من ذكريات نقد ال (ق ق ج) . (6)
حين زرته في بيته المتواضع في أقصى المدينة، كان ذلك بسبب مرضه و العملية الجراحية التي أجراها منذ شهرين.. كان وحده في البيت، زوجته المتقاعدة من التّعليم كانت في السّوق ،و أبناؤه الثلاثة مغتربون في أوروبا…ما أن رآني و قد فتح الباب، حتّى ابتهج و صاح:
ــ أي ريح طيّبة ساقتك إلينا ؟!
عانقته بحرارة، و اغرورقت عيني بالدّمع، لقد تغير كثيرًا عمّا ألفته، أصبح جسمه نحيلا.. و وجه يميل إلى الاصفرار، و يده اليسرى يبدو لي أنّها كانت ترتعش من حين لآخر. تهالك على أريكة، و استرسل يسألني عن الأهل..و أصدقائنا القدامى الذين نسوه و لم يسألوا عنه..و لكنّه لم يعاتب أحدًا ،و اكتفى بالدعاء لهم، و التماس العذر لهم ..
قلت له: لم أزرك اليوم خاوي الوفاض، لقد جئتك بكتابي الأخير:(اللغة القصصية..) فانبرى مهنئًا و قام و هو يقول:
ما شاء الله! ما شاء الله ..! أمازلت تكتب؟! أوَ تظن أنّ هناك من يقرأ في هذا الزّمان الأغبر؟!
ابتسمت بمرارة ..غاب لحظة و عاد يحمل فنجانين من القهوة.. فأسرعت لآخذ منه الطّبق لارتعاش يده…و قلت مازحاً:
ــ كما ترى مازلتُ أكتب .. إنّها جرثومة الكتابة التي ابتلينا بها فلا مناص …فماذا عنك .. أقصد الكتابة؟
أمسك بيده المرتعشة ، و أرسل زفيرا طويلا و قال:
ــ كتبت الكثير، و مزّقت الكثير، و ما استبقيت إلا القليل القليل ..و منها مجموعتان من ال (ق ق ج). سأنشرهما خارج الوطن، ابني الأكبر اطلع عليهما، و عرضهما على صديق له في بريطانيا، سيترجمهما إلى الانجليزية..
ــ و لماذا لم تنشرهما هنا ؟
نظرني بحسرة غامرة.. و قال و كأنّه لم يسمعني:
ــ اشرب قهوتك.. ستبرد…
فعدت لألحّ عليه.. فقال:
ــ هنا يا صديقي قومنا لا يقرؤون.. سيهنؤونك ربّما بالاصدر الجديد عبر وسائل الاتصال الاجتماعي.. و لكنّهم لا يقرؤون.. و أنت تعلم ذلك.. و لك تجربة في النّشر…كلّ ما أطلب منك خدمة ، أن تكتب لي تصديرًا للمجموعتين لأنّهما
ستصدران في كتاب واحد للقارئ الانجليزي..
بعد ذلك وعدني ان يُرسل لي مخطوط المجموعتين عبر “الواتساب.”.و افترقنا..و كان الفراق الأخير.. لم أتوصل بالمجموعتين. إذ بعد أسبوع من ذلك، رحل المبدع في صمت..
* مسلك *