نص قصصي: رسائل خاصة / للقاصة فضيلة الوزاني التهامي

قصة قصيرة:
رسائل خاصـــة
فضيلة الوزاني التهامي
_______

القاصة فضيلة الوزاني التهامي

من الرسائل القصيرة التي تصلني أعرف أنه بخير، في أول عهدي بالهاتف لم أكن أعرف، هو من علمني أن أميز بين رنات الهاتف؛ خرير الماء هو صوت الرسائل التي تصلني منه، أما الأصوات الأخرى فمن شبكة الاتصالات ، وهي التي تصل غالبا.
ابني دائما هادئ، منعزل، لا يؤذي أحدا، ال يحب العراك ولا تراه طرفا في شجار أبدا، لكنه لا يتأخر عن مساعدة الآخرين؛ عندما هطلت الأمطار وغمرت المياه الأزقة، خرجنا لشق السواقي بين الدور، وقف إلى جانبي اليوم بكامله وقد شمر عن ساعديه وغمر الوحل ساقيه؛ حمل الأوحال بالجرافة ونحاها عن البيوت وأخرج الأثاث من تحت الأتربة. يومها دعت له كل النساء وترحم الرجال على والده كثيرا، كنت فخورة به.
عندما نجح في اجتياز الباكلوريا فرحت، وزغردت يومها الجارات كثيرا، ثم زغردن أكثر وهو يحمل أوراقه ليذهب إلى الجامعة، وشيعنه حتى غاب عن الحي. بعد أن التحق بالجامعة أصبح يتغيب عن البيت باستمرار، يقول إننا نعيش في الطرف الآخر من الأرض، والدراسة بالجامعة عالم آخر. عندما يغيب لأيام أعرف أنه يدرس مع أصحابه الطيبين، أنا لا أعرفهم لكني لا أشك أنهم طيبون ليتحملوا ضيافته في كل مرة. في المرة الأخيرة غاب قرابة شهرين، وحين عاد كان بالكاد يتكلم؛ لا أنه منهك بالدراسة، ثم قال بعد صمت أيام إنه لن يذهب إلى الجامعة، لم أسأله لم يريد ترك الدراسة وما عليه أن يفعل؟ لم يفعل شيئا؛ قعد في البيت ولم يذهب إلى الجامعة ولم يذهب إلى أي مكان آخر. قبل أن يغادر ذات مساء قال:
ـ إذا لم تصلك رسائلي فاعلمي أني بخير، فكرت ما الفرق بين أن يبعث رسالة أولا يبعثها إذن.
الليل في أوله، ومن الباب المفتوح تنفذ رياح باردة، المطر القوي بالخارج يتخطى رؤوس الرجال الواقفين ليلفح وجهي برذاذ أبيض ودخان أسود، ربما لم يكن الرذاذ أبيض والدخان أسود، هكذا التقطتهما حواسي. الرجال بالبدلات الزرقاء لم يكونوا في حاجة للكلام لأ عرف أنهم رجال الأمن، كان بينهم من لا يرتدي البدلة، ومع ذلك فأنا أعرف أنهم جميعا من الشرطة
. ـ أنا أمه، أجبتهم عندما سألوني عنه. ِ
ـ تشرفنا رد أحدهم بسخرية بادية، لاأعرف لم يسخرون فهم من سألوني عن قرابتي له!
ـ ستذهبين معنا علينا التحقيق معك، قال أحدهم دون أن أعرف لم عليهم أن يحققوا معي
الأضواء مشعلة والرجال موزعون في كل المكاتب، جو مخنوق بروائح السجائر وكلام كثير وضوضاء ،لا شيء يوحي بليل ماطر، لم أكن أعرف أن الموظفين يشتغلون في الليل، بحينا لا يوجد موظفون. الأسئلة الكثيرة التي طرحت علي لم أجب عن أغلبها، فكل ما أعرفه أنه يدرس بالجامعة، وأنه يغيب أياما للدراسة مع أصحابه. الرجل ذو الوزرة البيضاء يملأ الأوراق ويضع عليها الأختام، والشرطي لا يزال يمسكني بقوة من ذراعي، هل أبدو امرأة قادرة على الهرب؟ الممر الأبيض طويل وخال، وخزانات حديدية مغروسة في الجدران البيضاء للغرفة الباردة مثل الرجال المحيطين بي.
. ـ عليك أن تتعرفي على الجثة، قال الشرطي، لم أسأله هذه المرة فالأسئلة الكثيرة تزعج الشرطة.
الرأس الذي أطل علينا من داخل الثلاجة أسود متفحم وتنبعث منه رائحة احتراق طري، استغربت أن يكون الشيء الأسود الوحيد بالغرفة. بقايا القميص القطني كانت تحمل زرا واحدا صغيرا؛ كنت قد خطته بنفسي عندما سقط الزر الأصلي، اقتلعته من سروال والده المتوفي، فهو لم يعد بحاجة إليه.العين اليمنى كانت مسمولة وأخرى تنظر إلي نظرة جامدة، أطلت النظر للحظة فخيل إلي أنها تريد أن تدمع لكنها حافظت على سكونها دون أن يرف لها جفن، ابني لم يكن أبدا يرفع نظره إلي فماذا حدث؟
خفت أن أبكي فيضعونني معه، لكني لم أستطع أن أمنع نفسي من السؤال، فسألت وأنا أضع يدي على فمي: ـ أين باقي الجسد؟ ـ
سبقه إلى الجنة، أجاب الرجل في غضب واضح. “
قال إنه سيدرس ويساعدني، طالما وعدني بأن لا يتخلى عن إخوته فماذا حدث”! لم يصلني الجواب، فأنا في الأصل لم أحدثهم. بعد وقت طويل قال الرجل الذي يختم الأوراق:
ـ ستبقين معنا حتى ننهي األمر، هذه المرة قلت بصوت: ” نعم” مع أنني لم أعرف عن أي أمر يتحدث.
سيارة االسعاف التي أقلتنا، أنا وابني، كانت تطلق صفارتها وتشق الطريق بسرعة فائقة، هل يتطلب الذهاب إلى المقبرة كل هذه السرعة؟
أناس كثيرون، يصرخون ويصفرون على موكبنا الصغير، منعونا من الدخول إلى المقابر، لا أعرف لم هم غاضبون فأنا من فقدت ابني لا هم. جلسنا تحت المطر حتى انفض الجمع بمغيب الشمس، وظل رجال الشرطة محيطين بنا، في سفح الجبل المحاذي للمقابر، كنا قلة ودفناه بدون صالة ولا قراءة القرآن، ربما لا يصلون على الرؤوس المحروقة. نساء الحي قلن لي: ” لا نريدك بيننا”وإحداهن بصقت في وجهي، الغريب أنها نفس الجارة التي بح صوتها من الزغاريد يوم نجح ابني، كنت أعتقد أنهن سيعزينني. ومقدم الحي قال إنه سيقدف بي خارج المدينة، وكأننا لا نعيش خارجها.
كل ما يحيط بي تغير فجأة، بقيت مسألة صغيرة، صوت خرير المياه من الهاتف يخترق صمت الليالي معلنا وصول رسائل قصيرة لا أعرف معناها ولا أفتحها، فأنا في الأصل لاأعرف القراءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.