من ذكريات نقد ال (ق ق ج) (7)
مرّ زمان طويل عن لقاء القصّة في بيروت. خريف سنة 2005 شاركت يومها بعرض تحت عنوان: (ال “ق ق ج” و الهاجس السياسي ــ أحداث الشرق الأوسط أنموذجا)
أذكر و أنا أتابع إلقاء بعض النّصوص الإبداعية. بعد حصّة الأمس التي كانت للعروض و نقاشها، جاءني أحدهم.. كان يبدو في الخمسين من عمره يضع فوق شعر راسه الكثيف الأشيب قبعة (بري ) أسود، و على عينيه نظارة طبية تبدو سميكة نسبيا… أثنى على عرضي. و سألني بلطف أن أصاحبه خارج القاعة ليستشيرني في أمر….. كنت على وشك أن أعتذر له لاهتمامي بما يلقى من نصوص إبداعية ..و لكنّني استجبت لطلبه على مضض..
في القاعة الموالية ابتسم ابتسامة عريضة متقطعة وقال:
ــ لا أريد أن آخذ من وقتك الكثير ..أنا اسمي نجيب عماد متولي من مصر. أمارس الصّحافة، و أهتمّ بإعداد أغلفة الكتب و تصميمها …و هوايتي أيضًا كتابة ال (ق ق ج) . و لمّا سمعت بحضورك من المغرب. تركت ـ و الله ـ كلّ شغلي و حضرت اليوم لألتقي بك، أنا أحبك في الله، و أحبّ ما تكتبه عن ال (ق ق ج) …
انتابني خجل و احراج كبير ممّا سمعت منه من ثناء و ألفاظ حلوة، برع فيها إخوتنا في مصر.. و كنت فقط أنتظر طلبه، و ما يريده منّي..و لكنّه أطال و استطال في كلمات المجاملة و الحديث عن ال (ق ق ج) و ما كتبتُ عنها.. ما جعلني أسأله حاجته. فقال:
ــ حاجتي يا أستاذ، أنّني أعاني من عدم الاطمئنان لما أكتب…أشعرُ دائمًا أنّه دون المستوى.. أو في أحسن الأحوال أجده من المتوسط جدًا .و حتّى إذا نُشرَتْ لي قصّة لا أفرح كثيراً لنشرها و لا أبتهج..إذ سرعان ما أقول لو كتبتُها بأسلوب آخر لكانت أحسن…. تصوّر يا أستاذ، كتبت نصًّا قصيرّا جدّا.. كتبته و أعدت كتابته مرّات عديدة، و ها هو قد استَوفى الشّهر من التّنْقيح، و التّعديل.. دون أن أطمئن لانتهائه. مع انّ كلماته لا تتعدّى السّبعين كلمة …
ابتسمت، بل ضحكت، فضحك هو الآخر.. فقلت:
ــ جميل أن لا تطمئن كلّ الاطمئنان. و لكن الأجمل أن تبقي بعض الاطمئنان، ما نسميه : الثّقة في النّفس. فبدون هذه الثّقة لا نستطيع أن نبدع، و لا حتّى انّ نطرق باب الإبداع.. النّص حين تمارس عليه عمليات تعديل و حذف و تقديم و تأخير و تضمين .. يصبح نصًا مصطنعًا، يخلو من روح و نكهة القص.. و الجميل اعتماد التلقائية و العفوية ..
فقاطعني قائلا:
ــ النص عندي في محفظتي هذه.. أتحبُّ الاطلاع عليه ؟
قرأت النّص مرّتين، ثم جلست و جلس بجانبي منتظرًا رأيي بلهفة ، و لمّا طال تمعّني سألني مرتابًا :
ــ أرجوك أستاذ ماذا ينقصه…؟
التفت إليه مبتسمًا و قلت :
ــ ينقصه النّشر..
فصاح مبتهجًا حتّى التفت إلينا بعض الحاضرين و قال:
ــ ينصر دينك .. لا حرمنا الله منك يا أستاذ .. أفْرجَتِ الغمّة…. وذهب القلق..
حين عدت إلى الفندق مساء، كنت أحدّث نفسي: كيف نجيب عماد متولي ، يمضي شهرًا كاملا يعدّل و يغيّر و يحذف و يضيف لنص من سبعين كلمة و لا يطمئن ؟! و يأتي بعضهم مُستَسهلا ،فيدعي أنّه يكتب نصين إلى ثلاثة في اليوم الواحد.. !
* مسلك *