+ بقلم: الدكتور السعيد أخي
قاعة انتظار مجموعة قصصية للمبدع القاص هشام حراك ، صادرة عن الرباط نت ، بتاريخ 2012 ، تتكون هذه الأضمومة من تسع وعشرين قصة ، جاءت في إحدى وخمسين صفحة من الحجم المتوسط.
من خلال هذا الإصدار أمكن القول إن المكتبة المغربية ازدانت بروائع من الحكي القصصي السردي ، ولم تكن (قاعة انتظار ) وحدها عقد إصدارات هشام حراك ، بل كانت مولودا أخيرا آخى به إصدارين متميزين هما: (السوق اليومي) و( سيلان) ، بالإضافة إلى مسرحيتين لا معتين في جنس المسرح هما : (الانتظار) و( المستنقع ).
إن الناظر في المجموعة القصصية ( قاعة انتظار) يحس برغبة كبيرة في امتلاك الأدوات النقدية لسبر غور الإبداع القصصي للمبدع الراقي ، حيث الحكي عنده يختزن مجموعة من الرؤى الراصدة لواقع ماثل وموجود تتحرك بداخله شخوص تكتوي بلظى الانتظار والمرهونة بالتهميش القسري ، داخل أمكنة وأزمنة تتفاوت من حيث درجة البعد والقرب من تحقيق الآمال البعيدة . هكذا أمكن القول:إن التعامل مع البعد السردي لهشام حراك تقتضيه الضرورة الموضوعية من خلال مستويات متعددة ، بحيث يمكن رصده سياسيا و اجتماعيا واقتصاديا و إبداعيا.
هشام حراك وانطلاقا من زخم تجاربه وتكوينه في حقل الإبداع والإعلام رسم لنفسه طريقا لقراءة الواقع عبر مسافات متنامية من الفن القصصي ، ولهذا نقول إنه واحد ممن أسهموا وبكثير من الخبرة والجرأة على اجتراح هذا الواقع واختباره من خلال حكيه المتميز، والقارئ النّبيه يدرك دون كثير عناء أن ( قاعة انتظار) استجابت للمقومات النقدية الحديثة ، لأنها التزمت بالإبعاد السردية التي اختارها القاص لحكيه .
وتأسيسا على ذلك نستطيع القول بأن قاعة انتظار استجابت لكل الميكانزمات والآليات النقدية الجديدة في مضمار القص العربي ، ونحن لا ندعي من خلال هذا العمل بأننا قدمنا قراءة نهائية للمجموعة القصصية ، بل تدخل محاولتنا ضمن مجموعة من القراءات التي تكشف مكنون إبداع هشام حراك السردي . وتبقى (قاعة انتظار) أضمومة سردية مفتوحة لكل القراءات والتأويلات نظرا لغزارة المعنى فيها وللأبعاد والدلالات و الرؤى.
إن (قاعة انتظار) تقدم نفسها للقراء من خلال مجموعة من التقنيات السردية ، التي تبين بجلاء الوعي الإبداعي للقاص. وأول هذه الأبعاد نرصد بالدراسة عتبة العنوان:
العــــــــنــــــوان :
جاء عنوان هذه المجموعة القصصية في كلمتين تجمع بينهما علاقة الإضافة . و يشكل العنوان في الدراسات النقدية القديمة والحديثة ، العتبة التي تعطي انطباعا قويا للقارئ حيث يشده للقراءة ويشوقه لاكتشاف الأحداث ، ونظرا لكثافة المعنى في العنوان فإنه يكشف عن بعد دلالي قوي يختزن المعنى المكنون داخل المتن السردي . وهو بالإضافة إلى ذلك نص موازي للمتن كما عبر عن ذلك جيرار جنيت.
وإذا نظرنا إلى عنوان المجموعة ألفيناه مستلا من داخل المتن القصصي حيث تسجل قاعة انتظار نوعا من الاختزان للأبعاد الدلالية لكل القصص داخل المجموعة ، زد على ذلك أن هذا الاختيار له ما يبرره ، حيث قوة الحدث داخل (قاعة انتظار ) يلخص بعمق فضاءات واقعية داخل المجتمع ، فالكل ينتظر دوره ليلاقي الخلاص . الخلاص من ضغط الزمن وإكراهات الجسد . لقد تحول الطبيب من شخص عاد يقدم خدمات إنسانية إلى لحظة ، تمنّي فيها المريضة النفس بلقاء لخلاص من التعب والصراخ والألم …، لا أحد حالفه الحظ لاقتناص هذه اللحظة ، الكل يعيش في زمن بين المتلاشيات والكراسي المتناثرة ، إنها الحياة بكل تلاوينها عاشها المنتظرون .
تأتي الكلمة الأولى من العنوان في سياق إبداعي متميز بغناه الدلالي : (قاعة) لتسجّل فضاء مفتوحا حيث يمتد من الأماكن الصغيرة التي يصنعها الإنسان لنفسه كي تصبح سجنا للذات وللآخرين ، إنه الفضاء الذي يلخّص كل فضاءات الحياة التي تتحول إلى معتقلات حقيقية للجسد والروح و تستمد (قاعة) دلالتها من وظيفتها ، لكن نجد بالمقابل قاعات انتظار أخرى خصصت للمحظوظين فقط ، لا مكان فيها للانتظار . لكن قاعات هشام حراك أعدت لتكون للمهمشين من الفقراء والمحرومين من عامة الناس ، إنهم موجودون في واقع ينضح بالفوارق الاجتماعية . وبالنظر إلى “جاكلين وفطومة ” حيث تنتظر الأنثى التخلص من واقع مفروض سلفا ، واقع محكوم بالعادات والتقاليد ، هو ذاك الواقع الذي يفترق عما تعيشه “جاكلين” حياة مفعمة بالحرية والحداثة ، إنه هارب من ضغط الأمراض النفسية والاجتماعية ، أما “فطومة” فقدرها أن تنتظر التحرر من قيود تكبّلها تعيدها إلى التفكير في ذاتها مع كثير من الحسرة و الضيم، هذا الواقع الذي يسيطر على فطومة كان مفروضا ، تحس انه سيعطل حياتها ، وهو ما حصل بالفعل.
تأتي الكلمة الثانية التي تشكل العنوان وهي لفظة (انتظار) وبالرجوع إلى جذرها اللغوي سنجد أنها تحيل على الترقب المستمر داخل الزمان والمكان ، وتأسيسا على ذلك فالانتظار يسم كل نصوص المجموعة القصصية ، حيث إن كل شخوص الحبكة السردية ينتظرون داخل فضاءات تختلف باختلاف الظروف : هناك من ينتظر حتفه وهناك من ينتظر الفرج وهناك من ينتظر أن يعيش الحياة …، الكل يترقب فجرا جديدا لحياة أفضل . إنه التمرد بصيغة الحكي عن واقع مهترئ يسيّج المهمّشين داخل قاعات انتظار ، ينتظرون أدوارهم للظفر بالخيبات والأحزان وللرحيل مع غروب كل شمس تأهبت لذلك.
الصورة الفنية للمتن السردي :
يختزن المتن السردي عند هشام حراك بعدا فنيا راقيا يتحدد من خلال كثافة الصورة الفنية ، التي حوّلت اللغة من مجرد رصد للأحداث المتعاقبة إلى عوالم من التخييل حيث غدت الفضاءات والأمكنة والأشخاص أيقونات تنضح بالحياة .
لقد حول هشام حراك الحكي إلى دينامكية تتنامى فيها لحظات التعبير من خلال الصور التشبيهية :
– يجرها من كتفيها سائقا إياها كالأضحية صبيحة العيد
– تلقى صاحبنا الخبر كالصاعقة وهو يضحك
– اللعنة على هذا التفكير الذي صار يلاحقه كظله
– الى درجة صار معها رأسه كاللغم القابل للانفجار
– وصار معها جسده كالمسمار
– ويسير متمتما بكلام مبهم كالمجنون
إن حضور البعد التصويري (الصورة التشبيهية) يعطي انطباعا لرسم الأفق الجمالي للقص ، وينشر بين المتن الحكائي لحظات المتعة عند المتلقي للخروج من عالم السرد الحكائي إلى عوالم الصورة الشعرية الراقية ، هذا التنوع الإبداعي في خلق الامتاع عن طريق التصوير داحل المتن القصصي لهشام حراك يؤذن بفلسفة جمالية الحكي واللغة حيث الصورة ثاوية وراء الأحداث ، والقارئ الحذق هو من يكتشف المعاني من خلال تأويل الصور الإبداعية لخلق انسجام تام بين الحدث الواقعي الذي نراه في العيان والبعد التخييلي الذي يهز المتلقي للتّماهي والدخول في علم القص دون تردد .
لقد أدرك هشام حراك من خلال توظيف مخياله القصصي أن توظيفه اللغة العامية داخل متنه السردي سيحول الأحداث إلى لحظات من التجواب الفعلي بينه وبين قارئه ، وفي هذا الإطار نقول : إن الحديث عن استخدام العامية في الكتابة الإبداعية ، تتباين الآراء حوله وتختلف وجهات النظر، فثمة فريق يرى بأن العامية قادرة على نقل الوقائع والأحداث بمصداقية، وبحرارة ملتصقة بالأحداث اليومية ، بينما يرى فريق آخر بأن الكتابة الأدبية لا تتحقق إلا عبر اللغة العربية الفصحى . لكن ومهما يكن من شيء فإن كبار الكتاب العرب استعملوا اللغة العامية في إبداعهم وضمنوها إنتاجهم الروائي والقصصي ونذكر على سبيل المثال لا الحصر نجيب محفوظ الذي كان مهووسا باللغة العربية لكن استعمل بعض الكلمات بالعامية المصرية ، أما توفيق الحكيم فقد ضمن العامية مجموعة من أعماله ، مثلهما كثير في هذا الباب ، أما القاص هشام حراك فهو واحد من المبدعين الذين يرون بأن بعض الكلمات و الجمل بالعامية المغربية قد يغني ذلك الدلالة ويضفي على العمل القصصي بعدا فنيا يشد شرائح اجتماعية كبيرة للقراءة وتأويل وردّ الحدث إلى الواقع المعيش في لحظات تشكّله أول مرّة .
دينامية المتن القصصي :
يعتمد القاص على بنية فعلية متنوعة ، تكاد تهيمن على المتن الحكائي ، مما يجعل القارئ أمام دينامية لا متناهية للأحداث ، حيث إن هذا الحضور المتميز للأفعال يعطي انطباعا ايجابيا أن هشام حراك يدرك جيدا أن البنية الحكائية لنصوصه تسير وفق تصور واقعي داخل مجتمع تتحرك فيه الوقائع والأحداث بصورة لافتة، دون أن تتحقق الأماني للشخوص في ظل ممانعة الواقع .إن هذا الابتعاد عن تكلّس الأحداث ورتابتها هو ما يجعلنا نحس بالقصة وننصهر داخل عوالمها دون روِيّةٍ أو إعمال فكر ، وهكذا تتحول الأحداث داخل المجموعة القصصية وكأنها كائن حي موجود يستفزنا للقراءة والتفاعل الايجابي معه ، لقد وظف هشام الحراك ما يربو عن خمسمائة وستين فعلا ، وما يزيد عن واحد وثلاثين اسم فاعل . ولعل الحضور المكثف للأفعال يعطي انطباعا قويا بحركية الفعل السردي وتعاقب الأحداث متنامية بشكل تصاعدي لتصنع أفقا رحبا للقراءة ولتشد القارئ للبحث عن مستويات المتعة ، وإعمال العقل لتأويل الأحداث والشخصيات والأزمنة والأمكنة ، لترقى فلسفة الحكي من مجرد سرد إلى واقع ينضح بالمهمشين والفقراء الباحثين عن دفء المكان والزمان . إن ايجابية الحضور متميز في قص هشام حراك يجعل المتلقي متفاعلا لا يحس بالرتابة ولا يمل من متابعة القراءة لمعرفة النهايات اللامتناهية داخل واقع ترسم أمكنته وزمانه قاعات للانتظار في واقع موسوم برحيل المنتظرين .
إن الفعل القرائي يترسم عبر الاشتهاء الممتد من الصفحات الأولى للمجموعة القصصية وعبر التلاوين الفنية الراقية التي تضمخ الأحداث المتنامية للفقراء والضعفاء بعيدا عن الاستلذاذ بمحنهم ولكن لرسم الخطى الأولى لمعرفة واقعهم المرير. وبالجملة ليتمكن القارئ من رصد لحظات الحزن والفرح عند هؤلاء.