ولد لَفقيه..
هكذا كنا نلقبه في حي بودير، في مدينتي وجدة .. كان يكبرني بسنة أو سنتين. و هو الابن الأصغر لامام المسجد و شيخ الكتّاب، الذي حفظنا على يده سورا عديدة من القرآن، في طفولتنا المبكّرة. إذْ ألحقني والدي بكتّابه في سن الخامسة . فكان نعم الفقيه، و المحفّظ للقرآن الكريم.ينحدر من شمال الجزائر من مدينة بِجاية . نزح إلى المغرب كغيره من الأسر الجزائرية، هربًا من قمع المستعمر الفرنسي . فاستقرّ في مدينة وجدة المغربية الحدودية. و مادام كان حافظا للقرآن عين كشيخ للكتاب التّابع للمسجد، ثم مؤذنا، و بعد وفاة الامام عين بدله.
وَلد لَفقيه،كان يشبه والده في كل شيئ، كأنّه نسخة مصغّرة عنه. أذكر أنّه كان مجدّا، محبّا للعلم ، مُحافظا على أوقات الصّلاة، مُساعدا لأبيه في الكتّاب، ميالا لأعمال البر و الاحسان…
ترعرعت صداقتنا كشتيلة لينة، سرعان ما توطّدت مع مرّ الأيّام. وقد يتملكني العجب، في هذا الشّأن . كيف أنّ أباه كان يمنعه منعًا كلّيا. من مصاحبة أطفال الحي. و لكنّه كان لا يفعل ذلك حين يجده معي. كان هذا يُثلج صدري، و يُفعمني نشوةً و افتخارًا…
حقا.. لم تكن لقاءاتنا كثيرة. لأنّه كان دومًا كثير المكوث في الكُتّاب أو المسجد.. لا شغل له إلا القراءة و حفظ المتون.. و مراجعة القرآن الذي كان قد حفظه مبكرًا.
و أعتقد أنَّ ولد لَفقيه هو من أثار اهتمامي للمطالعة، و ربّما كنت معجبًا باطلاعه الكبير، و دقّة فهمه ، و حُسن استيعابه لأساليب اللّغة العربية ، و قواعدها: من نحو، و صرف، و بلاغة …
فما من شيء سألته عنه في اللّغة إلا و انبرى بالجواب المقنع المفحم .. و أحيانًا يفيض بما لديه، و كأنّه يستعرض كلّ معلوماته، و أمْثلته من شواهد محفوظاته الشّعرية . .أذكر أنه كان يحدثني عن قيمة الوقت بل لأوّل مرّة سمعت منه قولة الإمام علي عليه السّلام
(الوقت كالسّيف ان لم تقطعه قطعك)
ربّما هذا الشّغَف اللّغوي هو ما شدّني إليه..الشّيء الذي لم أجده لدى أصدقائي الآخرين في الحي..
من حين لآخر كان يترك اعتكافه، و يخرج خفية من أبيه.فيرانا نعدو و نمرح و نلعب الكرة.. فيتابعنا مُبتسمًا مُبتهجًا.. و لعلّه كان يشتاق أن يجارينا و يشاركنا نزقنا و لهونا.. و لكنّه لم يَفعل. و يكتفي بمشاهدتنا مُبتسمًا ابتسامته الهادئة التي تفصح عن ثغر حسن كأنّه قطعة من نور …
و فيما أذكر ذات يوم غاب أبوه، فصلّى بنا العصر إمامًا.. و كنت لأوّل مرّة أراه إمامًا.فاستعذبت قراءته ، و حسن تجويده، فتمنّيت أن يواصل القراءة… حتّى صلاة المغرب ..كان بداخلي إعجاب كبير بهذا الطفل الذي لا يكبرني إلا قليلا.. بل لا أخفي أنني طالما حدثت نفسي، كيف لا أكون مثله…؟
يومئذ كانت الحرب الجزائرية الفرنسية على أشدّها في السنتين الأخيرتين قبل الاستقلال، و كانت الجبهة الوطنية الجزائرية تجنّد كلّ من يستطيع حمل السّلاح. و مدينتي (وجدة ) كانت تعجّ بالأسر الجزائرية التي زجّت الجبهة بأبنائها في اتون الحرب.
فجأة! غاب و لد لَفقيه فترة من الزّمن.اشتقت إليه كثيرًا ..و سَرتْ في الحي إشاعة التحاقه بالجَبهة. فلم أصدّق، كيف لطفل في لطفه و دماثة أخلاقه أن يحمل السّلاح؟لقد كان دون السّادسة عشر سنة. و إن كانت قامته الطويلة النحيلة .. توحي بأكثر من ذلك. فقرّرت أن أسأل عنه أباه. و لكن امتلكني التّردّد، فذاك كان شيخي في الكتّاب، كنت أقدّره و أحترمه كثيراً ..و لكن حين طال غياب ابنه قصدته على استحياء ..فما أن لمحني قادمًا إليه حتّى اضطرب، و تغيرت ملامحه، فانفض مهرولا.و كأنّه تذكر شيئًا. أثارني هذا التّصرّف، و ما عهدت منه ذلك ..و لكن رغم صغري أحسست أنّه قرأ ما يدور في خاطري. فتجنّب سؤالي..
في الحي سألت البقال ملحًا أن يوضح لي الأمر. فأخبرني أنّ الامام فقد ابنيه في حرب التّحرير. و لربّما لا يرغب في أن يفقد ابنه الوحيد فتراه ــ ربّما ــ يخفيه عن أنظار الجبهة.
فتبيّن لي بعد ذلك أنّ ما أخبرني به البقال كان مجرّد إشاعة تناقلها سكان الحي. لأنّ ولد لَفقيه..كانت قد أخذته الجبهة فعلا كمساعد ممرض في ثكنة بن مهيدي على مشارف المدينة.
و ثكنة بن مهيدي واحدة من ثلاث قواعد وضعها المغرب
تحت تصرف جبهة التّحرير الوطني الجزائرية
التي تشكّلت عام 1954م بعد قيام الثّورة الجزائرية.
فكيف عرفتُ ذلك.؟
إنّ يوم 1962/02/18كان يومًا مشؤومًا . إذ تعرضت ثكنة بن مهيدي بوجدة إلى قصف غادر جوي من الجيش السّري الفرنسي. أسفر عن ضحايا أغلبهم جرحى كانوا في مستشفى الثكنة. و كان من جملة الضحايا و لد لفقيه.
شعرت بحزن شديد. لقد عاش حياته القصيرة لله و للقرآن، و مات شهيدًا من أجل الوطن. كنت أرجو أن أعزي أباه. فلم يتيسّر لي ذلك .فوجدت نفسي في أمسّ الحاجة للعزاء.
لقد استمرّ شيخُنا إمامًا مُحْتَسبًا أمرَه لله..فما تغيَّر و لا تبدَّل على ما كان عليه. و حين استقلّت الجزائر. طاف وزوجته لالة باية على بيوت الحي مودعًا…فلم نره بعد ذلك .


