة بينه وبين ملفوظ آخر لما يحس فيه من نوع نحوه بشكل ما من الأشكال، وإلا فإنه يبقى غير ملحوظ؛ كما كتب بوالو Boileau مثلا في سجل قديم للويس الرابع عشر Louis XIV:

للحكاية التي من أجلك أنا مستعد للبدء فيها

أخالني أرى الصخور تهرع لتسمعني

فهذه الصخور المتحركة المتيقظة ستبدو بدون شك ضربا من العبث لمن لا يعرف أساطير “أورفي Orphée وأمفيان Amphion” (أطراس). وكما يذكر جنيت في هذه الفقرة من أطراس فإن الجهود المعاصرة في الاشتغال على التناص تقع في حدود هذه التعريفات السالفة الذكر: تطبيقات الاستشهاد لدى أنطوان كومبانيون، دراسة السرقة عند كريستيفا، التلميح والوضع الضمني للتناص لدى ريفاتير.

وبوضعه حدا للمفاهيم الفضفاضة حول التناص، لا يحتفظ أطراس بغير الأبحاث الرئيسية في هذا المجال. ولا نستطيع، مع ذلك، القول بأن هذا الوضوح المفهومي قد حقق حوله إجماعا على الفور؛ فبعد ظهوره سنة 1982 بدا تأثير أطراس بطيئا، إلا أن فعالية تفريعاته بدأت تؤتي أكلها في أغلب الأبحاث التناصية التي أخلصت لتيار سنة 1980. ونجد، فوق ذلك، أبحاثا تساهم في استكمال صلاحية مقترحات جنيت التعريفية؛ ففي أطروحة جامعية نوقشت سنة 1988 بجامعة باريس III تحت عنوان

الممارسة التناصية عند مارسيل بروست من خلال في البحث عن الزمن الضائع: مجالات الاقتراض (La pratique intertextuelle, Marcel PROUST dans « à la recherche du temps perdu », Les domaines de l’emprunt) (وصدر ضمن منشورات “Titre” سنة 1990 تحت عنوان مارسيل بروست: لعبة التناص) أبرزت الباحثة أنيك بوياكي Annick Bouiaquet بوضوح إمكان تنظيم الاقتراض التناصي L’emprunt intertextuel بوساطة تقاطع مفهومي “الحرفي” و”الواضح” Littéral et explicite. فالاستشهاد اقتراض حرفي وواضح، والسرقة اقتراض حرفي وغير واضح، والإحالة اقتراض واضح وغير حرفي، والتلميح اقتراض غير حرفي وغير واضح. بعد هذا التطبيق في العالم الروائي للنص البروستي سيسمح هذا الجهاز بتوضيح معقول لعدد لا يستهان به من الظواهر النصية التي لا زالت لحد الآن إما خفية أو ملغزة. وبنفس الطريقة نجد اليوم بعض الروائيين الكبار أمثال فلوبير Flaubert موضوعا لأبحاث يتقاطع فيها التحليل التناصي مع تحليل المخطوطات ودراسة مكونات العمل الأدبي.

إن البحث في “ما قبل النص L’avant texte” عن كيفية تكون الاقتراض، وفي حال نشأته، عن كيفية حدوث الاستشهاد والسرقة والإحالة والتلميح من خلال تملك Appropriation وإدماج intégration يسع فضاء النص المنجز، وإن فهم الظاهرة التناصية في هذا البعد الثالث للنص الذي هو إنتاجيته؛ كل هذا وذاك سيكون اليوم، بدون شك، الأفق الذي يفتحه في النقد الأدبي التكامل الواضح للدراسات التناصية والأبحاث في الوراثيات النصية Génétique textuelle.

إن مفهوم التناص، وهو لم يصل بعد إلى درجة من الكمال، من المحتمل أن يدخل اليوم في مرحلة جديدة من إعادة التعريف.

المرجع:

Encyclopaedia Universalis S.A. 1997, Tome 12, p514-516.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.