سألني الأستاذ مبارك السعداني: ( السلام عليكم أستاذي،اعتذر على الاقتحام.رمضان كريم .طرحت على صفحتي موضوعا عن القصة القصيرة جدا وعلاقتها بالمحكي الشفهي.أريد رأيكم في الموضوع إذا تيسر لكم الوقت… )
المحكي الشّفهي والكتابة السّردية
حين نعتزم الحديث عن المحكي الشّفهي، أو الكتابة السّردية، فنحن بصدد الحديث عن وعي جمعي ، تكوَّن عبر أجيال متلاحقة، لأنّ الشّفهيّ و الكتابي، عُملة واحدة بوجهين. فكما أنَّ العملة لا تكون لها مصداقية عند الصّيرفة و النّاس أجمعين إلا بوجهيها . فكذلك الحكي،لا يمكن أن يتجرّد من عُنصُريه الأساسيين. علماً أنَّ القاص مهما بلغتْ براعته و مَهارته.. فهو لا يَستقي مادته من فراغ، بل أغلبُ اسْتيحاءاتِه لها جذورٌ تضربُ في الماضي التّراثي. و إنْ بدت كتابته حداثية، تعانق الحاضرَ، وتستشرفُ المُستقبل..
المحكي الشّفهي: كان و مازال هو أرضية البدء، قبل عملية التّدوين. التي جاءت لاحقاً، للحفاظ، و رعاية ما توارثته الأجيالُ شفهياً.. ففي نطاقِ الحكيّ العربيّ.. ما كنّا اليومَ لنعلم شيئاً عن أنماط الحكي عند أسلافنا، بله الحكي نفسه، لولا هذا الاهتمام المُبكّر، و الالتفات المعتبر للتراث الشّفهي فـ ” في العصر العباسي اتّسع ميدان القصّة العربية و ألفت فيها كتب كثيرة منها كتابا ( المحاسن و الأضداد و الحيوان ) للجاحظ، و ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه ، و ( الأغاني ) لأبي فرج الأصفهاني . و تعدُّ هذه الكتب المصادر و الجذور الأولى للقصّة العربية القديمة البسيطة التي تعدُّ بحقّ المصدر الأوّل للقصّة العربية الحديثة بعد تطوّرها ” ([1]) يقول الناقد سعيد يقطن في مجال حديثه عن هذه الكتب التراثية الحَافظة و بخاصّة كتاب الأغاني: “.. الأغاني للأصفهاني إنّه ليس ديواناً للشّعر كما يتمّ الاشتغال به عادة، و لكنّه علِاوة عن ذلك ذخيرة للنّصوص السّردية واقعية أو متخيلة وآن الأوان للنّظر في العديد من هذه الانتاجات العربية باعتبار ما تستوعبه من نصوص سردية غنية و هامّة ” ([2]) و التي كانت مرويات تروى شفهياً في المسامرات اللّيلية: كالأساطير، و البطولات، و الحروب، وحكايا الخوارق ،و قصص الأنبياء، و أيّام العرب، إلى أن جُمعتْ و دُوِّنت في شكل رسائل و توقيعات، و خطب، و وصايا، و مقامات.. كما اشتهر حكّاؤون: كالنضر بن الحارث، و أمية بن الصّلت… فهذا التراث من الحكي الشّفهي لو لم يدوّن لضاع كنز لا يُقدّر بثمن.
فحين يأتي القاصُّ الحديث، و يستغل ما في بطون هذه المؤلفات، من حكي أصله شفهي بالأساس، حتّى و إنْ لمْ يغص عميقاً في التّاريخ، و اكتفى بأنْ استغل ما هو رائج في العصور الأخيرة من حكي شفوي. فهو أساساً لا يعيد سرده بعينه و تفاصيله، كما فعل جامعو الحكي الشّفهي القديم ، أو كما يُحكى شفهياً.. فهو إنْ فعل ذلك فلا فرق بينه و بين القدماء حين عمدوا إلى الجمعِ و التّدوين. و لكن القاص فنّان قبلَ كلّ شيء، و دواعي الفنّ تدعوه لأنْ يُحاور روح التّراث، بُغية توظيفها جمالياً و دلالياً. فالمُتلقي يحسُّ بِعَبقِ الماضي، و تجلّيات التّراث، و لكن دون أن يفصله ذلك عن حاضره، و انشغاله، و إكراهات معيشه و تفكيره … و هي معادلة صعبة، لا يأتيها متفوقاً إلا قاص بارع، استطاعَ أن يَستَوعبَ المَحكي الشّفهيّ، أو روح التّراث، و أن يتمثَّل كلّ ذلك في نسقٍ تلميحيٍّ، و توظيفٍ فنّيٍّ.. و لعلّ مِمن برعوا في ذلك من قصّاصي القصّة القصيرة جداً في المغرب : حسن برطال، و إسماعيل البويحياوي وجمال الدين الخضري ، و حسن البقالي…
فمثلا هذا الأخير في مجموعته الأخيرة : (هو الذي حكى )، يتصدّر الحكي مجاله السّردي، فهو من مُستلزمات الكتابة القصصية لديه ، نلمس ذلك من بداية النّص مثلا : في نص: ” تلك هي” ص7 ( ثمة حكاية قديمة عن حاكم دموي، كلّما تعكر مزاجه أيقنت الحاشية أنّ دماً سيراق …)
في نص:”Big bang” ص/9 (يَعرِف العلماءُ بأنّ الكون ما لبث يتمدَّد، منذ انفجاره الأوَّل…)
في نص: “الحكواتي”ص17(يَروي أحدُ الكتاب عن شخص كان يمارس الحلقة أوائل القرن..) .
في نص:”لن” ص/19 ( لن أحكي لكم شيئاً مما رأيت، لن أدخل في الجزئيات ..)
في نص:” احتمالات” ص/23 ( ثمة فلاح فقير ، و سبعة أبناء، و غابة ..)
في نص:”لا جديد تحت الشّمس” ص/ 25 ( في منعطف خطير صادفت التاريخ بدا لي يتراجع في حركة سريعة إلى الخلف…)
و هكذا دواليك، نلاحظ أنَّ الاحتفاء بالحكي يكاد يحتوي النّص بكلّ مفرداته محقّقاً السّمة القصصية التي تفْتقد في أغلب ما نقرأ حالياً في مجموعات أصبحت تتناسل كالفطر مُتهافتة. همُّها الجُملة الفعلية المتقافزة اللاهتة، والمفارقة العجيبة، و الخرجة الصّادمة..و ليت شعري كيف تتحقّق هذه الخاصياتُ بنجاح، و تفوُّق في غياب روح الحكي، و نسيج الحكاية؟!
و كلّ ذلك ناجم عن دواعي الخطأ و سوء التّقدير، و استسهال هذا الجنس المتمنّع، علماً ” أنّ القصّة القصيرة جداً ليست فناًّ سهلا، يمكن أن يركبَ مَوجته من استسهل التّعامل معه، ذلك أنَّ معالجتَها أصعب بكثير من القصّة القصيرة، لكون المساحة الأفقية والعمودية المتوفرة لها أكثر ضيقاً وكثافة مما توفره القصّة القصيرة. وكأنّ الأمر أصبح يتعلَّق برؤوس قصص، إذ عليك عبر أسطر قليلة أو عبارات محدودة أن تفجر أكواناً وعوالم عجائبية غاية في الرّوعة والإدهاش، تسْطع مثل البرق الخاطف، فتحدث أثرها السَّريع الشّيق في المتلقي مستفيدة من بناء القصّة القصيرة، ورمزية الحكاية الخرافية، وشفافية الشّعر، وتركيز المثل الشّعبي و إيجاز الأسلوب البرقي، وإحكام المثل “([3])
نخلص إلى أنّ الحكي الشّفوي، و التراث عامّة.. دعامة تسند المبدع، و تمدّه بزاد إبداعي يستوحي منه ما يراه ملائماً لحالة و وضعية الكتابة أو العملية الإبداعية برمّتها، شريطة عدم النّقلِ الحَرفيّ، أو إعادة صياغة ما هو كائن .فكلَّما اقتصرَ التّعامل على الاستفادة الإستعارية الشّفافة، كلّما جاء الإبداع السّردي متكاملاً، فنّياً، و دلالياً.
============
[1] ــ عبد الملك قجور ” القصة و دلالتها في رسالة الغفران و حي بن يقظان) ص/26
2 ــ سعيد يقطن ( السرد العربي مفاهيم و تجليات ) ص/ 63،64
3ــ حوار أجراه القاص عبد الله المتقي مع د.مصطفى يعلى. المنعطف الثقافي
ع. 286. 29/30-05-
2010.ص 6.
[i][i]