الدكتور عبد العلي الودغيري في مرافعة بليغة عن اللغة العربية: اللغة العربية ليست كلمات نتبادلها أو نكتبها، وإنما هي خزان للثقافة والهوية والحضارة والتاريخ ..
الدار البيضاء: مختبر السرديات
يعتبر عبد العلي الودغيري واحدا من أهم الباحثين المدافعين عن اللغة العربية بوصفها خزّانا للثقافة والحضارة والتاريخ، وذلك من خلال تآليفه الأكاديمية وأبحاثه البكثيرة أو مقالاته في الصحافة المغربية والعربية.
درس عبد العلي الودغيري بمدن فاس، والرباط وباريس، وحصل على الإجازة في الأدب العربي سنة 1970، ودكتوراه السلك الثالث سنة 1976، ودكتوراه الدولة في اللغة العربية وآدابها سنة 1986. وتابع دراساته العليا في جامعتي السُّوربون بباريس وجامعة محمد بن عبد الله بفاس، وجامعة محمد الخامس بالرباط.عمل أستاذا بالتعليم الثانوي والجامعي في كليتي الآداب بفاس والرباط. كما عمل مستشاراً بوزارة الشؤون الثقافية المغربية، وكاتباً عاماً للجنة الوطنية للثقافة. عضو سابق في المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب، وعضو مؤسس لاتحاد اللسانيين المغاربة. أصدر مجلة الموقف وعمل مديراً لها منذ 1987..
تولى منصب رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بالنيجر (تابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي) من 1994 إلى 2005، ومدير مؤسسة علال الفاسي بالرباط من 2006 إلى 2008 . حاصل على الدكتوراه في العلوم اللغوية ومتخصص في الدراسات المعجمية. أستاذ سابق في جامعة محمد بن عبد الله بفاس وجامعة محمد الخامس بالرباط. حاصل على جائزة المغرب للكتاب ثلاث مرات، وعلى جائزة الألكسو – الشارقة، وجائزة الملك فيصل في اللغة (فرع اللغة والأدب). عضو المجلس العلمي لمعجم الدوحة التاريخي.
يكتب عبد العلي الودغيري في الشعر والبحث والمقالة والترجمة. من دواوينه الشعرية: الموت في قرية رمادية (1980)- لحظة أخرى (1995).
وفي مجال الدراسات والأبحاث:
• أبو علي القالي وأثره في الدراسات اللغوية والأدبية (1976)
• قراءات في أدب الصباغ (1977)
• المعجم العربي بالأندلس (1984)
• قضايا المعجم العربي في كتابات ابن الطيب (1989)
• التعريف بابن الطيب (1990)
• الفرنكوفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب (1993)
• اللغة والدين والهوية (2000)
• الدعوة إلى الدارجة بالمغرب – الجذور والامتدادات، الأهداف والمسوغات (2011)
• اللغة العربية والثقافة الإسلامية بالغرب الإفريقي وملامح من التأثير المغربي (2011)
• اللغةُ العربية في مراحل الضَّعفِ والتبَّعيّة (2013)
• لغة الأمة ولغة الأم (2013)
• نحو معجم تاريخي للغة العربية، إلى جانب مجموعة من المؤلفين (2014)
• العربيات المغتربات: قاموس تأثيلي وتاريخي للألفاظ الفرنسية ذات الأصل العربي أو المعرب (2018)
القاموسية العربية الحديثة(2019).
في حوار له نشر على جزأين في قناة كشبريس مع مصطفى غلمان، يتحدث د عبد العلي الودغيري عن قضايا اللغة والمواقف والمجتمع برؤية علمية وحس وطني وذكاء يعي السياق والآفاق، وفي ما يلي أهم فقرات هذا الحوار:
دائما نتحدث عن أزمة اللغة العربية، أزمة مجتمع، أزمة معرفة، أزمة مستقبل للهوية التي لا زلنا لحد الآن نتخبط في التعريف بهذه الهوية وبمدى أهميتها في مجتمع المعرفة، لماذا هذه المشكلات دائما مطروحة؟ وما الوازع لأن تبقى إلى ما لا نهاية، ونحن في القرن الواحد والعشرين؟
شكرا على السؤال المهم الذي يتكرر دائما. في الحقيقة هي ليست أزمة لغة، وليست أزمة هوية بقدر ما هي أزمة مجتمع يبحث عن نفسه ومشدود نحو عدة اتجاهات تتجاذبه ولا يجد نفسه ولا يجد طريقه، وبطبيعة الحال الناس عندما يرون هذا يعتقدون أنها مسألة لغة، وأنه لو استبدلنا هذه اللغة العربية بلغة أخرى لاكتشفنا أنفسنا وانتقلنا إلى مستوى متقدم أو مزدهر، وهذا خطأ كبير، ولا أدل على ذلك ولا أقرب إلى الذهن من قضية أزمة التعليم التي بعد أن فكر ودبر المهتمون أو المشرفون على منظومة التعليم ببلادنا أرجعوا المسألة إلى اللغة، وقالوا المسألة مسألة لغة وهي سبب تخلف التعليم وتأخره، إذ حينما تخلينا عن الفرنسية ولو لمدة قصيرة، لمدة أربعة عقود أو أقل، نزل المستوى وانخفض التحصيل، فالمشكل إذن مشكل لغة، ومع الأسف هناك من يترك الجاد ويبحث عن الفروع، جادة الطريق واضحة ونبحث عن الدروب الملتوية، فضحوا باللغة العربية بعد تجربة كانت ناجحة بقانون 51/17 الذي سموه بالقانون الإطار أو مدونة التعليم، مع الأسف كان خطأ فادحا لا يغتفر، شارك فيه الجميع تقريبا، من الذين كانوا يسيرون والذين كانوا يعارضون، فالمشكلة إذن ليست في اللغة، فأي أمة أو شعب أو مجتمع يريد أن يتقدم يمكن أن يستعمل لغته، فاللغة الوطنية أو لغة الهوية هي التي بها تتقدم الشعوب وتتقدم الأمم، ولا يمكن أن تتقدم بلغة مستعارة.
دائما نتحدث عن النخب التي أخذت المشعل ما قبل الاستقلال وما بعد الاستقلال، ووجهت إليها سهام النقد في تدبير إشكالية اللغة في المدرسة وفي الإدارة المغربية، هناك نخب مغتربة أو متَغربة كانت من مخلفات الاستعمار وتركت ندوبا كبيرة في الجسم الهوياتي المغربي، ولا زالت لحد الآن تقبع فوق هذه الجثة المخمورة التي استدعتها الطفرة الاستعمارية الفرونكوفونية وآلمتها أيما ألم حتى أصبحت تأتمر بأوامرها، هذه النخب لها جزء غير يسير من الدفوعات الشكلية لأزمة اللغة العربية في الهوية المغربية الوطنية.
طبعا، النخب أنواع وفئات، كانت في مرحلة الحماية أو الاستعمار، هناك نخبة وطنية وهذه النخبة كان لها برنامجها ورؤيتها وبرامجها الاستراتيجية، تبدأ هذه الرؤيا من ناحية اللغة والثقافة والهوية والإصلاح، وتبدأ ملامحها تظهر في دستور 1908، الدستور الذي كتبته نخبة حقيقية مُصلحة كانت تفكر في مستقبل المغرب البعيد، وفي هذا الدستور تجد الخطوط الواضحة للطريقة التي كانت تفكر بها النخبة الوطنية الحقيقية التي كانت تعمل على تحرير البلاد تحريرا ثقافيا لغويا قبل أي تحرير آخر، قبل تحرير الأرض أو تحرير الاقتصاد. في هذا الدستور تجد أن هناك بنودا تنص على أن اللغة العربية لغة أساسية في التعليم، وأي موظف أو مسؤول يتولى مسؤولية في الدولة يجب أن يكون له مستوى من العربية يحترم، إلى غير ذلك من الشروط.
ويجب أن تدرس بها جميع العلوم وجميع المعارف، وهذا وعي متقدم ضاع مع الأسف ولا أحد يلتفت إليه، لقد دخلت النخب الوطنية في صراع مع التوجه الاستعماري، ففتحت مدارس لتعليم العربية لمواجهة السياسة الفرونكوفونية في مجال اللغة والتعليم، وظلت في ذلك الصراع إلى أن جاء الاستقلال، ولما جاء الاستقلال حاولت أن تضع المدرسة الوطنية للمغرب وللمنطقة كلها، فوضعت الأسس أو الدعائم الأربعة، وهي: التعميم- التوحيد- التعريب- المغربة. ومع الأسف لا شيء من هذا تحقق ما عدا عنصرا واحدا هو المغربة، لكن المغربة بفكر آخر غير الفكر الوطني الذي كان ينبغي أن يستمر في أخذ المشعل، فقضيَ على هذه المبادئ، أما قضية التوحيد فقد كان من المفترض أن تأخذ جميع المدارس والمناهج طابعا واحدا متكاملا، فلا نحن عممنا ولا نحن وحدنا ولا نحن استعملنا لغتنا الوطنية، لأن هذه النخبة التي كونها الاستعمار في الماضي هي التي أصبحت بيدها الأمور وهي التي صارت تناهض اللغة العربية.
عادة ما تتهم اللغة العربية بأنها لغة متخلفة وعندما جاء الغرب وجد أن اللغة العربية مهترئة ومتخلفة ولا تصلح للتعليم ولا تصلح لشيء، ولذلك فالحل هو التوجه نحو اللغات الأجنبية، ولكن النهضة العربية بدأت قبل دخول الاستعمار إلى منطقتها، مثلا في الشرق النهضة في مصر والشام بدأت مع بداية القرن التاسع عشر، على يد محمد علي الباشا الحاكم باسم الترك، صحيح هو الصدمة التي حدثت بعد دخول بونابرت، وهو أول استعمار أوربي جاء إلى المنطقة العربية في أواخر القرن الثامن عشر، لكن بونابرت خرج لأنه لم يستطع الاستمرار وتم إحياء الولاية التركية وجاء محمد علي باشا، لم يكن عربيا، هو ألباني لكن كانت له بصيرة وتبصر وفطرة، فقام بمجموعة إصلاحات كبيرة جدا للنهضة في العالم الإسلامي وفي الشرق، وأسس مدارس وجامعات ومدارس حربية، ووجه عددا من الطلاب النابغين الذين كانوا على مستوى من التعليم الجيد من الأزهر وغيره وبعثهم إلى أوربا وفرنسا وتعلموا الطب والهندسة ثم رجعوا حاصلين على شهادات عليا في كل المجالات، وطلب منهم أن يترجموا هذه العلوم التي تعلموها من العرب، وبدأ هنا التأليف في الطب والفلسفة وفي الفلاحة والزراعة، ونشأت مجلات وصحف.
كان هذا قبل دخول الاستعمار البريطاني، لقد ظلت البلاد حوالي ثمانين سنة في طريق النهضة والإحياء قبل أن تدخل بريطانيا، لأنها حين دخلت حولت التوجه من العربية إلى الانجليزية، نفس الشيء حدث للشام والمغرب الذي استعمر سنة 1912 فجاءت فرنسا وحولت التعليم من اللغة العربية إلى اللغة الأجنبية، ففي القرن التاسع عشر كانت هناك أكثر من مئة صحيفة وجريدة في مصر والشام باللغة العربية، فالنهضة بدأت طريقها قبل دخول الاستعمار الفرنسي أو البريطاني، ومع الأسف كل الأخطاء تُعلق على مشجب اللغة، وها هم الآن رجعوا عن تدريس العلوم باللغة العربية من خمس سنوات، ماذا تحقق؟ هذه السنة إضرابات مستمرة، والتقرير الذي قدمه الوزير أو رئيس الحكومة قبل أسابيع كارثي جدا، مستوى التحصيل عند التلميذ بالعربية والفرنسية كارثي، غريب أن إنسانا يقضي عشر سنوات أو اثنا عشرة سنة في التعليم ولا يحسن أن يكتب أو يفهم فقرة أو يشكلها ويضبطها ضبطا تاما، شيء كارثي، ربما هذا يدفعنا إلى التساؤل عن تناقض هذه السياسات العمومية طيلة عقود استمرت دون أن تجد مسارها الصحيح في تدبير المسألة اللغوية في المغرب، دائما نعود إلى هذه السياسات بحكم أن الدولة هي التي تأخذ بتلابيبها وهي التي تسيرها، وأن الإرادة الحقيقية السياسية هي الوازع الحقيقي لأجل إنهاء هذه المشكلة بشكل أساسي، لماذا دائما السياسات العمومية؟ من يضع هذه السياسات العمومية غير النخب؟ نعود دائما إلى النخب، إذا لم تكن اللغة العربية في شكلها الأساس هي السبب في تجميد هذه النهضة والتنمية، من يضع هذه السياسات للغة العربية ويجزها من أجل أن يقعدها عن أداء مهمتها في هذه التنمية؟
هناك النخب، وهناك السؤال: من يضع هذه النخب؟ ومن يقوم بعملية فرز لهذه النخب؟ النخب فيها أشكال وأنواع، ولكن هناك تدخل لوضع نخب خاصة في البرلمان، ونخب خاصة في المجالس، ونخب خاصة بيدها السلط وبيدها الامتيازات، إذن هناك فرز للنخب، لكن من يصنعها ويفرزها ويعطيها المسؤولية ومن يوجهها، ثم إن هناك قرار سياسي، عندما نأتي إلى مسألة اللغة هناك قرارات سياسية متخذة في صمت، عندما نأتي إلى أكاديمية اللغة العربية التي صدر بها قانون ظهير منذ 2003، ونحن الآن في 2024، 21 سنة وهذا القانون مجمد، مع أن هذه الأكاديمية ليس دور تقريري، دورها استشاري، تقدم استشارات يقدمها الخبراء، فإذا كانت اللغة العربية بها خلل أو نقص كما يُدَّعى أو تحتاج إلى تعديل أو قواميس، فهذه الأكاديمية من المفروض هي التي تقوم بهذا العبء شأن جميع الأكاديميات في العالم، إذن نحن عوض أن نحرك هذه الآلة ونعطيها دفعة ونضع عجلاتها على السكة لكي تشتغل، نجمدها حتى تصدأ، وعندما تصدأ نقول لم تعد صالحة للاستعمال ونتركها، كما أننا نبني مسارح ونتركها، نبني دور الشياب ولا نشغلها، نبني جامعات وتبقى، نبني مؤسسة اسمها الأكاديمية بقانون ثم نجمد هذا القانون، هذا مثال عن الإرادة السياسية الواضحة في قضية التعليم وفي قضية اللغة، فهناك مجلس أعلى دستوري للثقافات وسياسات اللغات مجمد أيضا لم ير النور، والقضية عندما نتراجع عن تدريس المواد باللغة العربية، هل قاموا بدراسة ميدانية يقوم بها مختصون من ذوي الشأن والخبرة والمعرفة ولهم المصداقية، لم يتم شيء من هذا، نحن مهتمون بهذا الوضع وننتسب إلى هذا الميدان، وحتى إذا جاؤوا بخبراء من هم الخبراء الذين يأتون بهم؟ الخبراء الذين ينتخبونهم باسمهم، نأتي بفرنسي ليفتي في وضع اللغة في المغرب ماذا سيقول؟ والخبراء الحقيقيون لا يأبه بهم أحد.
المجلس الأعلى للتعليم الآن لا نعرف طريقة تكوينه وتركيبته ومحدودية أفكاره، وها هي لآن خمسة أشهر والتعليم في إضراب، ماذا فعل المجلس الأعلى للتعليم؟ ومع ذلك نأتي للبرلمان ونقول المسألة بسيطة والإضرابات بسيطة. إن الحديث في موضوع التعليم شائك ومتشعب.
طيب، الذين يدعون إلى قضية تطوير اللغة العربية يقولون هناك حروب ضد اللغة العربية موجهة بشكل دقيق، خصوصا حين يعملون على إدخال عناصر لمواجهة اللغة العربية بشكل تعصبي، لا على مستوى الفرونكوفونية أو الأمازيغية أو العامية، هل يمكن تطوير اللغة العربية وتنميتها فقط لأنه ندعو إلى إحلال معاجم جديدة مسايرة للعصر ولروح العلم الحديث، أم أن تطوير اللغة العربية ليس في ذاتها، وإنما من أناسها الذين تغيروا مع الزمن، إلا أن لغتهم لم تتغير؛ لغة عقلهم وليست لغة لسانهم؟
أولا، هناك من يقول يجب أن تتهيأ اللغة العربية إلى أن تصبح صالحة للتعليم، إلى أن تكون لها مصطلحات، إذ ذاك سنستعملها، أما الآن فهي محتاجة إلى تطوير.
السؤال الأول: كانوا يقولونه دعك من مرحلة السبب، منذ 1956 إلى الآن، ستة عقود تقريبا ونحن نكرر وأي مسؤول يقول هذا الكلام، أنا سمعت هذا الكلام من وزير التعليم في بداية الثمانيات، كنا نقول له ماذا فعلتم؟ ماذا فعل المغرب من أجل تطوير هذه اللغة. وماذا فعل مع غيره، ومع دول أخرى؟ أنتم مسؤولون ما دمتم شخصتم الأمر في أن هذا الجسم مريض، ماذا فعلتم لعلاجه؟ هذا السؤال الأول، لاشيء، لا شيء.
ثانيا، هذه أكذوبة، العربية في حد ذاتها بخير، بل هي أحسن من جميع اللغات المستعملة الآن بخبرتها وليست من حيث التفاضل الجمالي، بل من حيث الخبرة والمدة التي جربت فيها كل المجالات، فالعربية استعملت في العلوم وفي الفلسفة وفي مختلف أنواع العلوم والآداب والدين والسياسة، وكلها منذ عشرات القرون، إن تاريخ اللغة العربية لا يبتدئ بالوحي، فعند نزول الوحي كانت اللغة العربية قد مضت عليها قرون طويلة وهي تتفاعل إلى أن نضجت وأصبحت مؤهلة لحمل هذا الكتاب العزيز، فهي ليست لغة صغيرة طفلة تحتاج إلى أن ندربها كيف تمشي أو فقدت طريقة المشي فنعمل لها ترويضا، فاللغة حتى وإن كانت ضعيفة أو مهملة فطريقة علاجها هي الاستعمال، فالقاعدة الذهبية أن اللغة تنمى وتتطور بالاستعمال وليس بالإهمال، انظر الآن إلى لغة إسرائيل العبرية، فقد ظلوا قرونا منذ خرجوا من مصر ومنذ الشتات وهم موزعون عبر أنحاء العالم؛ مجموعات منهم تتكلم لهجة وكلهم في العادة يتكلمون لغة البلاد التي يوجدون فيها، فإذا جاؤوا إلى المغرب يتكلمون لغة المغرب وإذا ما ذهبوا إلى ألبانيا يتكلمون الألبانية وهكذا.. فاللغة العبرية عبارة عن دارجة صغيرة لها لهجات وتتكلم في الشتات فقط، لكن منذ كونوا دولة منذ 75 سنة فقط، لا تجد أحدا يتكلم في إسرائيل غير العبرية؛ في الإعلام، عندما يكتب، عندما يدرس، عندما يعلم، في البرلمان، وفي كل مكان، كأنهم كانوا يعرفون العبرية منذ الأزل، وإنما كلهم تعلموها بعدما تأسست هذه الدولة، فهناك إرادة سياسية أولا، فإذا أردت أن تكون لك شجرة تثمر، يجب أن تخطو الخطوات الضرورية لغرس هذه الشجرة في المكان المناسب وتسقيها وترعاها وتشذبها وتجعلها تعطي ثمارا، فهي لا تعطي ثمارا هكذا، فإذن هناك إرادة، عندنا لغة ضعيفة جدا اسمها العبرية كانت من اللغات الميتة، إلى عهد قريب هي من اللغات الميتة شكلها شكل اللاتينية والهيروغليفية، ثم جاءت دولة أحيتها وأعطتها نفسا وجعلتها تدرج على الأرض، إذن أين العيب؟ ليس في اللغة، واللغة العبرية ليس لها نفس الرصيد التاريخي والحضاري والعلمي الذي للغة العربية، حتى اليهود لما كانوا في المغرب أو الأندلس أو الغرب الإسلامي كانوا يكتبون قواعدهم وكتبهم بالحروف العبرية، وحتى قواعد نحوهم أخذوها من العربية، فلا نكذب على أنفسنا عندما نقول أن اللغة العربية ضعيفة وتحتاج إلى وقت لكي تنمو، فكيف تنمو هذه اللغة لوحدها وهي مهملة؟ لا يمكن، يجب أن تحركها، فقانون تطور اللغات معروف؛ كلما استعملتها كلما استعمِلت. مثلا، عندما ظهرت الصحافة العربية المكتوبة في المشرق منذ القرن التاسع عشر هي التي أحيت اللغة العربية، وأمدتها بآلاف أو ملايين المصطلحات والألفاظ والعبارات، فاللغة إذا جمدتها ستجمد، وإذا استعملتها سوف تحيا وتترعرع، وهذا دورنا.
دائما نبحث عن مقود لأسئلتنا الكلاسيكية عندما نبدأ بِمِن أين نبدأ وإلى أين ننتهي، هذا المشكل هو مشكل عالمي وهو أن الهوية دائما تبني نفسها بنفسها، فألمانيا بعد سقوطها في الحرب العالمية الثانية قالت لهم خذوا كل شيء إلا الهوية الألمانية، فتشبتت بالهوية الألمانية ونجحت، بعض الدول لم تكن لها هوية لغوية، ولكن نجحت مثل بعض الدول الإفريقية، هي دول لهجاتية إلى حد ما، لكنها تشبتت باللغة أو اللغات المتطورة ميدانيا على المستوى العلمي والمعرفي، رواندا مثلا على سبيل المثال لا الحصر، نحن اليوم نعرف بأن مستعمرنا الفرونكوفوني أو الفرنسي فاشل لأنه من اللغات الفاشلة الآن على المستوى الدولي والمعرفي، هي المتأخرة التي جاءت في ذيلية الاتحاد الأوربي، بل إن اقتصادها ينهار كل سنة لا لشيء إلا أن هويتها اللغوية والثقافية لا تتماشى مع مبادئ العلم العصري الحالي.
اللغة العربية هي قاعدة أساسية لكل العلوم بدليل أنه ذكرت أن لدينا علماء أخذوا عنا الكثير، أخذت الدول الأوربية والأمريكية وتعترف بذلك، وتطلق جامعاتها على علمائنا في الفيزياء والفلك والرياضيات وكل ما يمكن أن نذكره على سبيل المثال لا الحصر، ما يعوزنا الآن؟ هل تعوزنا اللغة؟ لا، هل يعوزنا العلماء؟ لا يعوزنا العلماء وإلا ماذا يفعل العلماء المغاربة والعرب في البلاد الأوربية والمهجرية وهم يقومون بأدوار طلائعية كبيرة في نهضة الأمم المغتربة عوض أمتهم التي يتركونها الآن بسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، هذا السؤال الكلاسيكي، دائما يقف على جراحاتنا ولا يكاد يتوارى، بمعنى أنه نحن ندور في نفس الدائرة ونقوم بنفس ما يمكن أن نقوم به حينما نفكر في السؤالين المحوريين الاستراتيجيين: من أين نبدأ وإلى أين ننتهي؟
التعليم هو قاطرة المؤسسة الهوياتية وبدون تعليم لا يمكننا أن تفعل ذلك، التعليم فاشل، وهذا باعتراف المسؤولين الحكوميين، ثم إن نخبنا متواطئة شئنا أم كرهنا لأنهم تخلوا عن أدوارهم وأصبحوا خارج سياق السياسات العمومية وتدبيرها.
هذا يجرنا إلى أمر كتبت فيه شخصيا الكثير، هو حينما نتحدث عن التنمية الشاملة، والتنمية هي الاسم الجديد لما كان يعرف بسؤال النهضة أو سؤال التنمية.
على ماذا يرتكز سؤال النهضة أو التنمية؟ ترتكز النهضة أو التنمية على مجتمع المعرفة، أي أن يكون لنا مجتمع تشع فيه المعارف بكل أشكالها وأنماطها وتشيع، يجب أن يكون لنا مجتمع فيه نسبة كبيرة من المعرفة، لأنه لا يمكن أن تنمو البلاد أو تنهض في إطار مجتمع جاهل لا يعرف كيف يفكر، لا يعرف المنهج الذي يشتغل به، ليس له وعي بالمشاكل الحقيقية ولا بكيفية علاجها، ولا يعرف من أين يأخذ الحلول لمشاكله وكيف يشخصها، والمعرفة تحتاج إلى لغة، إما أن نستعيرها من الأمم المختلفة ممن لهم معرفة بواسطة لغتنا ثم تحويلها إلى أداة لنشر هذه المعرفة، هذا هو الطريق السهل، هذا هو الطريق الذي لا يكلف شيئا، أو يكلف أقل تكلفة ممكنة، هو أن تأخذ المعارف من الآخرين وتتعلمها بلغتهم ثم تحولها إلى لغتك بتبسيط هذه المعارف من الآخرين ونشرها على نطاق أوسع لأن لديك شعب 40 مليون نسمة، هل هذا الشعب كله يجب أن تعلمه الفرنسية أو الإنجليزية؟ كم سيحتاج لك من جهد ومال ومن معلمين ومن كتب دراسية ومن وسائل مع المحافظة على المستوى لتصل في النهاية إلى فرنسة شعب بكامله؟ وعندما تنتهي من فرنسة الشعب تقول الآن نقلت اللغة إلينا، هل ستحصل على معرفة خاصة بك أم معرفة خاصة بالآخرين؟ أنت لم تفعل شيئا سوى أنك نقلت لغة من شعب حيث قمت بفرنسة شعب بكامله، ولكن هذا سيكلفك مالا وجهدا لا يطاق من الناحية المادية، ومن ناحية أخرى قد فقدت هويتك وفقدت كل خصوصياتك، وجعلت الشعب كله فرنسيا باللغة وبالهوية وبالثقافة وبكل شيء.
إن اللغة ليست كلمات نتبادلها أو نكتبها، وإنما هي خزان للثقافة والهوية والحضارة والتاريخ وكل شيء. لديك طريقان كي تنمو، تحتاج إلى لغة إما أن تكون لغة أجنبية، ولكي نعمم بها المعارف يجب أن ننشرها على جميع أفراد الشعب وهذا مكلف ومستحيل وفي النهاية ستجد أنك خسرت نفسك، أصبحت شعبا آخر بتفكير آخر، بنمط عيش آخر، بسلوك آخر، بثقافة أخرى، وحين نقول ثقافة نفكر في طريقة التفكير، في طريقة اللباس، إذن أنت سلبت شعبا لغته، وستبقى دائما تابعا حتى في هذه الحالة، حتى لو اكتسبت شيئا من ميكانيك السيارات أو الطائرات، ولكن ستفكر كأنك فرنسي أو إنجليزي، وتعيش بطريقة الفرنسيين وتتزوج بنظام أسري تابع لهم، وستصلي في كنيستهم، وستلبس لباسهم وقبعاتهم وكل شيء، لأن اللغة ستأخذك شيئا فشيئا، إذن أنت مضطر لأن تأخذ المعارف وليس اللغة.
نحتاج من اللغة القدر الذي نستفيد منه، مثل الخل أو الملح أو الزيت، لا يمكن أن نضع على القِدر الملح فقط أو الزيت فقط، نأخذ القَدر الذي نستفيد منه والباقي مضر، القِدر يحتاج إلى عدة مكونات وداخل وعاء معين، ونحن لدينا وعاؤنا اللغوي ونحتاج فقط إلى بعض الأمور التي تستقر إليها لغتنا، إما أن نترجمها أو نعربها كما هي وهكذا.
انظر الآن إلى قضية أشرت إليها وهي قضية الأطر المغربية، انظر الطب ماذا يحدث فيه، يروج أن فرنسا لها خطة لأخذ الكفاءات المغربية بإغراءات ونقلها إلى هناك وتوفير الجو المناسب لها، هذا بالإضافة إلى ما هو حادث بالفعل، الذين يدرسون الطب هناك لا يعودون، أو يعود نصفهم أو أقل من ذلك، وقد يعود ويبقى سنة أو سنتين ثم يرجع، أليست كارثة؟ الآباء وأولياء الأمور والدولة والمجتمع كل يساهم بنصيبه في تكوين أحد الأطر، ثم ندفعه لدولة أخرى تستفيد وتنتفع منه، أليس هذا سَفَه؟ تتعب حياتك كلها؛ الأم ، المجتمع، القروض، لترى ابنك يصل إلى مستوى طبيب أو مهندس، ولما يصل إليه يضيع منك، هذا من المشاكل التي تعاني منها اللغة.
يقال الطب صعب تدريسه باللغة العربية، لا، هناك جمعية التواصل الطبي التي يرأسها الدكتور أحمد عزيز بوصفيحة عقدوا عدة مؤتمرات لتدريس الطب باللغة العربية وشارك عدد منهم في تأطير عدد من الأطروحات في الطب والفيزياء وغيرها باللغة العربية، أكثر من مئتي أطروحة موجودة في جامعاتها باللغة العربية، وهذا دون توجيه الدولة، فما بالك لو أن الدولة احتضنت هذا التوجه؟ ماهي الفائدة مثلا من تدريس الطب أو الصيدلة باللغة العربية؟ يعني ماذا نستفيد من تدريس العلوم باللغة العربية؟
أول ما نستفيده هو أنك تجعل المجتمع كله قادرا أن يعالج نفسه ويحفظ صحته بأيسر وأسهل طريق. شخص يذهب إلى الطبيب يفحصه ويكتب له وصفة لا يعرف كيف يقرؤها ولا ماذا تتضمن هذه الوصفة، يعطيها لصيدلي يكتب له كل شيء باللغة الأجنبية، الورقة الموجودة مع الدواء كلها مكتوبة بلغات أجنبية لا يفهم منها شيئا، كلها مصطلحات أجنبية، يتناول دواء لا يعرف في ماذا يفيد، ولو كان لديه تكوين باللغة العربية يستطيع أن يدخل الأنترنيت ويبحث بسهولة ويفهم، ويتعلم مصطلحات، يستطيع أن يرجع إلى الكتب المؤلفة في الطب باللغة العربية مدرسية أو جامعية، ويعرف ما هي الأشياء المضرة بصحته ويتجنبها وما هي الأشياء النافعة ويأخذها وهكذا، فهو يعالج نفسه بنفسه عندما تبسط له اللغة وتجعلها في متناول الجميع ستزداد نسبة نمو العلاج، والنمو الصحي، وقس على هذا جميع الميادين.