تفكيك التفكيك: فلسفة جاك دريدا وأفقها المفتوح
– لم يشغلْ فيلسوفٌ غربيٌّ العالمَ كما شغلُه جاك دريدا، فيلسوفُ التفكيك والأكثرُ إثارة وجرأةُ في فلسفة التقويضِ، التي جاءتْ على أنقاضِ البنيويةِ، بل يعتبر الرجلَ مع صديقهِ رولان بارت، أهمَ نقاد وفلاسفة ما بعد الحداثةِ على الإطلاق، بما أثاراه من جدلٍ واسعٍ في طروحاتِهما في الفلسفةِ والنقدِ، حيثُ سلّم الأولُ بمسألتين هي تقويضُ النصوصِ ولا شيءَ خارجَ النصْ، أمّا بارت فصاحب موت المؤلف، والتقى كلاهما في الاحتكام إلى النص ولا شيء خارجه.
– يعد دريدا أول من استخدم مفهوم التفكيك بمعناه الجديد في الفلسفة، وأول من وظّفه فلسفيا بهذا الشكل، ما جعله من أهم الفلاسفة في القرن العشرين. يتمثل هدف دريدا الأساس في نقد منهج الفلسفة الأوروبية التقليدية، من خلال آليات التفكيك الذي قام بتطبيقها إجرائيا.
أما جاك دريدا Jacques Derrida فهو فيلسوف وناقد أدب فرنسي، ولد في مدينة الأبيار الجزائرية يوم 15 يوليو/تموز 1930 وتوفي في باريس عام 2004
ومنذ عام 1967 أصدر دريدا ثلاثة كتب، صدرت دفعة واحدة وهي:
1ـ في علم الكتابة أوالغراماتولوجي
De Grammatologie la
2 ـ الكتابة والاختلاف
3ـ الكلام والظواهر
– لعلّ مصطلح التفكيك الذي سلّم به دريدا، يعني فكّ الارتباط بين لغوية المفردات وكل ما يؤّولُ خارجَها، وقد أثار كثيرا من الجدلِ خاصة بعد أن قامَ على أسس مهاجمةِ البنيوية من جهة، ومن جهة أخرى الاقتراب من المفاهيم التي وقفت بالضد من الغيبيات، أو مفهوم الميتافيزيقيا، ويقوم التفكيك على تقويض البناء القديم وإقامة بناء جديد على أنقاضه، من خلال استغلال التناقضات، أو الثغرات داخل النصوص، وفي هذا يقول دريدا، إذا كان التفكيك مدمرا حقّا، فليدمر ما شاء من الأبنية القديمة المشوهة، من أجلِ ان نعيدَ البناء من جديد.
في التفكيك لا تستطيع أن تكوّن فكرة جاهزة للنص بما في ذلك النصوص البديهيّة والبسيطة لأنّ فلسفتَه تقوم على مبدأ أنّ النصوص تحتوي على ثغرات وتناقضات ولذا فإن مهمة التفكيك هي، إيجاد وتحديد تلك الثغرات والتناقضات ومن خلال إيجاد وتحديد هذه الثغرات يتم توسيع دائرة فهمنا لتلك النصوص؛ إذن هي قراءة متقدمة ومجهريّة للنصوص، وإظهار المفارقات والتناقضات الخفية إلى العلن، أو بعبارة أخرى إذا كانت بقية النظريات النقدية تقوم على قراءة السطور، فإنّ التفكيكَ يقوم على قراءة ما بين السطور، فهي ليست مجرد طريقة لقراءة الفلسفة، أو الأدب، بل تحديد وتشريح بنية العلاقة بين اللغة والفكر والأخلاق، فالكلمة المكتوبة تُظهِر أمورا لا يمكن للكلمة المنطوقة أن تكشفها؛ يرتكز التفكيك على اختراق المجهول من خلال الولوج إلى خفايا النص، باعتباره، أداة نقديةن أو فضاء فكريا مستجدا مختلفا في الأسلوب والرؤية الموجودة في النص المقروء، وهذا يحيلنا إلى اللجوء فقط إلى النص وحده، فأيُّ إشكالٍ أو تفسير، أو لبس يعترضنا، يجب العودة به إلى النص وحده لتفسير هذا اللبس، وليس إلى صاحب النص وبذلك نتخلص من صاحب النص ومن شرحه وأعذاره وظروفه، التي سوف يقوم النصُ وحده بشرحِها لنا دون صاحبِه، بمعنى أكثر دقة نبدأ بملاحظة التناقضات والطرق المسدودة في النص، دون مساعدة خارجية – يجب ان نبتعد عن القراءة التقليدية والتاريخية، وما تتضمنه من تقسيم للعصور لأنها تبحث في مؤثرات غير لغوية، ما يؤدي إلى إبعاد الباحث عن الاختلافات اللغوية في النصوص؛ حسب هذه الرؤيا، أنّ كل شيء يوجد في المغايرة والتأجيل وسلسلة الاختلافات، أي أن النص يخلق واقعه ويفرض نفسه ويُكوِّن مجاله وعوالمه وصوره وجمالياته، من خلال اللغة المكتوبة؛ وبالتالي نقوم بتفكيك آلياته من داخله، عبر وسيلة واحدة هي اللغة المكتوبة فقط غير مسندة إلى المؤلف، أو الظروف الخارجية التي أحاطت بالنص، كل هذا ممكن تعويضه والاستغناء عنه من خلال طاقة اللغة المضمنة في النص، القراءة التفكيكية ليست ما يُفهم بشكل بسيط من النص، بل هي أشياء لم تُذكر في ألفاظ النص المكتوبة وهذا يعني أنّ النصّ يحتوي على فراغات، فالنص في حقيقته مكّونٌ من متاهات، وهذا ما يُبنى عليه الغياب والنسيان، وبذلك فالتفكيك يعطي السلطة للقارئ، وليس للمؤلف، ويركز بشكل أساسي على الكتابة بمنح القارئ سلطة القراءة والاستنباط، ليكون أكثر قدرة على فك شيفرات النص وتركيبه، وفقا لما يريده ولما يمنحه إياه النصُّ من إشارات وعوالم يتمّ فكّ رموزها، من هنا فقد فتحت هذه المقاربات على النص آفاقا كبيرة ومعاني ودلالات لا تتعامل مع النص كونه نصا استهلاكيا فقط؛ يعتمد التفكيك على أربعة عناصر أساسية:
1 ـ إقصاء المؤلف والاحتكام إلى النص
2 ـ الدخول إلى النص عبر اللغة المكتوبة من خلال الثغرات والتناقضات
3 ـ تعدد زوايا النظر للنص وإشراك القارئ في إنتاجها
4 ـ هدم البناء القديم للنص وإنشاء بناء جديد، باستخدام ألفاظ وصور النص الأصلي
من رسالته الشهيرة إلى صديق ياباني عام 1983، أورد دريدا مفاهيم أضفت بعضَ التعقيد حول مصطلح التفكيك، وهو قوله في هذه الرسالة (ما الذي ليس تفكيكيا؟ كلّ شيء بالطبع! ما التفكيك؟ لا شيء بالطبع). هذه الجملة التي اعتراها الكثير من اللغط وعدم المعرفة في كنهِ محتواها الحقيقي لسببين الأول، هو عدم الاستفاضة في توضحيها من قبل جاك دريدا. وثانيا عدم دقّة الترجمة لها، هذان السببان قادا إلى فهم غير دقيق لمضمون هذه الجزئية من النص؛ وإنّما حقيقة ما أراد جاك دريدا قوله هو: إنّ كلَ شيء قابل للتفكيك وما يتوصل إليه التفكيك من نتائج أيضا قابلة للتفكيك؛ بمعنى لا تفكيك نهائيا، لكنّ صياغة جملتِه اعتراها غموضٌ كبيرٌ، وزاد الأمرَ تعقيدا عدم وعي المترجم في بفهم قصدية دريدا، قاد إلى كلِ هذا اللبس والغموض؛ وسوف أضرب هذا المثل كمقاربة للمفهوم؛ عندما سلّم العلماء أنّ الذرّةَ آخرُ الشيء، لكنّهم تراجعوا في ما بعد عن هذا، وقالوا إنّ الذرّةَ ممكنٌ أنْ تتشظى إلى ذرّاتٍ وجزيئيات أخرى؛ بمعنى أنّ الذرّةَ ليست آخر المطاف، وليست آخر الشيء؛ وما ينطبقُ على الذرّة ينطبقُ على التفكيك، وهذا ما كان يدور في قصديّة دريدا في نصّه هذا، بمعنى عندما قال ما التفكيك؟ لا شيء بالطبع! يعني لا يوجد تفكيك نهائي، بل حتى نتيجة التفكيك ممكن تفكيكها، بمعنى هو تفكيك التفكيك، وهي مقاربة ذاتُ توريةٍ بعيدةٍ مثلَ ما ذهبَ إليه عبدُ القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز، معنى المعنى، أو ما يسمى بنظريّة الانزياح الأسلوبي، فما أراد دريدا إيصالَه هو مفهومٌ متقاربٌ لمفهوم الجرجاني، لا يوجد معنى نهائي، بل معنى يتولّد من معنى ولا يوجد تفكيكٌ نهائي، بل تفكيكاتٌ تتوالد من التفكيكِ الأصل، لذلك أصرّ الرجل على عدم تأطير ما جاء به بأُطر نظريّة، بل تركها لتكون استراتيجية قابلة للتجديد مع الزمن، وكل ما يطرأ عليها من مستجدات مستقبلية.
هذه تماما هي رسالة التفكيك التي أراد جاك دريدا إيصالها؛ لذلك أدعو في هذا المقال إلى مبدأ تفكيك التفكيك وعدم الركون إلى نتيجة نهائية للنصوص، بل لترك التأويلات مفتوحة على قراءات أُخرى قد تقود إلى مفاهيم أكثر أثارة وإلى متعة قد نجهلُها في كنّه هذه النصوص
موقع الدكتور مسلك ميمون