(1) الشّيطان الصغير
أصدقاء مروا بحياتي…
(1) الشيطان الصغير
إنّ مرحلة الطّفولة دون الثانية عشرة عاما، وسَمت ذهني بصداقة غريبة. حين أستعيدها الآن في هذا العمر، لا أصدق أنّني عشتها..بل أراها و كأنّها مجرد حلم عابر. حتّى لا أقول كابوسًا مزعجًا..
في ذلك الصّباح الخريفي البارد، أواخر الخمسينيات شهر أكتوبر. في مدينتي (وجدة)، كان الدخول المدرسي، و الّلقاء مع معلمين جدد، و رفاق منهم من كانوا معي في الفصول السّابقة، و منهم من تعرفت عليهم لأوّل مرّة في مدرسة (سيدي زيان ). بدأ المعلم الفرنسي (بوليدوري) في إجلاسنا حسب طول و قصر القامة، ومن لهم صعوبة في رؤية السبورة ممن نظرهم سليم.. فأجلس إلى جواري طفلا، لم أنتبه أو أهتم به بداية لانشغالي برؤية الرّفاق القدامى وتحيتهم، و اكتشاف الفصل الجديد و مكوناته…
و لكن بعد أن استتب الأمر، وجدتني أجلس أمام طفل لا أعرفه، كان صامتا لا يتكلم، يرتدي قميصا أزرق باهت يبدو أكبر منه، و يرتدي سروالا قديمًا عريضًا يشدّه بشريط، و ينتعل صندالا من الميكا أبيض. لا أكتم أنّني شعرت بتقزز و بخاصّة حين أصبحت أشمّ منه رائحة تزكم أنفي..طوال الحصّة الصباحية لم يتكلم. إنّما كان يجول بنظراته الحادّة، كأنّه يتفحص التلاميذ تلميذا تلميذا، و كأنّه يتساءل عن سبب فرحتهم و ابتهاجهم في أوّل يوم من ذاك العام الدراسي. و فجأة لاحظ تتبعي لنظراته، فالتفت إلي، كانت عيناه ضيقتان و نظراته غريبة..
مر ّالأسبوع الأول فالثاني…توطدت صلتي بهذا الطفل الذي كانت كنيته النُّقرُط . كان يستغل كلّ أدواتي. و لم أكن لأمانع لقد أدركت أنه فقير.يعيش مع والده في غرفة فوق السّطح. يعيشان على تربية الحمام و بيعه. أمّه توفت منذ سنتين…هذا كلّ ما عرفت عنه، لأنّه كان قليل الكلام. لا أذكر أنّه تكلم كباقي الأطفال، أو ضحك ضحكهم…بل لم تصدر عن شفتيه القرمزيتين إلا ابتسامات قليلة شاحبة من حين لآخر، سرعان ما تختفي ..
فما أن تقدمت أيّامُ الدراسة ، حتّى اكتشفت أنّه غير مبال بالمواد و شرحِ معلمي العربية و الفرنسية …بل أحيانًا يكتبُ و جلّ الأوقات.. يتهالك برأسه على ساعديه، و قد ينام.. الشيء الذي يعرضه لغضب معلم الفرنسية فينهره و يؤنّبه و قد يضربه بمسطرته على مؤخرته بعد أن يشدّه كبيرا الزملاء من يديه و رجليه و هو ممدود على الطاولة ..
كان لا يبكي و لا يذرف الدّموع أبدا. يعود إلى مقعده يلامس فخذيه من الألم. و ينظر شزرا إلى المعلم. ثم ينظر إلى الزميلين الذين كُلّفا بشدِّ يديه و رجليه.
في الغد من ذلك، كنا نلعب الكرة قرب المؤسسة. و كنا نضع محافظنا قرب الجدار.. لما دق جرس الدخول تفقدنا محافظنا. لقد ضاعت محفظتان. و دخل الزميلان إلى الفصل يبكيان، و أخبَرا معلم العربية بفقدان محفظتيهما. كل التلاميذ تأثروا للخبر. إلا النقرط الذي كان يجول بنظراته القاسية ، متتبعا تدخلات التلاميذ و هم يحكون قصّة اللّعب و فقدان المحفظتين ..
بعد أيّام قليلة لم يعد النّقرط يستغل أدواتي .. بل أصبحت له أدوات خاصّة .
أسبوع بعد ذلك. افتتح معلم الفرنسية (بوليدوري ) حصّته بأن أخبرنا أنّه فقد كلبه (روس) من نوع الكنيش، و أخذ يصفه لنا بتأثر كبير، و أخبرنا من يأتي به أو يدل عليه.. له مكافأة…نسينا المسألة ،و إن كان المعلم يذكرنا بها من حين لآخر عسى أن يجد ما يطمئنه على كلبه.
و ذات أحد، طلب منّي النّقروط أن أصاحبه إلى سوق الطيور.. فلم أستطع رفض طلبه..لقد أصبحت أتوجّس خيفة منه .و بخاصّة لما كثر شجاره مع التلاميذ، و ضربه بقوّة لمن يعاكسونه الرّأي، أو يسخرون من تصرفاته الغريبة .. و قبل الذّهاب إلى السّوق، صاحبته إلى أعلى السّطح حيث أبراج الحمام.
و هناك كانت المفاجأة، إذ رأيت الكنيش، كلب معلم الفرنسية . فما أن لاحظ أنني اكتشفت الأمر، حتّى اضطرب و انفعل.. و أمرني ألا أتكلم في الأمر. فحاولت اقناعه بإرجاع الكلب لصاحبه، و قد يحظى بالمكافأة.. فجحظني بعينيه الضيقتين، و عاد ليأمرني بالصّمت.
في طريقنا إلى السّوق، أخبرني بأنّه يَخشى والده كثيرًا. و يخشى أن يموت و يتركه وحيدًا.. لأنّه كثيرَ السّعال، و الشّعور الدَّائم بضيق في التّنفس…
حين باع الحمام، قفلنا راجعين، اشترى لي و لنفسه نصف خبزة من ( كران ) فاستوقفتنا متسولة تحمل صبيا، و طلبت صدقة، أو شكت أن أمدّ لها نصف الخبزة. فنظرني غاضبًا. و سأله بمكر ا: هل ترغب الزّواج من أبيه.؟ اندهشت المرأة، و انصرفت تدمدم بسب و كلام لا أذكره…فقال لي ..(المسخوطة تبغي الصّدقة و لا تبغي الزّواج ) .
ما أن توسطنا السنة الدراسية، حتّى أصبح كلّ من في المؤسسة يشتكي منه، و من تصرفاته الرَّعناء ..و حدث أن تشاجر مع تلميذ في السّاحة فضربه و جاء ابن المدير و شهد بما رأى. فعاقبه المدير عقابًا و استدعى أباه و كان ينوي أن يتخذ في شأنه إجْراء ما ، و لكن حين رأى أباه، و حالة ضعفه و فقره، و كثرة سعاله ، اكتفى بتحذيره.
بعد يومين أو ثلاثة تفقد المدير سيارته سيتروين السّوداء، فوجد عجلاتها الأربع بدون هواء.. و مصباحها الأمامي منكسر .. و جانبها الأيمن مخدوشًا بحجر ..فأخبرتُ النُّقروط بما حدث لسيارة المدير. فلم يهتم. و سألني عن أشياء أخرى، لا صلة لها بالموضوع الذي أصبح حديث المؤسسة.
مرّ أسبوع أو أقل من ذلك جاء ابن المدير و رأسه قد لف بضماد أبيض. حين سألناه أخبرنا أنّه تلقى حجرًا و لا يدري من رَماه …فكلّ الفصل تعاطف معه، إلا النّقروط، لم يهتم بالأمر…
اشتدّ خوفي من هذا النُّقرط، الذي أصبحت أعرف عنه الكثير . إذ وجدته يلازمني كظلي..فاستعجلت نهاية السنة الدراسية. و قد وجدتها أطول سنة مرّت بي. و زاد من خوفي و اضطرابي..حين أصبح بعض الرّفاق في الفصل يعجبون من هذه الصداقة الغريبة، التي تجمعني رغم أنفي بالنّقرط.. فحاولت الابتعاد عنه قدر الإمكان. و ربّما شعر بذلك. فنبّهني و كأنّه يهدّدني بأنني أكاد أكون الوحيد الذي لم يتشاجر معه في المؤسسة…
و في أواخر تلك السنة تفاقم خوفي لأنّني أدركت أنّه قد ينجح في الامتحان. فنلتقي من جديد. لقد كان ينقل كلّ الأجوبة من ورقتي، و لم أكن لأمانع خوفا منه …و إن كنت أخشى أن يتنبه المعلم إلى تطابق الأجوبة..
فازداد نفوري من النّقرط، لدرجة كنت على وشك أن أصرخ في وجهه ( أن ابتعد عنّي…) و بخاصّة حين طلب منّي يوما أن أصاحبه إلى سوق الطيور على غير رغبتي.
و أنا انتظره، لفت انتباهي جَمع من الأطفال حول شجرة في القرب. فلمّا اطلعت ،شعرت بالغثيان : قط ميت و قدربط من عنقه بسلك و لف السلك على الشجرة و على القط ..سرعان ما نفرت مفجوعًا مغتما … حين خرج النّقرط يحمل قفص الحمام ،أخبرته بالذي رأيت، لم يبال بالأمر، بل أخبرني ببرود ،( أنّ القط ابن حرام ..كان يأكل الحمام .)
فانهار كلّ شيء بداخلي،لم أعد أطيق كمية الشر التي يكتنزها هذا الطفل.. فأخبرته أنّي لا أستطيع مصاحبته لأنني أشعر بصداع..فحدجني بنظرته القاسية ، و أمرني أن أصاحبه.فذهبت مرغمًا، خائفًا، حائرًا…
و مع نهاية السنة الدراسية، توفي والده..و جاء أحد أعمامه من البادية فأخذه، و أخذ الحمام في أقفاص. كنت أراقبُ رحيله من بعيد، و أنا أنتشي بفرحة غامرة …
*مسلك *

