ما يروقني في ال (ق ق ج) و يَسكنني إعجابا و شغفا.. هذا التّنوع في أدائها، و الاختلاف البيّن في فهمها و استيعابها..وانفلاتها من زمام التّقعيد و التّنميط، كأنّها تلك السّمكة التي كلّما تيقّنتَ من امساكها انزلقت من قبضتك، و عادت إلى نهرها المنساب بكلّ أسراره و مكنوناته..
و لاأقصد التّعميم ، فهناك من تحجروا و حجّروا انتاجهم صنما لا يبغون عنه حولا، فحنّطوا نصوصهم، وساروا على منوالها. و جاء بعدهم من قدّس التّحنيط دون بحث و لا دراسة، أملا في الخلود..على مذهب الفراعنة الأوائل. و لكن هذا الفن الجميل أثبت لكلّ ذي قلب سليم ،و فكر عليم.. أنّه غير قابل للتّحنيط و لا للتّنميط…
و لهذا كان مبدعو هذا الفنّ قلَّة قليلة في الوطن الكبير. أي نعم، قليلة الانتاج قياسا لما ينشره قليلو الموهبة بكثرة كثيرة.. و لكن في قليلهم النسبي ما يفيد، و ما يمتع قراءة ..
و في عطائهم المحدود و القيّم ، ما يُغري بمتابعة انتاجهم، و ترقب نشر ابداعاتهم، و الاحتفاء بجديدهم، متى آن أوان نضجه و عرضه .
و من هؤلاء المبدعين في صمت ،و تأنٍّ، و إبداع.. القاص هيثم بهنام بردى.. ناسك القصّة القصيرة جدا. فمنذ أن قرأت له لأوّل مرّة، و هذا يعود لعهد بعيد ،شعرت بفيصل الفرق بينه و بين قصاصي العراق. و بينه و بين قصاصي الوطن الكبير. تميُّز في قصّه، و خياله، و فهمه لل (ق ق ج)، بعيدًا كلّ البعد عن هذا اللّغط، و شقشقة الجمل الفعليةالمتوثبة كالبراغيث، و الخيال الفقير البائس ..
فعمله القصصي ــ و حسب ما أرى ــ يقوم أساسا على ثلاثة أسس:
1 ــ التّصور العقلي (Concieved )
2 ــ التناقض الوجداني ( Ambivalence theory)
3 ــ الجوهرانية ( Substantiality)
فالقاص هيثم بهنام بردى لا يرغب في قارئ مفترض كسول يغيِّب العقل، و يعطل تفكيره . و يرغب في الجاهز قصد الاستهلاك .. بل على العكس فكتابته القصصية وخزات عقلية، و دعوات للتّفكير و التّأّمّل.و التّساؤل..
ثمّ إنّ المفارقة بتنوعها تتوج انتاجَه القصصي. و تأتي في أغلب حالاتها عبارة عن تناقض وجداني، و تضاد حيوي..يحقق الحقيقة الافتراضية في إطار رؤيا للعالم ، ( Vision of the word)
و كل ذلك خدمة لبناء جوهرانية يهدف إليها النّص و يرمي إليها..بخلق أبعاد دلالية و رمزية.. في سياق صور سردية،تشكّلها اللّغة القصصية..
بذلك تميزت كتابة القاص هيثم بهنام بردى عن غيرها. تلك الكتابة التى لم يستوفها النّقد حقّها من الدّراسة رغم تنوّعها، و اختلافها، و جمالياتها و مسايرتها ضروب القصّ العربي. و إليكم هذا الأنموذج من قصصه القصيرة جدا
* مسلك *
كان يلاحقه قبل أن تشيخ الساعات. يركض بأقصى طاقته . و الآخر ينأى عنه. طوى الهضاب الجرداء، و الأنهر الغرينية المتبلدة، و المدن المغبرة العتيقة، و الصحارى المحنطة، لكن عبثا، هو لا يزال في سكونه، يعجز عن اللحاق به، و لم يخبره أحد من الذين صادفهم..إنه يلاحق ظله .