الق ق ج تأتي عفواً..



الق ق ج  تأتي عفواً..

في ملتقى القصّة القصيرة جداً بمدينة فاس، و في دردشة مع قاصة من المشاركات. سألتني:

ـ هل القصة القصيرة جداً، تتطلب تخطيطاً و برمجة قبل الكتابة ؟ أسألك هذا السّؤال لأنّني غير واثقة من كلّ ما أكتب ! ..

فقلت فيما أذكر:

ــ كلّ شيء لا بدّ له من تخطيط  (diagramme) و برمجة…إلا الإبداع في مجال الفنون.. فهو عملية ذهنية ، تركيبية تنصهر داخلياً، و تظهر كدَفقة إلهام في شكل من الأشكال.. فقد تكون جيدة و مرضية..  و قد تكون اعتباطية ساذجة. و الأمر يعود بالدّرجة الأولى للصّهارة الدّاخلية. فالعقل لا يحكم عليها و هي في عملية تفاعل داخلي لا شعوري، بل يَعيها حين تصبح  إبداعا خارجيا.

و بذلك لا يقف القاص، أو المبدع عموماً وقفة تأمّل و تساؤل و برمجة .. قبل الكتابة.

فهو إن فعل ذلك سوف لن يكتب قصّة، و لا يرسم لوحة…فكلّ حرارة الإبداع تخمد حين تبدأ الهندسة، و التّخطيط، و التّصميم.. لما سيكون عليه الإبداع.

بل القاص ــ مثلاــ يشرع في الكتابة ، و هو لا يعرف النّهاية، بل لا يعرف كثيراً عن شخصياته، بلَه فكرة النّص.. كلّ ما يشعر به فهو ذاتوي (subjectivisme) داخلي، كأنَّ دافعاً ما يدفعه للكتابة، و ما أن يكتب الجملة الأولى، حتّى تضاء شمعة في طريق مظلم، و ضوء الشّمعة و إن كان أحسن من لا شيء، فهو لا يضيء الطّريق كلّه، إنّما على هديه يَسعى القاصّ مكتشفاً سرَّ الإلهام، متمتّعاً بسحر هذا الغموض، مترقباً مفاجآت الكتابة، التي كأّنّها تمْلى عليه، فما أن تتوالى الجملُ، حتّى تتكاثر الشّموع، و يصبح مُعظم الطّريق مضاء.. بل تتحدّد الخطاطة السّردية (Schéma narratif) أخيراً.. و مع ذلك.. فإنَّ القاص حتّى هذه اللّحظة، لا يدرك كيف ستكون النّهاية ! الشّيء الذي يبلور شوقه و لهفته، و يذكي فضوله و متعته …فما أن يقترب من جملة النّهاية حتى يشعر أنّ كلّ الشّموع المضاء.. استحالت علامات استفهام كبيرة…تجعله في مفترق الطّرق.. بين أن يكتب جملة عادية تنهي النّص نهاية عادية.. كأيّ تقرير إخباري موجز.. أو تسْعفه خبرته الفنّية ، و حظّه الإلهامي، في أن يعدّ جملة النّهاية / الخرجة إعداداً فنّياً يَخترق به أفق تطلع المتلقي و يذهب به بعيداً لربّما أبعد من تخوم النّص. ما يتيح مجال التّخييل و التّأمّل و التّساؤل..
جملة النّهاية في القصّة القصيرة جداً / الخرجة . التي قد تأتي إلهاماً كأنّها وحي يوحى، فيتلقفها القاص بغبطة، كأيّ هدية غير مُتوقعة .. و قد تستعصي، و تتمنّع فتجبر القاص على بذل جهد لا يُستهان به في الكتابة و إعادتها، من حيث التّغيير و التّبديل، و التّقديم و التّأخير.. و كأنَّها عملية ولادة عَسيرة…كلّ ذلك من أجل انسجام النّص (Cohérence du texte)
 و تجنّباً للّغة المعيارية اللا قصصية، و النّمطية المتفشية، و التَّخفيف من حدّة الخطاب الإنشائي ( الوصف )، و الحفاظ على معيار الإيجاز : ( الكثير ما يقالُ في موجزِ  المقال)..
أردت أن أقول من كلّ هذا إنّ عملية كتابة قصّة قصيرة جداً، هي عملية عفوية محظة . نتيجة ما يتعاملُ في فكر المبدع من أحداث و أفكار.. فكلّما نضجت و اكتملت، حانت لحظة الميلاد.
و كما أنّ عملية الوضع قد تأتي بجنين مُكتمل..فقد تأتي بجنين ــ لا قدر الله ــ ناقصاً مشوهاً.
و كلّ شيء يعود للبداية. فالقاص الذي يعمل على تكوين نفسه قصصياً.. بكثرة المطالعة  القصصية و تنوعها ، و الاستفادة من تجارب الآخرين.. و الاستماع الجيّد لنبضات النّقد .. لا شكّ أنّه حين يقدم على عملية الإبداع.. يُقدم و هو أكثر ثقة ، و أوفر معلومات، و أشدّ عزيمة … على عكس الذي أخذ الأمر بيسر و سهولة ، و قلّة فهم و إدراك…

فعادت القاصة تسألني:

ــ و لكن كيف تكون عملية القص عفوية، و أنت ترى ألا بدّ من استعداد قبلي ؟

ــ كلّ شيء لا بدّ له من استعداد. و عملية الإبداع لا تأتي من فراغ . فما دمتِ قاصّة ، فهذا يعني أنّه كان لديك استعداد للقصّ و الحكي، و الحلم ، و التّخييل.. سرعان ما نما و تطور، و ترسّخ مع كثرة الاطلاع  و القراءة.. لهذا تجدين متعة خاصّة، و أنت تدبجين النّصوص القصصية، إذاً هناك استعداد، و هناك تنمية.. نتج عنهما إبداع…

و أذهبُ أبعد من هذا.. فأجد القصّة القصيرة جداً تأتي عفواً، و عن غير قصد ، أو تفكير .. ففي الكثير من النّصوص الاجتماعية، و النّفسية، و السّياسية…شخصياً، أحياناً كثيرة تستوقفني فقرة قصيرة في مقال ما. لو فصِلت عنه، لكانت قصة قصيرة جداً، كاملة الأركان. و قد جاءت عن غير قصد، هذا  دون الحديث عن الطّرائف،و الحكم، و الأمثال.. التي تستوفي شروط القصّة القصيرة جداً.. و لكن جاءت لقصد آخر. و غاية غير القص..
و كدليل على عفوية الق ق ج لنتأمل هذه النّصوص التي لم يقصد أصحابها كتابة : (ق ق ج) و لكنّها جاءت كذلك :

1 ــ مشهد من فلم إيراني:

2 ــ من خطاب لمندوب فلسطين في الأمم المتحدة:

3 ـ من خطاب لجومو كينياتا الرئيس الأول لكنيا

4 ــ حوار من فلم :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.