د. مصطفى اللدلوي
بحزنٍ كبيرٍ، وبكثيرٍ من الأسى، نتابع التحقيقات الإسرائيلية، التي تجريها الشرطة والقضاء مع مسئولين إسرائيليين كبارٍ، لا حزناً عليهم، أو شفقةً بهم، أو رأفةً بحالهم، أو خوفاً على المصير الذي ينتظرهم، أو العقاب الذي قد ينزل بهم، أو الفضيحة التي قد تلحق بهم، والتي قد تتسبب في إدانتهم أو في خروجهم من الحياة السياسية، خاصةً أن الملفات التي تفتحها الشرطة بحقهم ملفاتٍ كبيرة، والتهم التي توجهها إليهم تهماً خطيرة، وفي حال ثبوتها في حق بعضهم، فإنهم سيحالون حتماً إلى القضاء، وسيتعرضون للمحاكمة، وفي حال إدانتهم فإن القضاء الإسرائيلي سيصدر في حقهم أحكاماً بالسجن، تماماً كما فعل مع الرئيس الإسرائيلي الأسبق موشيه كاتساف، ورئيس الحكومة الأسبق أيهود أولمرت، الذي أمر القضاء بسجنهما وغيرهم، غير مبالٍ بصفاتهم، ولا عابئٍ بألقابهم.
القضاء الإسرائيلي للأسف لا يحابي مسئولا، ولا يتسامح مع رئيسٍ أو وزير، ولا يغفر لضابطٍ ولا لقائدٍ، ولا يشفع عنده سنٌ ولا تاريخ، ولا تنفع معه وساطة، ولا تجدِ معه رشوة، ولا يخضع لوصاية، ولا يتلقى الأحكام جاهزة، ولا يبرمها باتفاق، ولا يصدرها بالتعاون، ولا يخضع للضغوط، ولا يستجيب للتدخلات، ولا يسمح برقابةٍ تقيده، ولا بنفوذٍ يوجهه، فقد تبين أنه قضاءٌ فيما بينهم شفافٌ ونزيه، لا يطوي ملفاتٍ، ولا يتستر على اتهاماتٍ، ولا يخفي أدلةً أو قرائن، ولا يسكت على شاهد زورٍ، ولا يقبل بدفوعٍ وهمية، وذرائع غير شرعية، ويحاسب من يكتم شهادته، تماماً كما يحاسب من يوظفها لتبرئة مدان، أو لتضليل العدالة، وحرفها عن مسارها.
القاضي الإسرائيلي للأسف لا يحكم على المعارضة السياسية، ولا يحاسبها على آرائها، ولا يحاكمها على نفوذها، ولا يستهدف جمهورها، ولا ينزل بها غضبه، ولا يحل عليها سخطه، ولا يمارس عليها سلطاته، ولا ينفذ في حقها مجزرة، ولا يحكم على مئاتٍ منهم بالإعدام دفعةً واحدة، ولا على الآلاف بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولا يحرم المتهمين من حقهم في الدفاع عن أنفسهم، وبيان حجتهم، والاستماع إلى دفاعهم، بل يمنحهم الفرصة الكافية للدفاع عن أنفسهم، وتقديم أدلتهم، ويستمع إلى شهودهم، ولا يعجل في الحكم عليهم، ولا يبرم أحكامه ضدهم.
الإسرائيليون لسوء حظنا يعرفون أن قضاءهم فيما بينهم نزيهٌ وعادل، وأن القضاة لا يسيسون ولا يرتشون، ولا ينحازون ولا يوالون، ولا يحكمون بالبراءة لمن أدين، ولا يدينون بريئاً بقصد، وأنهم يتطلعون إلى خدمة شعبهم، وتحصين كيانهم، وتكريس مفهوم الديمقراطية بينهم، فيخضعون الجميع لأحكامهم، ويمثل تحت قوس عدالتهم الزعيمُ والقائدُ، والجنديُ والضابطُ، والرئيسُ والوزيرُ، وينتظر المتهم منهم حكم القضاء فيه، فلا يكون وزيراً ولا مسئولا، ولا يعهد إليه بمهامٍ عامة حتى يقول القضاء فيه كلمته، ويصدر حكمه في حقه.
والشرطة الإسرائيلية للأسف تحقق وتتحرى، وتتابع وتدقق، وتسأل وتستجوب، وتطبق القانون، وتجلب وتحجز، وتتلقى الشكاوى، وتسمع للغاضبين، وتصغي للشكاة والمعترضين، وتفتح أبوابها لاستقبال كل شاهدٍ، وتقبل كل أدلة وقرينة، ولا تصد أبوابها أمام ساعٍ أو موظفة، ولا ترهب شاكياً ولا تخيف متضرراً، ولا تمنع أحداً من الاعتراض على سلوك، أو اتهام مسئول، أو كشف فضائحه، وبيان أخطائه، ولا تسمح لمتهمٍ باستغلال منصبه، ولا بالاستفادة من صلاحياته، ولا بالاستقراء بسلطاته، ولا تعفيه من أي إجراء يطبق في حق غيره من المتهمين، مما ينص على الالتزام به القانون.
الشرطة الإسرائيلية تستجوب المسئولين أياً كانت مناصبهم ومراكزهم، وتسألهم عن أموالهم ومدخراتهم، ومصالحهم وشركاتهم وأعمالهم، وتعرضهم على جهاز كشف الكذب، وتسألهم عن حياتهم الخاصة، وسلوك أولادهم، وتصرف زوجاتهم، وتتعرف على فاتورة مصروفاتهم اليومية، ونفقاتهم الشهرية، وفي حال رفض أي مسؤول عرض نفسه على جهاز كشف الكذب، أو رفضه الاستجواب والمسائلة، فإن عليه أن يستقيل من منصبه، وأن يترك الخدمة العامة، ولكن هذا لا يعفيه من المسائلة والتحقيق والتقديم للمحاكمة، في حال الاتهام والإدانة.
أما نحن فعلى الضد من عدونا، وعلى العكس من خصمنا، فالمسؤولون عندنا مؤبدون في مناصبهم، وحتى الممات في مراكزهم، لا يتغيرون ولا يتبدلون، ولا يفشلون ولا يخسرون، ينتخبون دوماً، ويعينون أبداً، أغنياء يكتنزون الأموال، وأثرياء يملكون العقارات، بيوتهم عامرة، وسياراتهم فارهة، وأولادهم مدللون، ونساؤهم في الحلي والجواهر يتسربلن، وفي الأسواق يتجولن، وبين العواصم يتنقلن، وبأموال الشعب يتنعمن، وحولهن طوافاتٌ يخدمن ويتملقن، وأولادهن كآبائهم يحكمون ويتسلطون، وينهبون ويسرقون، ويستغلون ويحتكرون، والعيون عن الجميع مغمضة، أو عاجزة وخائفة، والقانون عنهم غائب، والشرطة أمامهم ضعيفة.
أما المحاكم والسجون في بلادنا فهي للمعارضة موجودة، وعليهم مقصورة، ومن أجلهم تعمل، إذ ليس في السجون غيرهم، ولا يمثل أمام القضاء سواهم، والأحكام في حقهم بالإدانة جاهزة، بل هي مكيفة لهم، ومعدة من أجلهم، وقد يخفف بعضها بالمال، أو تلغى بتغيير الرأي وانقلاب الولاء، وحمد الحاكم وشكر السلطان.
أسرد هذه الحقائق بكل أسف، وأستعرض هذا السلوك بكل حزنٍ، لكنني لا أشيد به ولا أمدحه، ولا أروج له ولا أزينه، بل أستعرضه متألماً متحسراً، متسائلاً لماذا كل هذه الشفافية عند عدونا وهو الظالم المغتصب، والمعتدي الغاشم المستبد، ولماذا هذا الحرص المبالغ فيه على الحقوق والخصوصيات، إذ لا كبير عندهم، ولا محصن بينهم، ولا شريف فيهم يعذر، ولا وضيع بينهم يُسأل، بل هم جميعاً أمام القانون سواء، يتساوون ويحاسبون.
في الوقت الذي تغيب فيه العدالة عندنا، ونفتقر إلى أبسطها، ونعاني من إهدار معظمها، إذ لا يتساوى بيننا المواطنون، ولا يخضع فينا المسؤولون، ولا يحاسبون ولا يعاقبون، ولا تقو الشرطة على استجوابهم، ولا يستطيع القضاء محاكمتهم، ولا يتجرأ المواطن على أن يشكو عليهم، أو أن يقدم للشرطة والقضاء الأدلة والقرائن على إدانتهم.