عن المجموعة القصصية: ( السوق اليومي ) لهشام حـــراك:
كـتابــــة بـحـجـــم الذاكـــــــرة
* د زهــــــور كرام
( الروائية والناقدة )
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
1- عن الكاتب
الكتابة عن المجموعة القصصية للكاتب المغربي” هشام حراك” ” السوق اليومي”، تسبقها وقفة أراها تفرض نفسها على هذا التقديم، وهي وقفة خاصة بكاتب هذه المجموعة. لأن شخصية “هشام حراك” ليست شخصية عابرة في زمن الحضور الرمزي والإنساني، ولأن هذا المبدع فرض وضعه الاعتباري ( كاتب) ليس فقط من خلال إبداعاته وحضوره في الملتقيات داخل المغرب وخارجه، ولكنه تميّز أيضا بحضوره الفعلي في المشهد الثقافي المغربي، من خلال إبداء رأيه ومواقفه في قضايا راهنة تخص الإبداع والثقافة بكل صراحة وجرأة، أضف إلى ذلك تبنيه لمشروعه الطموح نادي القصة، والذي تبنى فكرة تكريم المبدعين بالتنسيق مع جمعيات فاعلة في المجتمع المدني والثقافي بالمغرب. وقد تمكن مع أصدقائه في الفكرة والحلم أن يحوّل فضاءات بعض المدن التي تعد بعيدة عن المركز إلى مدن ثقافية بامتياز. مبدع مجموعة ” السوق اليومي ” بفعل طبيعة حضوره، فهو قد اختار الإبداع إنتاجا وموقفا وسلوكا لانتمائه، ولا شك فهو يحقق هذا الحلم بفضل قيمه النبيلة والإنسانية التي تجعله محط احترام لدى الكثيرين. ” هشام حراك” يحمل سؤال الإبداع المغربي باقتناع المحب لإبداع وطنه.
عندما قرأت لهشام حراك أول الأمر بعض النصوص القصصية المنشورة في منابر مغربية، وجدته كاتبا منخرطا في حكي الفضاءات الاجتماعية المهمّشة، تلك الفضاءات التي تذوب- في الواقع- وتتلاشى مع عبورها اليومي، وهي نتيجة لذلك، لم تعد تترك الأثر، ولا تبصم وجودها في الدهشة أو الملاحظة، ولا تدعو التفكير إلى التأمل فيها. ولهذا، تدعونا قصص” هشام حراك” إلى التخلي عن الزمن المنفلت من الملاحظة، وتدفعنا إلى التأمل في هذه الفضاءات، من أجل إعادة الوعي بحالتها وفق رؤية قصصية. إنه نفس الانخراط/الالتزام الذي آمن به المبدع المغربي الكبير الراحل محمد زفزاف، حين جعل كتابته الروائية والقصصية إقامة دائمة لهذه الفئات التي حوّلها السرد لدى زفزاف إلى ضمائر تتقن الفضح والكشف، وتثير الجدل حتى بعد رحيله ، وكان في ذلك بليغا في خلق ذاكرة سردية لهؤلاء الذين أصبحت لهم سلطة رمزية داخل نصوص المبدع الغائب/ الحاضر محمد زفزاف.
في كلمته التأبينية حول الراحل “محمد زفزاف” تحدث مبدع القصة القصيرة المغربية” أحمد بوزفور” عما سماه بحاجاتنا اليوم إلى “محمد زفزاف”، ومن بين هذه الحاجات التي ذكرها، حاجتنا إلى نوع المثقف الذي كانه “زفزاف”. أي المثقف المنحاز بعفوية تلقائية إلى الفئات المسحوقة من شعبه دون شعارات، ودون استغلال لهذا الانحياز. والحاجة إلى الكاتب الذي كانه، أي الكاتب الذي يؤمن بأن الكتابة فعل إنساني، والكاتب الذي يخلق المعنى في العبث، ويؤنسن العماء المتوحش، ويؤمن بأن الكتابة فعل اجتماعي، يعبر عن أحلام الناس. ولعلنا نطمئن عندما نقرأ نصوص “هشام حراك” ، حين نلمس استمرار أفق “محمد زفزاف” في هذا النموذج من الكتابة القصصية. والحاجة إلى مبدع لا تعني نسخ النموذج، وتحويل المبدع إلى عكاز، – وقد يكون كذلك إذا كان النموذج اللاحق مستهلكا وناسخا- ولكنها تعني توسيع أفق ذلك المعنى من الكتابة من خلال رؤية جديدة للجيل الجديد الذي وإن كان يعيش زمن الإيقاع السريع حيث تذوب الملاحظة، ويتلاشى التأمل، فإنه جيل يعبر عن انتمائه إلى تجربة المعنى في الكتابة. أي أن نكتب لنخلق المعنى من الشئ أو ضده. كما تعني أيضا الوفاء بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد رمزية، الوفاء لشكل من الكتابة كان وفيا بدوره إلى واقع الناس وآلامهم وأحلامهم المعجونة بالأسى والفقر والقهر والعوز. يعني أيضا، استمرار الوفاء في تحويل هذه الفئات المهمشة في الخيارات السياسية، إلى ذاكرة صادمة لكل فعل يحاول أن يزيف التاريخ.
ونحن نشعر بوجود زفزاف في كتابات مبدع ” السوق اليومي”، كأن ” هشام حراك” ينهل من نبعه، والنبع واحد، الفئات الإجتماعية المهمشة التي يتحول حضورها داخل كتابة هشام إلى أسئلة تستفز القارئ وتدعوه إلى التعاطف أحيانا، و السخرية من واقع يمتص أسى الفئات المهمشة أحيانا أخرى، وإلى الموت مع هؤلاء حين تكون نتيجة الوضعية الاجتماعية الموت السحيق، لينفتح السؤال عن سيرة سياسة لم تؤمّن الكرامة للإنسان.
2- ” السوق اليومي” وتحويل المهمّش العابر إلى ذاكرة سردية
لا نحتاج في قراءة قصص هشام إلى كثير من التأمل في الأحداث نظرا لكونها لا تعتمد بعد الإيحاء الشديد لنظام سردها و لغتها. غير أن واقعية التشخيص واللغة معا تدخلنا في وضعية المواجهة المباشرة مع الأسباب التي أوصلت الأشياء إلى هذه التراجيديا المؤلمة. نصوص اختار مبدعها اللغة القريبة من المجتمع لكي يحدث الصدمة، بدون لعب لغوي، أو بناء احتيالي، أو تجريب يشتت الحدث، ليدفع القارئ إلى إعادة بنائه، ولكن مبدع” السوق اليومي” اختار لنصوصه مدخلا آخر، من خلاله يحدث التأثير والصدمة.
تنتمي قصص مجموعة ” السوق اليومي” إلى شكلين من الكتابة من حيث الحجم، النموذج الطويل – بموجب المألوف في مساحة القصة القصيرة- والنموذج القصير الذي قد يشمل صفحة واحدة كما هو الأمر مع قصة “فكرة” التي تنتهي بها المجموعة.
عناوين النصوص فاضحة لمحتوى القصص، إما أنها تختصر الحدث القصصي (السوق اليومي – كان بالإمكان أن يكون-روتين- من أين له بالحمار- ثلاثة أيام لرجل واحد…) أو تحيل على توازياته( جاكلين وفطومة..)، أو تحمل معها طبيعتها العجائبية الصريحة( مولود عجيب). غير أنها عناوين لا تخرج عن نموذج الشكل الذي ارتآه هشام لنصوصه. أي الحكي بدون ستار، أو قناع. والوصول باللغة السردية إلى مستوى من التشخيص الواقعي الفاضح الكاشف الصادم.
وباحتكامنا إلى المثير والمهيمن في نظام قصص المجموعة، سنلاحظ عنصرين اثنين:
2-1 الموت نهاية تلاشي الحدث
إن النهايات التي تتلاشى فيها أزمة الحدث، تأخذ من الموت النتيجة الموضوعية لمسار حياة وسلوكات الناس في الفضاءات المهمشة. فنهاية قصة ” السوق اليومي” التي تضئ حكاية الخالة حليمة بائعة الباكور، بطريقتها الخاصة في ترويج بضاعتها” – الخير موجود…الواحد، ف هاذ البلاد، يعيش غير بالباكور.”(ص 16)، تنتهي بجريمة وقتل. وتتلاشى عقدة قصة” كان بالإمكان أن يكون” في إقدام احميدة الذي ظل حافيا من كل الألقاب على الانتحار بعد أن طعن نفسه طعنات متعددة في أماكن مختلفة من جسده. وفي قصة” بلح البحر” ينام ” شعيبة” ويأخذه الموت بعيدا عن “ميمونة. أما الحبيب في نص” حب على الشاطئ ” فبعد أن يلتقي حبيبته على شاطئ البحر، تأخذهما لهفة اللقاء إلى وصال ينتج عنه العار الذي منه هرب إلى البحر، فكانت نهايته الغرق والموت. ينهي الموت الوجود العجيب لبطل قصة” مولود عجيب” . أما في نهاية ” رحلة عبر القطار” فيأتي الموت بصيغة الفناء الذي يحدث بهزة أرضية عنيفة، انتهى على إثرها كل شئ. يأخذ الموت في قصة”جناحا مالك الحزين” بعدا رمزيا، من خلال فقدان البطل للوظيفة التي كان ينتظرها، وتطير منه عندما تعذر عليه الحصول على وثيقة الازدياد بسبب تماطل الموظفة المسؤولة عن ذلك. ويتكرر الانتحار مع قصة” ثلاثة أيام لرجل واحد” حين يضع المعلم نهاية لحياته، بعدما ذابت أحلامه التربوية، وأجبر على تدريس أربعة مستويات في فصل واحد. وفي نص ” الطيارة” يختار يوسف – الكاتب نهاية لشخصية المعتوه الذي اختفى من المقهى نهاية مأساوية ، إذ كتب قصة قصيرة عنه” ولم يجد له فيها من حل غير وضع حد لجنونه”(ص67).
لقد جعلت نصوص المجموعة نهاية شخصيات أحداثها نهاية مأساوية، تحمل معها عمق الأزمة، نظرا لكون الموت يلحق أناسا يحملون أحلاما مشروعة، ويعملون بنقاء، غير أن الواقع يحولهم إلى مجرمين كما مع الخالة حليمة التي تتحول إلى مجرمة، ترتكب جريمة قتل دون أن تعلم لأنها كانت تدافع عن بضاعتها ، والمعلم يضع حدا لحياته، ليس لأنه لم يقبل أن يرحل إلى مدرسة بعيدة للعمل فيها، ولكن لأنه لم يجد المدرسة كما فكر فيها، والحبيب الذي يختار الموت غرقا لأنه لا يملك القدرة على الزواج من حبيبته التي وصمها بالعار. وهو وضع يسري على كل شخصيات القصص التي تنتهي بالموت .ولعله وضع يتضمن شكلا من السخرية على واقع يدفع بأناسه إلى الموت والجريمة والانتحار. ولهذا وجدنا ما تبقى من النصوص تنتهي بإضفاء بعد السخرية على شخصياتها أو أحداثها، لأن السخرية هي الوجه المقابل لعمق الأزمة. ولعلها سخرية نقرأ بها وضعية هؤلاء الذين طلبوا الحياة البسيطة بأبسط أدواتها، ولكن الموت كان متربصا بهم. وبالمقابل نلتقي بنص ” فوز ساحق” النص الذي ينتج معرفة بالنصوص السابقة وبنهايتها المأساوية. “فوز ساحق” لحميد “البزناس” في الانتخابات، “حميد ” الذي كان يتاجر في المخدرات، ويعيش حياة الفساد، سيلوّن شخصيته ويغسلها بأموال المخدرات ويرتدى جلبابا يوم الجمعة ويصلى مع الناس ثم يدخل الانتخابات ويفوز فيها فوزا ساحقا. وتتعمق السخرية حين يتحول ابن خالته” عباس” المجاز في العلوم الاقتصادية إلى أداة تحقق لحميد لعبة دخوله الانتخابات. هو النص الذي انتهى نهاية ساحقة للموت المشتت في نهايات النصوص. تغلب فوز حميد في الانتخابات على الموت.. وفي هذا معادلة تتم بسخرية لاذعة. فالشخصيات التي تجدّ وتكد من أجل تجاوز العوز والفقر، والتي تبحث عن لقمة العيش بعرق الجبين، شخصيات يدفعها الوضع إلى الموت، تكون نهايتها نهاية تراجيدية. أما الشخصية الانتهازية الأمية فإنها تحقق الحلم وتفوز في الانتخابات. وربما في هذا قراءة للواقع السياسي المنحط الذي تتجلى صوره في “فوز ساحق”، وتنعكس تجلياته في نهايات النصوص القصصية لدى هشام. وبهذه الصورة تقترح قصص مجموعة ” السوق اليومي” قراءة في وضعية الفئات المهمّشة، في علاقة مع الواقع السياسي الذي يتآكل من داخله بسبب مكوناته الانتهازية، واقع لاعقلاني يعيش من الازدواجيات التي تجعل منه صورة مشوهة للفعل السياسي غير المعقلن. وضع يدعو إلى التقيؤ، من كثرة ما يعرفه من تناقضات واعتباطية في التعامل مع القضايا الاجتماعية ، وبهذا تأتي قصة ” القيء” لتشخّص حالة الغثيان التي يعيشها المجتمع، حيث يشمل القيء كل الأمكنة.
2-2 حضور المكان مع بطء الزمن
تعتمد أغلبية النصوص على تقنية الوصف التي تشمل- على الخصوص- المكان والشخصية. فأغلبية النصوص تبدأ بوصف المكان أو الشخصية ، أو يتخلل الوصف بنيات القصة، وهي تقنية تجعل الزمن بطيئا، بل توقفه عندما تجمّد حركته. ولهذا، عندما نختبر ذاكرتنا- كقراء- بعد الانتهاء من قراءة النصوص، عن الأشياء التي ظلت موشومة بالذاكرة، سنجد الشخصيات( الخالة حليمة، شعيبة، المعلم، حميد البزناس وآخرين) كما سنتذكر السوق اليومي حيث كانت حليمة تبيع بضاعتها، والمقهى حيث كان الكاتب يوسف يلتقي بالمعتوه، والصخرة حيث التقى الحبيبان بعد رغبة الصلح ليلد الصلح العار والغرق. إنها أمكنة امتلكت ذاكرة بفعل الوصف الدقيق الذي وإن جاء مقتصدا فإنه عمّق الرؤية. وبهذا تؤكد نصوص المجموعة القصصية على المكان المهمّش، حين تصفه، وتجمّد الزمن، حين تجعل حياة الفئات المهمّشة خارج زمن العيش الكريم، من جهة، ثم خارج الزمن السياسي باعتبار هذا الأخير زمن القرارات والخيارات التي يتأكد خللها في النتيجة الحتمية لنهاية القصص. الحاضر إذن بقوة الوصف هو المكان والشخصية باعتبارهما بطلي الزمن العابر، زمن الجمود والروتين والقيء. أما الزمن الحركي فهو جامد حتى إشعار آخر.
لا يعد هذا التقديم قراءة منتهية لشكل تواصلنا مع هذه المجموعة، إنما رؤوس أقلام حاولت من خلالها أن أفتح شهية قارئ هذه المجموعة لكي يسافر في هذه الأمكنة، ويعيش لحظات مع أناسها، ويصغي إلى شخصياتها عبر لغتها الصادمة الكاشفة البليغة القريبة من وجدان البسطاء، ويتساءل عن دور هذا الشكل في الكتابة القصصية في إعادة الوعي بوضعية المهمشين.
كما لا أزعم أن هذا التقديم قراءة منتهية في دلالاتها وتأويلاتها وقراءاتها لنظام قصص المجموعة، نظرا لكون هذه الكتابة وإن كانت توحي ببساطتها، وابتعادها عن التعقيد في البناء السردي، وفي صوغ العوالم الحكائية، فإن صعوبتها في قدرتها على تحويل البسيط إلى سؤال، والعادي إلى استفهام، وفي تحويل العابر في حياة البسطاء إلى مادة متخيلة بلغة الواقع. كتابة تلد المعنى من الصامت والساكن والجامد، وهي تفعل ذلك بواسطة لغة الواقع المهمش. وهنا تكمن الصعوبة ، ومن هذه الصعوبة تلد المجموعة الدلالات.
إنها كتابة تعلمنا كيف نندهش من العادي العابر، وتنمي فينا حس الملاحظة، وتربي في ملاحظتنا جرأة السؤال. ولهذا لابد من أن نطرح سؤالا على أنفسنا ونحن قد انتهينا من قراءة قصص ” السوق اليومي”.
ما الذي تغيّر فينا بعد قراءة هذه العوالم القصصية !.
يغني الكاتب ” هشام حراك” بهذا النموذج من الشكل القصصي، المشهد القصصي المغربي الذي يتغذى من تعدد تجاربه التي تختبر كل الأنظمة والأشكال، بحثا عن أكثر الإمكانات القصصية والفنية والجمالية قدرة على تشخيص رؤى الكاتب. فتحية لهذا المبدع، ومن خلاله تحية إلى كل المنتجين لفن القصة القصيرة بالمغرب الذين يحققون تميّزا خاصا، جعل القصة القصيرة بالمغرب تعرف تطورات في البناء واللغة.