التناص ( Intertextualité) مصطلح نقدي ، جاءت به جوليا كريستيفا كصياغة اصطلحية، و أهمّ ما كانت تعني به كما هو في كتابيها : (“نظرية الجماعة” و“سيميوطيقا: أبحاث من أجل تحليل دلائلي”) أن الكتابة الأدبية لا تنطلق من فراغ ، أو من اللاّ شيء لتكون شيئاً، بل هي كتابة تعانق ما سبقها بشكل أو بآخر.
الشيء الذي ضمن انتشار هذا المصطلح، و جعل التّخطي مُمكناً من البنيوية إلى ما بعدها ، كما أنّه أوجد استعمالاً سيميائياً، ساعد على تفكيك النّصوص لأنّه يَعني : ” وجود تشابه بين نصٍّ و آخر أو بين عدّة نصوص” كما هو في المعجم الفنّي. أو هو:” تقاطع النّصوص و تداخلها ثمّ الحوار والتّفاعل فيما بينها ” و قد عُرفت له مُرادفات اشتقاقية منها “: المُتناصة، والتّناصيّة، والنّصوصية، والتّفاعل النّصيّ”. و من خلال دراسة النّصوص يتبين أنَّ للتّناص أشكال وظيفيّة : مُطابقة، و تفاعل، و تداخل، و مجاورة، و تباعد.
و الق الق جداً حين تتعامل مع التّناص، كخاصية فنيّة ، و مصطلحٍ نقديٍّ… تستفيد حجماً، و إيجازاً، واختزالا، و تكثيفاً…و فوق هذا وذاك تكتسبُ نَسقاً فنّيّاً لمّاحاً…كالذي نجده في نص : ” قلق” للقاصّة مديحة الروسان من الأردن.
ــ العنوان [ قلق ]
لغوياً: القلق ، مصدر:” قَلَقَ “. و هو الانزعاج، يُقال :بات قلقاً ، و أقلقه غيره. و القلق أيضاً عدم الاستقرار في مكان واحد …
نفسياً: القلق حالة نفسيّة مصحوبة باضطراب، وإحساس بالضّيق والحرج من غم،أو إخفاق ..
و منه القلق الهستيري الذي يتّسمُ بالاضطراب، والخَوف، و البكاء الشديد…
النّص :
تزاحمت علي الفكرة و النّعاس.
بين إغفاءة و صحو رأيت ما يرى النائم جموعا تتراكض.. أحدهم يهش على آخر و
كلب ينبح بفزع. أنا و الجمع نراقبهم بفضول غير آبهين. الكلب هب يفض نزاعا
بين غرابين يتقاتلان . أنا و الجمع نرقب أبي عندما شدخ رأس عمي بحجر.
نلاحظ أنّ النّص يتألف من توطئة و خمسة مشاهد حلمية:
ــ [تزاحمت علي الفكرة و النّعاس. ]
توطئة لدخول نص غرائبيّ، غرابة الحلم، بل التّوطئة نفسها جاءت غرائبية ( instinctif) لأنَّ المألوف، و كما هي العادة، أنّ الفكرة حين تستبدّ بصاحبها، تحرمه النّوم و الرّاحة، إن لم تتسبب له في سهرٍ وأرَقٍ…ولكن الغريب في الأمر هنا، أنّ الفكرة والنّعاس معاً، تزاحما، وانتهيا بالسّارد إلى غفوة نوم وحلم.
1 ــ [بين إغفاءة و صحو رأيت ما يرى النّائم جموعاً تتراكض.. ]
الإغفاءة تمخض عنها مَشاهد حلمية تبدو غير مُترابطة. كأضغاط أحلام،
مختلفة، وغير منسجمه… كان أوّلها، مشهد جموع تتراكض.. و الرّكض الجماعي
يحتمل عشرات الأسباب، و يوحي بالعديد من الاحتمالات المُمكنة، و غير
المُمكنة، و يفتح مجال التّأويل القبليّ، وارتسام بعض العلامات والمؤشرات
(indicateurs) التّوقعية…بل كان ذلك ــ و في مطلع النص ــ إذاناً
بالتّشويق، و طرح الأسئلة التي تفتقد أجوبة شافية، و لكنّها تحث فقط على
متابعة مشاهد الحلم، بلهفة و غرابة، و حيرة، و ترقب…
2 ــ [..أحدهم يهش على آخر و كلب ينبح بفزع. ]
المشهد الثّاني في صورتين منفصلتين يجمعهما خيط رفيع، لا يتبين إلا بعد
استقراء و ربط: أحد الرّاكضين يظهر في زووم كميرا الحلم في صورة واضحة،
تخفي باقي الرّاكضين، و هو يهشّ على آخر. و فعل ” هشّ”: في دلالات منها:
هَشَّ الرَّجُلُ، هَشَّ، هَشًّا : صال بعصًا .
و هَشَّ الشجرَة : ضربَها بالعصا ليتساقط ورقُها .
وفي القرآن الكريم : طه آية 18 [ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ].
إذن الفعل الثلاثي اللازم والذي قد يتعدي بحرف (هشّ) يفيد الصّولة، و
الضّرب، و التّلويح بالعصا…ما يجعل الاستنتاج أنّ أحدَ الرّاكضين كان
يريدُ شرّاً بالآخر.
الشّيء الذي أثار الكلبَ في الصّورة الثّانية من
المشهد، فاسترسل ينبحُ بفزع، و خوف شديد. ممّا يرى منْ تحامُل أحدِ
الرَّاكضين على الآخر، يريدُ الفتكَ به. كما ذهب إلى ذلك ابنُ سيرين في
تفسيره للأحلام إذ قال :” فإذا رأى رجل في منامه أنّ كلباً ينبح عليه فهذا
يكون عدو يذكّرهُ بالشّيء السّيئ ويمكر به.”
3 ــ [أنا والجمع نراقبهم بفضول غير آبهين. ]
في المشهد الثالث، تتحول كاميرا الحلم إلى السّارد والجمع الذي كان يركض، و قد توقفوا جميعاً، يراقبون بذهول و فضول ــ و كما هي غرائبية الحلم ــ يَظهرون و كأنّهم غير آبهين بما يَحدث.رغم أنّ ما يَحدث يُشكّل اعتداء و جريمة، استثارت الكلبَ، فأمضى يَنبح بفزعٍ …
4 ــ [ الكلب هبّ يفضّ نزاعاً بين غرابين يتقاتلان.]
المشهد الرّابع، عنصر تحول رمزيّ. فمادام السّارد و الجمعُ/ رمز السّواد
الأعظم ، و الأغلبية الصّامتة.بقوا في الحياد غير آبهين رغم الذّهول و
الفضول الذي يَعتريهم. كان لا بدّ للكلبِ/الرّمز، أن يفعل شيئاً فهبّ ليفضّ
النّزاع بين غرابين يقتتلان، و ما دام ليس هناك ما يدلُّ على الغرابين
سابقاً، فهما رمزان للرّجلين : الهاشّ و المَهشوش.
5 ــ [أنا و الجمع نرقب أبي عندما شدخ رأس عمّي بحجر. ]
المشهد الخامس و الأخير الذي يشكّل الخَرجة. تتضح الصّورة، و كأنّها تفسّر الحلمَ. السّارد و باقي الجمع يراقبون كيف أنّ الأبَ شدخ رأسَ العمّ بحجر. و عَوداً على بدء، لتتضح الصّورة الرّمزية التّناصّية :
ــ [أحدهم يهش على الآخر ] ← [غرابان يقتتلان] ←[ (أخوان): الأب شدخَ رأسَ العم.]
القاصّة مديحة الروسان ببراعة فنّية قصصية. تلميحاً لاقتِتال الإخوة في زمننا، والذين تجمعهم كلّ الأواصر التي تفرقت في غيرهم : من دم ،و عرق، و لغة، و دين، و تاريخ مشترك… كلّ ذلك لم يحول دون اقتتالهم و سفك دماء أبريائهم ، في العراق، و سورية، و اليمن، و ليبيا. و كلّ فريق يرى أنّه على صواب، و إنْ كانوا للأسف، كلّهم ضحايا مُؤامرة ” الفوضى الخلاقة ” التي أعلنتها أمريكا، وسَعت حثيثة لتطبيقها. وانخرَطت دول عربية في أتونها. فكان الدّمار. الذي لن يَزول أثره من الأرض و لا من الذاكرة إلا بعد عقود طويلة…
فنّيــاً :
و لبناء هذه الرّؤية المأساوية الدّامية …استغلت القاصّة مديحة الروسان:
1 ــ لغة الحلم، و مشاهده المضطربة، غير المرتبطة، أوالمتواصلة، التي هي على شكل لقطات تبدو مُختلفة ، مُتباعدة، و كأنّها لا تشكل نسقاً قصصياً متوالياً.. تماماً كما هو الشّأن في الحلم، الذي فيه الأشياء تردُ رمزية، مخالفة للواقع و المَنطق و لعلّ ما يُجسّد ذلك قول السّارد : [أنا والجمع نراقبهم بفضول غير آبهين.] فكيف تكون المراقبة، والفضول، و اللامبالاة في ذات الوقت؟! هذا لا يَحدث إلا في الحلم وأضغاطه ، و ذاك من خصائص لغته التي تفيد الدّلالتين المُتناقضتين اللّتين يستسيغهما اللاوعي.لأنّهما منه و إليه. بُغية تحقيق الخطاب الفنتازي…
2 ــ استند النّص إلى خاصية التناص (Intersexualité) في وظيفته التّفاعلية. و ذلك اعتماداً على قصّة: قابيل وهابيل، و الغراب الذي قتل غراباً آخر و دفنه ،و التي هي واردة في القرآن الكريم. سورة المائدة، آية: 27-31 فقد كان قابيل وهو الأكبر صاحب زرع، وهابيل صاحب ضرع. فاختلفا في اختيار زوجتيهما، فنصحهما أبوهما أدم عليه السلام، أن يقدّما قربانا فتقبِل من أحَدِهما، و لم يُتقبَّل من الآخر. فقتل أخاه.
3 ــ و إن طغى على النّص التناصّ الفعليّ، فقد استعانت القاصّة مديحة الروسان بالرّمز أيضاً. لأنّ التّناص لم يكن تطابقياً :
ــ فنجد رمز الجموع و هي تتراكض، كرمز للفوضى ، و الفتنة ، و الخوف…
ــ كما نجد الرّمز اللّغوي : (أحدهم يهش على آخر) رمز الاقتتال غيرالمتكافئ بين قوي وضعيف ، مَن يَملك السّلطة و السّلاح و من هو شبه أعزل، و بين من يريد الحربَ و يَسعى إليها و من فرضت عليه و لا يُريدها. الشّيء الذي يَرمز في تناص إلى (هابيل و قابيل)
و بخاصّة حين قال لأخيه : [لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ].
ــ ثمّ هناك رمز “الكلب” و نباحه بفزع. و هو صورة الوفاء للقيم ، و نبذ الخلاف والحرب بين الأشقاء، وهو ما حاوله بعض عقلاء العرب الذين لم تمسهم شظايا الفتنة. فلم يكفوا عن محاولة رأب الصّدع طوال سنوات الحرب، كما لم يكف الكلب عن النّباح بفزع ، تحسباً لما ستؤول إليه الأوضاع. و التي لم يُعرها المتحاربون أدنى اهتمام. و لم يكتف الكلب/ الرّمز بذلك بل هبّ ليفضّ النّزاع بين الغرابين المتقاتلين ،رمزاً للمتحاربين من العرب ، بدون جدوى.
ــ ثم نجد الإشارة الرّمزية في فعل المُراقبة الحيادية السّلبية :
[أنا و الجمع نراقبهم بفضول غير آبهين ] + [ أنا و الجمع نرقب أبي عندما شدخ رأسَ عمّي بحجر.] إذ يشكل السّارد والجمع، الطائفة التي اكتفت بالمراقبة وكأنّ المذابح، و الدّماء لا تعنيها في شيء.
4 ــ علاقة العنوان بالتّوطئة: [ قلق] ←[تزاحمت علي الفكرة و النّعاس. ]
ــ علاقة العنوان بالخرجة:[قلق] ←[أنا و الجمع نرقب أبي عندما شدخ رأس عمّي بحجر.]
ــ علاقة العنوان بفكرة النص: [قلق] ← الاقتتال العربي العربي.
5 ــ الملاحظ أنّ القاصّة في هذا النّص المُتميز، حطّمت العادة الرّائجة في توظيف الجملة الفعلية ، و حاولت تنويع الجمل، و إن فاقت الجمل الاسمية و هيمنت على النص.
فهنيئاً للقاصّة مديحة الروسان على هذا النّص المعبّر الهادف، الذي جسّد فنّيّاً و قصَصيّاً حالة مُبتذلة لوضعِنا العربيّ، في صراعه، و حروبه العبثية. التي لا تخدم العرب في شيء . بل تزيد في تفرقتهم و تشرذمهم، و إضعافهم ، و بثّ روح العَداء فيما بينهم…في إطار مؤامرة خارجية تحاك ضدهم.
تحياتي / مسلك