“روح الحكاية ” بينَ جُرأة الدّلالة و تنوّع الشّكل

روح الحكاية’ الفائزة بجائزة الدولة التشجيعية في مصر (1 / 3)

 مجموعة منير عتيبة ارتكزت على عدّة خصائص قصصية تندرج في فنّ السّرد القصير، سواء من حيث جرأة الدّلالة، أو تنوع الشّكل.

ميدل ايست أونلاين

بقلم: د. مسلك ميمون

القاص منير عتيبة

بين الموضوعي والذّاتي

في هذه المقالة، نقف عند مجموعة «روح الحكاية» للقاص منير عتيبة في تحليل يخص جرأة الدّلالة وتنوع الشّكل.

أولا: نلاحظ أنّ روح الحكي تشكل العمـود الفقري في كلّ إبداعاته الرّوائية، والقصّصية. الشّيء الذي نجده قد خَفًتَ في الكثير من الأعمال الأخرى بدواعي الحداثة والتّجريب.

أمّا القاص منير عتيبة، فيعتمد الحكي أساساً، وقد تجلّى ذلك واضحاً حتّى في عناوين بعض أعماله، كعنوان روايته: «حكايات آل الغنيمى» ومجموعتيه القصصيتين: «حكايات البياتى» و«روح الحكاية» بل يتجلّى في الإهـداء، إذ ورد التّالي: “إلى الحكاية.. التي أهفو إلى عناق روحها، يا ربي.. هل سيحدث يوما؟”.

هذا ما يؤشّر لما للحكاية، والحكي من أثرٍ في نفسه، وانعكاس في أعماله.

ثانياً: قسّم المجموعة إلى قسمين:

القسم الأول: “عن العالم .. وأنا” ثلاثة وثمانون نصا. القسم الثّاني: “عن انفصال الشّبكية” تسعة نصوص.

ثالثا : خصائص المجمــوعـة:

ارتكزت المجموعة على عدّة خصائص قصصية تندرج في فنّ السّرد القصير، سواء من حيث جرأة الدّلالة، أو تنوع الشّكل/ ومن ذلك:

1 ــ الدّلالة:

1/1 ــ التّضاد الوجداني

وهو نوع من الانفصام في شخصية البطل فيأتي بالشّيء وضده، دون حرج، أو وعي بالتّناقض مثل الذي يجسده نص “منتهى الأدب” ص/12 تناقض نفسي وسلوكي. يسمح بإثارة الأسئلة، حول الشيء ونقيضه في الذّات الإنسانية.

وليت التناقض انتهى عند حدّ ما، بل تطور كأمنية لم تتحقق لتشبع حقداً دفينا. بل فجوة مرضية عميقة. (ثمّ انخرط فى بكاء شديد، وانشرخ صوته بالنّدم لأنّه.. لم يقتل الباقين.) (؟!)

1/2 ــ تضاد المخبر والمظهر

والمسألة هنا تختلف عما سبق، وإن كان الأمر يبدو متشابهاً. إلا أنّ الفرق بيّنٌ، فالتّضاد الوجداني في النّص السّابق يخصّ أساساً حالة نفسية انفصامية. أمّا هنا فالمسألة ذات بعـد ابستمولوجي/معـرفي، إذ يحدث أن نعتقد أنّنا متمكنون من ذات الشّيء. فنكتشـف مصادفة أو عن طريق البحث والدّراسة، أنّ الشّيء متمكن منّا، وهو الذي يملكنا، ولا نملكه. وهذا يحدث كثيراً في الثّقافة الشّخصية. ويُجسّد الفكرة نص “الفاعل” ص/15 نص قصير جداً من عشر كلمات فقط: مقتبس من مسرح الدّمى.

1/3 ــ الصّدمة الثّقافية

وهي رؤية انتروبولوجية، لبعض سلوكاتنا، ومعتقداتنا، ورؤيتنا للعالم. فقد نأتي الأمر بدافع عقدي، أو ثقافي، أو مبدئي، فنجد أنفسنا لا نمتثل لاختياراتنا فحسب، ولكن نلبي حاجة في أنفسنا، سواء عن وعي منّا، أو عن غير وعي. فنشعر بأثر الصّدمة الثّقافيـة التي قد لا تهزّنا هزاً عنيفاً، ولكنّها تترك خدشَ وَعي في أنفسنا، يَحملنا على التّســــاؤل الوجودي: هل الاختيار سليم يستجيب لدواعي الإيمان والمعتقد؟ أم تشوبه شائبة ذاتية هي المحفز والمُستند؟ كالذي نجده في نص “زيارة” ص/13.

1/4 ـ الافتراضات الوجودية

غالباً ما تكون الافتراضات الوجودية بين متعة الحلم، وحرمان الواقع، لأنّ إثبات الوجود عملية نضال ومنافحة قد تستمر العمر كلّه، وقد تحقق نتائج وقد تغرق في يمّ الأماني والأحلام، وذاك ما نلمسه في نص “أحلام الآخرين” ص/17 حيث استمر الحلم الوجودي كأداة ووسيلة للتّنفيس عن ذات تعاني الإحباط فيما تريد، وما يُراد لها.

1/5 ــ العدمية السّلبية

العدمية منذ أن كانت كفكرة، ثمّ تحولت لمذهب وفلسفة، وهي تشكّل الفكر العقيم غير المنتج في معظمه. ومن وجوه العدمية ما نجده في نص “كلب مدلل.. إنسان فقير.. قصة فاشلة” ص/22 العدمية في وجهها السّلبي في الإنسان والحياة. ويصبح العدم في حدّ ذاته، الوجه الآخر للوجود:

إنّ الانطلاق من هذه السلبية العدمية ــ كما يحاول خطاب النّص إيصالها ــ تضع حداً للإبداع، والخلق والابتكار. والانتهــاء بالإحساس إلى الفشل قبل الفشل!

وبذلك يكون النّص قد نجح فنّياً ودلالياً في تصوير أبشع وجوه العدمية/ السّلبيــة (رغم أنّ الوضع نفسه مستمر.) كما جاء في خاتمة النّص.

ولاشك أنّ متابعة معاني ودلالة النّصوص المختلفة والممتعة، تذهب بالتّخييل بعيداً لنسج قراءات متعدّدة.. لربّما لا تخطر على بال القاص نفسه، وهـذا يعود بالدّرجة الأولى إلى الأسلوب وتنوعه، ومدى التّعامل مع المكونات الفنّية للقصّة القصيرة جداً، واحترام ذكاء وخيال المتلقي .. مثلا:

2 ــ تعدّد الصّيغ

لا شك أنّ تعدّد الصّيغ في الكتابة السّردية الفنّية بله القصصية يضفي متعة قرائية، لما ينتج عن ذلك من تخييل ذاتي يتجاوز تخوم النّص، لأبعاد وآفاق. لم تذكـر صراحة في جملة، أو كلمة من النّص. وذاك ما يؤشر على فنّية الكتابة. فمجموعة “روح الحكاية” اعتمدت أنساقاً من الصّيغ الفنّية الأسلوبية نذكر منها:

2/1ــ الإيجاز

لعلّ السّمة الأبرز في هذا الفن قوّة الإيجاز، وهي.. نَقلُ المعنى الغزيـر باللّفظ القليل اليسير، وقد انتهج القاص منير عتيبة، نهج الإيجاز في أغلب نصوص المجموعة، بل أمعن في ذلك أحياناً معتمداً الحذف، والإضمار، فيأتي النّص في عشر كلمات كما هو في نص “الفاعل” بل أقلّ من ذلك كما هو في نص “طلب” خمس كلمات ليس إلا: “دعوني مستيقظاً فأنا الآن أحلم” ومن ذلك أيضاً، نصوص أخرى: (تائه، رغبة، طيف، لعب .. ).

2/2 ــ التّركيز و الاستغراق

لا شكّ أنّ عامل الإيجاز يتطلب التّركيز، ولا يتّسع النّص لحجمه الضّئيل إلا للحدث المقتضى فيستغرقه، دون غيره، وهذا يقودنا إلى التّبئير، والمراد منه جعل العنصر أو المكون بؤرة في الكلام.. حفاظاً على تقنية الإيجاز. واستجابة لمكونات القصّة القصيرة جداً.

2/3 التخييلية

في القصّة القصيرة جداً أشدّ ما تكون وضوحاً وبياناً. وهـذا ما نلاحظه في جلّ نصوص مجموعة “روح الحكاية” إذ يوظّف القاص نقط الحذف كما هو الشّأن في نص: “مثل” ص/43 إذ ينتهي هكذا: “هذان الشّخصان يدريان أنّهما..” وكذلك نص “الجنون ” ص/44 وينتهي كالتّالي: (ليكون للسلطان وحده الحق في …) ونقط الحذف تشكل بياضا على المتلقي قراءته وتأويله.

2/4 ــ بين الموضوعي والذّاتي

ونقصد بذاك القصّ الموضوعي الذي ينتجه ضمير الغائب (هو، هي ..) مثل نص: “لم يدرك شهرزاد الصّباح ” أو نص: “طيف” فمن خلال هذه الطريقة في الكتابة، تتحدّد الرّؤية السّردية بوضوح، فهي رؤية من خلف، والسّارد يعرف كلّ شيء، كما تتحدّد بالتّالي وظيفة السّارد ففي النّص الأول وظيفة سردية صرفة بينما في النّص الثّاني وظيفة تفسيرية.

ونقصد بالقص الذّاتي ما ينتجه ضمير المتكلم (أنا) مثل نص: “الشّبح”، وفي هذا تتحقق الرّؤية مع، إذ يتساوى السّارد والشّخصية. وتصبح الوظيفة تفسيرية لحالة السّارد.

2/5 ــ بلاغة القص

إنّ بلاغة القص عند منير عتيبة تتجلّى في التّركيب، والصّياغة، والدّلالة، والإيحاء. وقد كان للحذف والإضمار بصمة واضحة، ومن تمّ كثرت نقط الحذف كما أسلفنا. وكما هو في نص “الجنون” وغيره من النصوص ذات النّزعة الرّمزية التّلميحية.

2 /6 ــ الميتا ســرد:

إنّ الميتا سرد أو (ما وراء السّرد) والذي يعدّ الرّوائي جون فاولز من أبرز ممثليه .. مصطلح مركــب من وراء أو المغاير، والتخييل، فالميتا سرد يتجلى مثلا في نص “بودي” ص/48 فأحياناً كثيرة تأتي الفكرة من ذات نفسها، وأحياناً لا تلح بقدر ما تلح هواجسها ودوافعها وأسبابها.

2/7 التّنـاص

يحاول القاص الاستفادة من مطالعته، فيوظفها توظيفاً فنيياً قد يتّفق والرّؤية السّابقة في النّص المقروء، وقد يختلف. ففي مجموعة منير عتيبة، نصوص استفادت من التّناص، كالذي نجده في نص: “لم يدرك شهر زاد الصباح” ص/ 78 وكذلك نص: “قرار جرئ” ص/79 استفادة من التّراث السّردي العربي، المتمثل في ابن المقفع وكتابه ” كليلة ودمنة” وحادثة قتله. وكذلك الأمر في نص: “ذبيح” وتناصه وقصة إسماعيل عليه السلام، ونص: “حكاية لزماننا ” وقصّة يوسف عليه السلام وإخوته. وقد وُفق القاص في ذلك.

مجموعة “روح الحكاية” لمنير عتيبة تتّسم بالحكي، ليس من أجل الحكي ولكنّ الحكي الذي يـؤطـر نصوص المجموعة، مختلـف: كتابة، وعرضا، وتلميحاً وتصريحاً، لأنّه جاء مستفزاً في أغلبه، نابعاً من ذات مكلومة مما ترى، ومما تسمع. وقد قُدّم هذا الحكي بلغة جامعة للرّمز، والكثافة تارة، وللبساطة، والتّلميح تارة أخرى، في هرمونية من التّبادل والتّغيير، والتّنوع والتّشكيل. وبأدوات فنّية، هي عماد السّرد في صورته البليغة. فإن دلّت على شيء، إنّما تدلّ على مدى إلمام القاص منير عتيبة بأدوات اشتغاله الفنّية، وسِعة شَغفه بهذا الفن الصّعب. وقــد أبلى فيه البَلاء الحسن: من خلال هـذه المجموعة الممتعة.

د. مسلك ميمون ـ أغادير (المغرب)

المصدر:http://middle-east-online.com/?id=230557

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.