ما قبل السّرد:
إنّ الكتابة عن جرح نازف ،لم يندمل
بعد كالجرح السّوري، صعبة و مؤلمة ، و بخاصّة من قاص كابد و عانى، و يلات
الحرب المفروضة بين جماعات الشّعب الواحد..ما اضطره إلى الرّحيل و اللّجوء
بعيداً. ضمن زمرة اللاجئين، الفارين بأنفسهم و أطفالهم.. تاركين كلّ غال و
نفيس من متاعهم و أرزاقهم ..
فمن ديار الغربة و الاغتراب و
الحنين، لما تبقى من الوطن المدمّر، يكتب، القاص حسن جبقجي ، لا ليوثق
أحداثاً مروعة، كان شاهداً عليها. أو يستعيد مأساة الجرح الذي تفاقم فحسب. و
لكن ليعبّر في إطار مسار قصصيّ فنّي، ينبض بكلّ حزن وشجن، و يتفاعل بحسّ
واقعيّ تارة، و تخييلي فنّي تارة أخرى، تاركاً للمتلقي صلاحية الاستنباط و
التّأويل. و ملْء الفراغات، و الجواب عن التَساؤلات..
مجموعة ”
بقايا جسد ” تتحدث عن بقايا سورية التي كانت تنبض بالحضارة ، و عبق
التّاريخ .. و تقف بنصوصها وِقفة طويلة عند سورية الوقت الحاضر، التي تنوء
من أعباء حرب مجنونة ،في خضم من الدّمار و التّلاشي ، و أزيز الطّائرات، و
فرقعات البراميل المحمومة المتساقطة ، و لعلعة الرّصاص، و الشّظايا، و
الضّحايا و الدّخان، و المقابر الجماعية، و الهروب لأيّ مكان، و اللّجوء،
عبر البحر عرضة للغَرق ..
انقسمت المجموعة إلى قسمين :قسم خصّه
القاص بالقصّة القصيرة ، و أخر بالقصّة القصيرة جداً، و إن كنتُ أجد أنّ
ذلك كلّه يدخل في إطار القصّة القصيرة جداً.لأنّ الاعتبار إذا توقف على
الحجم، فقد تمتد أسطر القصّة القصيرة جداً لما يصل إلى صفحة إلى صفحة
ونصف.و ذاك ما بلغته النصوص الخاصّة بالقصة القصيرة في هذه المجموعة. حقاً
أن النصوص الخاصة بالقصة القصيرة جداً جاءت جدّ قصيرة . و لكن ذلك لا يغير
في الأمر شيئاً، فهي كآلة الكورديون تتقلص و تمتدُّ في حدود متفق عليها،
بمعنى لا تصل إلى مستوى حجم القصّة القصيرة. التي تتراوح بين خمس و سبع
صفحات.. حسب المتعارف عليه .
مجموعة ” بقايا جسد ” من خلال
نصوصها القصصية اعتمدت مكونات فنّية مُتنوعة جعلتها في نسق قصصي يعتمد
الحكي بشكل أساسيّ . نحاول أن نجملها في التاّلي :
1 ــ أنْسَنةُ الأشياء، الكلُّ أصبح يُعبّر عن حالةٍ، و وضعٍ خاص. و لسان حاله يُردد أنا شاهد على ما حَدثَ و يَحدث ..
2 ــ تَوظيف النّسق الغرائبي ،و العجائبي ..للتّعبيرعن أجواء اللامعقول التي تكتنفُ الأرض و البَشر، فينعدم المنطق،و الحوار، و تنتصرلغة الفتك والدّمار. وروح الأدرمة، والسّودوية.
3 ــ الوصف المقتضب، الذي يشبه وخز الإبر، لتحديد عناصر المأساة، تجنباً لأيّ استطراد أو تكرار، مع المَيل للإشارات الإيمائية ..
4 ــ اللّغة النّقدية، و قد جاءت هادئة شفّافة، و تكاد تكون مُهيمنة على أغلب النّصوص ، لأنّ ما وَقع و يَقع يستوجب نقداَ ، لكلّ السّياسات التي اتّبعت، فأساءت . و السياسة التي ينبغي أن تكون مستقبلا، لصالح الشّعب . لاستخلاص العبر،و تجنب تكرار المَأساة ..
5 ــ تَوظيف الصّورة السّردية، بين فردية : التي تعتمد التّصوير الحسّي دون النّفسي، و الصّورة المركبة : التي تجمع بينَ ما هو حسّي ،و ما هو نفسي/ عاطفي .
6 ــ التّنوّع الموضوعاتي ، و لكن في إطار الحرب السورية. و لقد نجح القاص حسن جبقجي في سردها من زوايا مختلفة، و كأنه يرصدها بكمرات متعددة، ما أضفى على المجموعة تنوعاً سردياً في إطار واحد .
7 ــ المقاربة الاختزالية : و تكاد تكون عامّة، كنسق سرديّ، سواء في القصّة القصيرة أو القصيرة جداً، فهناك دائماً فرغات بيضاء..و أشياء لم يتم الحديث عنها، و كأنّها فرصة للمتلقي ، ليفرد جناحي خياله، ليحلق بعيداً.
8 ــ اعتماد القاص حسن جبقجي على السّارد العليم، و السارد المشارك. و تبدو المَسألة عادية، بحكم معاناة القاص نفسه، و اطلاعه على معاناة الآخرين، سواء في سورية أو أثناء الهجرة، واجتيازالبحر، أو في ديار الغربة و اللّجوء. كلّ هذا حتّم توظيفَ السّاردَين، و الجميل أنّ القاص حسن جبقجي أحكم السّيطرةَ عليهما، فلم يشتطّ السّارد العليم فيقول كلّ شيء . و لم يغتر السّارد المشارك، فيسهب في مشاعره و سلوكه ..
9 ــ اللّغة في المجموعة اتّسمت بالبساطة، في إطار قصصي فكانت في مستويين :
السّرد و الحِوار، و إنْ كان السّرد مهيمن على النّصوص . التّراكيب في
معظمها لم تكن مُكثّفة أو غامضة ، ولكنّها ذات طابع اختزالي. تسمح
بالتّأويل في الغالب. و تعتمد البوحَ و الحكي أساساً. أمّا الحوار و إن كان
أغلبه بالعربية الفصحى، فقد راعى القاص مستويات الأشخاص، بل وقد عمد إلى
التّهجين و التّنضيد، و إن كان ذلك في أقلّ ما يمكن ..
10 ـ القُفلة ، تشكّلت القفلة في صور مُتعددة، و لكن أهمّها ما جاءت مُفاجئة و صادمة. معبرة عن إحساس جريح ، و مشاعر مَكلومة، و أرواح ضائعة، فالمفارقة في جميع النّصوص تبدو ذات أثر درامي خالص، و لقد اجتهد القاص في أن يجعل القفلة علامة تذكير قوية، تشدّ الانتباه.بل تدعو للتّأمل و التّساؤل ..
11 ــ الإحساس بالعبثية : إحساس تشبعت به معظم نصوص المجموعة، لا أحد يعرف حقيقة المأساة ! و لا كيف تطورت؟ و لا متى تنتهي..؟ و إن كان الكل يفهمها فهماً خاصاً به ..غير أنَّ الكلّ يدفع الثّمن، و الكلّ ضحية، و المؤامرة فوق الجميع، و القتلُ المستمر هو اللّغة اليومية ..
12 ــ التّنوع: ففي هذه المجموعة يشعر المتلقي فضلا عمّا سبق أنّ النّصوص تجمع بين الواقعي و هو المُهيمن ، و الفانتاستيكي و الحلمي و السير ذاتي..و ذلك في تمازج رؤيوي ينصب على الحدث السّوري في مَقصدية واضحة .
عموماً هذه الشّذرات، و التّلميحات متجمعة.. أو ما سيكتشفه المتلقي من ذات نفسه، توضح عمق موهبة القاص السّوري حسن جبقجي، و تلمح لما له من استعداد لبناء صرح قصصي في مجال القصّة القصيرة، و القصيرة جداً. هذا الجنس الأخير من السّرد الذي أصبح يفرض نفسه بشكل لافت ، حتّى أنّ الأقلام جاءته من أجناس أخرى تخطب ودّه.و قد ظلّ و مازال مستعصياً، لا يناله إلا من أوتي موهبة، و استجاب لقواعد الممارسة.. كالذي نجده في مجموعة حسن جبقجي : ” بقايا جسد ” .
د مسلك ميمون