من ذكريات المكتبة (9)





كان ذلك الصّباح باردًا من خريف شديد البرودة. و كنت في طفولتي لا أستكين للنّوم إلا قليلا.غادرت البيت و غبش الفجر. لبعد المسافة بين بيتنا و المكتبة. اجتزت أزقة الحي التي كانت خالية إلا من بعض القطط، و الكلاب الضّالة..لم أبال بالمظاهر التي كانت تجسد الرّعب في كلّ اتّجاه.و لم أكن لأهتم إلاّ بالكتاب الذي استعرته منذ أسبوع، خشية أنْ يضيع منّي . فطالما حذّرني أبي من قطاع الطرق… لذا كنت أضع الكتاب بين بطني و حزام سروالي و أخفيه بمعطفي. إلى أن أصل باب مكتبة البلدية.التي غالبا ما كنت أجدها مغلقة. فأجلس عند عتبتها في انتظار أن تُفتح.

و في ذلك الصّباح البارد، فوجئت بأحدهم يقف بجانبي، حافي القدمين ، كانت أسماله رثة، و شعر رأسه أشعث.و فمه يكاد لا يظهر،تخفيه لحية كثيفة سوداء وخطها الشّيب .. جحظني بعينين مضطربتين و قال بصوت أجش و لغة فصيحة:

ــ ماذا تقرأ في ذلك الكتاب؟

قلت مضطربا، خائفا، مذعورا:

ــ المعلقات السّبع..

فاقتحمني بنظرات يتطاير منها الشَّرر. وقال مستفسرًا.

ــ أنت تقرأ المعلقات السّبع.. ؟! أتظنّني مجنونا؟ طفل في سنك يقرأ المعلقات؟! كم سنك ؟ لا تقل شيئا .. أنت لم تتعد اثنتي عشرة سنة..

اندهشت كيف عرف سنّي؟! و زاد اندهاشي حين صار يستعرض أسماء أصحاب المعلقات، ..ثمّ طأطأ رأسه و مضى يترنّم بالشّعر، و يلتفت إلي كلّ بضع خطوات. و كنت في وحدتي مضطربًا، أخشى أن يعود، و لكنّه مضى و هو يردد:

ألا هبي بصحنك فأصبحينا *** و لا تبقي خمور الأندرينا

بعد أسابيع من ذلك، فوجئت به داخل المكتبة. كان يطالع في هدوء. و لكن تملكني الذّعر حين صار يتطلّع إلي، و يُمعن النّظر، و كأنّه يستعيد ذاكرته. فما أن مرّ به قيم المكتبه حتّى صاح به:

ــ كيف تمنح المعلقات لهذا الصّبي؟!

فخاطبه القيم بهدوء و ابتسام :

ــ لا عليك يا أستاذ الهاشمي، فالصّبي يحفظ معلقتين كاملتين..

فنكس رأسه ببطء.. ثمّ فجأة! ترك الكتاب و هرول إلى الخارج…فكان ذلك أخر عهد لي به .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.