كتب الناقد السودني صلاح الدين سر الختم على سنة 2014 دراسة حول انتاج القاص حسن برطال جاء فيها:
//// //// ////
سباحة فى عالم (حسن برطال) فارس القصة القصيرة جدا
القصة القصيرة جدا فن لازال فى طور التشكل وبناء التقاليد والتجريب برغم نضوج التجربة وبروز ملامحها الجوهرية وبروزنقادها وكتابها وتجاربهم الكبيرة التى شكلت نفيرا جماعيا ساحرا تبارى فيه مبدعون خلاقون لرسم لوحة زاهية ورائعة لفن ساحر ملك القلوب والعقول فى أطواره الجنينية وأحتل مكانة مميزة فى خارطة الإبداع الكتابى. لهذا السبب تشكل عملية دراسة تجارب مبدعى هذا الفن وتحليلها والتأمل فيها عميقا من كل جوانبها شرطا لازما لتطور هذا الفن واستخلاص رحيقه وتقاليده وقوانين تطوره التى تتميز بالمرونة وعدم الجمود وإن كانت هذه المرونة لم تبلغ أبدا حد عدم وجود ملامح مميزة وشروط جوهرية. تعتبر تجربة الكاتب المغربى حسن برطال فصلا مهما من فصول هذا الإبداع الكتابى المميز، لذلك تشكل مهمة مقاربتها نقديا ومحاورتها مهمة واجبة وضرورية جدا من عدة زوايا .
حسن برطال من مواليد 1958 بالدار البيضاء. اصدر عدة مجموعات قصصية قصيرة جدا
(ابراج) منشورات وزارة الثقافة 2006( قوس قزح) منشورات انفو برانت فاس 2009( صورة على نسق جى بي جي ) منشورات وزارةالثقافة 2010 ( سمفونية الببغاء)منشورات دار الوطن للطباعة والنشر الرباط 2012.وهوحاصل على عدة جوائز ادبية.يتميز حسن برطال ببصمة خاصة فى كتابة القصة القصيرة جدا تبدو واضحة فى نصوصه كلها، حيث يجتمع فيها ثلاث سمات أساسية( التكثيف / الروح الساخرة/ صدمة الخاتمة) ، فكتابات برطال لاتجد فيها مطلقا ميلا للاستطراد أو التفاصيل أو التكرار أو التأنق فى المفردة، فالنص عنده مثل القذيفة تمضى مباشرة نحو الهدف دون أدنى تلكوء أو تنطع، وزحسن برطال ليس مفتونا باللغة، بل يتعامل مع اللغة كعجينة طرية يشكلها لتصل فكرته بأقل عدد ممكن من الكلمات وبأكبر قدر ممكن من الوضوح وبتركيز عال على المضمون. وتبدو السخرية القاسم المشترك الذى تجده فى جميع نصوصه ولاتغيب تلك الروح مطلقا، والمثير للدهشة أنها روح ساخرة لا أثر للصنعة أو التكلف فيها وترد فى النص في سياقه العادى دون أقحام لها عليه من خارجه.أما صدمة الخاتمة المتوهجة فهى صنعة يتقنها برطال بشكل مدهش يذكرنا بحبكة النهايات فى القصص البوليسي المشهور الذى يعتمد على النهاية التى تنتهى عندها كل خيوط الحكاية البوليسية، ثم تنهار العقد المحكمة واحدة تلو الأخرى وتخرج الحقيقة من الظلام الى النور، كما تخرج الحمامة من قبعة الساحر.
فى قصته (عقدة ) المنشورة على غلاف مجموعته القصصية ( مغرب الشمس) يقدم القاص حسن برطال مزيجا من التشويق الذى هو سمة القصص البوليسي والسخرية التى سمة خاصة ببعض الكتابات الصحفية المتخصصة فى ذلك النوع من الأدب الساخر، فتكون النتيجة هذه اللوحة:
(تنسل اليه ليلا..تدير رأسه ناحيها..تطبق عليه بشفتيها..وشيئا فشيئا يخفى السائل لونه، طعمه ورائحته..وفي الصباح يكتشف الزوج( أحمر الشفاه) على الصنبور فيحفر بئرا ويلغى اشتراكه مع المكتب الوطنى للماء الصالح للشرب…)
الزوجة لسبب ما ربما يكون فيه اشارة للبرود الجنسى للزوج أدمنت الشرب من الصنبور مباشرة دون وسيط، وحين لاحظ الزوج ذلك قام بالغاء اشتراكه فى شركة المياه وحفر بئرا لتكون مصدرا للماء حتى لاتلامس شفاه زوجته الصنبور مرة أخرى. سلوك الزوج يعكس غيرته الشديدة التى تبلغ درجة الهوس المرضى وتسلطه على تفاصيل الحياة وهو تسلط لاتستقيم معه شراكة عادلة. تبدو قضية النص التى يعالجها الكاتب ببراعة أكبر من الإطار الصغير الذى رسمه العنوان ( عقدة) أفقا للنص، فالنص يتجاوز العقدة ومفهومها الى ما هو أوسع وأشمل، لذلك يبدو العنوان مأزقا لهذا النص البديع.العنوان دائما هو اشكالية فى القصة القصيرة جدا، فالعنوان عند بعض كتاب القصة القصيرة جدا شارح للنص وهذا لايجوز، وعند البعض هو اطار لنص غير قابل بطبيعته للتأطير، فالقصة القصيرة جدا تولد وتتوهج بمعان جديدة مع كل قراءة جديدة للنص، والعوامل التى تتحكم فى تلك القراءات عوامل تتجاوز الذات المبدعة التى كتبتها وتتجاوز الأطر التى رسمها الكاتب فى خياله للنص، لذلك ينبغى أن يتجنب كاتب القصة القصيرة جدا مأزق العنوان بعد الوقوع فى شراك العنوان التقريرى الشارح للنص وكذلك تفادى العنوان الإطارى الذى يصنع زنزانة صغيرة لعصفوره الجميل الطليق.
قصته(برج الرقابة) نموذج آخر لمأزق التأطير للعنوان والعنوان الشارح للمغزى:
(فى الصباح قرأ الجريدة. وفى المساء كان متهما بالتكتم عن مجموعة من الجرائم.) نتجاوز عن استخدام (عن) فى مقام ( على).فالصحيح القول (التكتم على). وندلف الى المغزى وبنية النص.ففى هذا النص البديع يصور الكاتب معنى عميقا لاتدركه العين المجردة القارئة للكلمات القلائل بمعانيها الظاهرة، بل يستلزم الأمر خيالا خصيبا يبحر فيما هو كامن بين السطور،فالصحافة تمارس النشر المباح وغير المباح والقارئ الحصيف مثله مثل جهات الرقابة المقيدة للحرية الصحفية يبحث بحسه المرهف عن الحقائق المخبوءة بين السطور فيدرك بوعيه حجم مايجرى بالوطن من جرائم لاتكشف عنها الصحف الرسمية إلا رمزا وبغير قصد ، ولكن وعى القارئ الحصيف يجعله يقع فى دائرة الرقابة التى تراقب الوعى وتسد منافذه بقدر ماتستطيع، لذلك يجد نفسه متهما بالتكتم على جرائم لم يرتكبها، وكان الأولى محاكمة مرتكبيها وليس المتهم بالتستر عليها، المفارقة فى النص كامنة فى ان الوعى حين تسلل الى القارئ وادرك الجرائم الخفية بات هو المتهم مكافأة له وعقابا له على وعيه بما يجرى. وهكذا يصور القاص أزمة الحرية بشكل كاريكتيري ساخر. لذلك يبدو العنوان شارحا للنص ومؤطرا له فى الوقت نفسه.
فى قصته (الجريدة الرسمية )يقول(بيتنا بغرفة واحدة ومع ذلك لانعرف أين يخفي والدي جرائده..ولما قصصت عليه حلمي وتكلمت عن( إعادة تصوير الجرائم) و(تفكيك العصابات) عاقبنى على استعمال وسادته والنوم فى سريره.) هنا يمارس الكاتب مكرا طفوليا على القارئ للنص مثلما مارسه على والده، فهو يسطو على صحف أبيه فيقرأها باهتمام بالغ ويحفظها تقريبا وحين تفضحه ذلة لسانه أمام أبيه ينكر قراءته للصحف خاصة أبيه، لكن الأب يعاقبه بمنعه من النوم على سريره ووسادته حيث يخبئ صحفه.العنوان هنا يفلت من الإشكالية بصورتيها فلاهو شارح للمغزى ولاهو مؤطر للنص، وفيه إشارة خفية لكون الصحف خاصة بمؤسسة الأبوة بكلمة (الرسمية) فالرسمية تعنى المخصصة للبعض هنا، والمغزى البعيد للنص هو انه لايوجد سبب منطقى يجعل الاباء يمنعون الابناء من القراءة للصحف بحجة انها مخصصة لهم، فالمعرفة ليست قاصرة على فئة من الناس، والصحيح هو ان تكون القراءة متاحة للجميع وان يكافئه الأب على اهتمامه بالقراءة وليس أن يخفى عنه ادواتها ممثلة فى الصحف فيضطره للكذب واختلاسها.الأب حين مارس القمع على الأبن حجب عنه المعرفة ودفعه الى الكذب والسرقة وإنكار الحقائق. النص تجسيد بديع لأزمة من أزمات المجتمعات العربية.
فى قصته( العدد رقم(0)) يقدم حسن برطال نصا مخادعا آخرتحت عنوان غامض فيقول( صنعت طيارة من جريدة ورقية..ولما فشلت فى السفر عبر العالم أدركت أنها( محلية) لا أقل ولا أكثر.)
فى النص سخرية عميقة من بعض المناهج والعقول التى تدير عالمنا العربى، فهى لاتريد الاعتراف أبدا بأنها هى مكمن الداء ولاتملك الدواء، فتمارس مكابرة غبية مثل مكابرة الراوى الذى صنع طيارة من ورق وانتظر ان تحمله طيارة الورق تلك الى العالم ، وهو انتظار ساذج وغبى، وحين لم يتحقق مراده من صنع طائرة الورق، لم يعترف بأنه كان ساذجا وأن اعتقاده بقدرتها على الطيران اعتقاد خاطئ، بل أرجع عدم قدرتها على الطيران الى كونها مصنوعة من ورق صحيفة محلية.بمعنى انها لو كانت مصنوعة من ورق صحيفة اجنبية لحققت مراده وحلقت به. هنا سخرية مزدوجة من منهج الراوى الساذج الذى لم يعد للتحليق عدته وماكان له أن يظن أنه ممكن بطيارة من ورق، والسخرية أيضا من افتتانه بالاجنبي ، فحتى لو كانت الطيارة مصنوعة بورق صحف أجنبية فهى تبقى طائرة من ورق لن تقوى على السفر عبر البلدان مثل الطائرات العادية. العنوان هنا ( العدد رقم صفر) فيه سخرية من منهج الراوى، لأن ماصنعه يبقي صفرا لايساوى قيمة الورق الذى صنع به. العنوان هنا محكم وجيد كونه يلمح الى المغزى ولايصرح به. وفى نفس الوقت يحرض العنوان على التأمل لادراك مغزاه ولايؤطر النص ويحد من أفقه.
فى قصته ( واقية ورقية) يستخدم برطال السخرية للايحاء بالمغزى البعيد للنص فيقول( قال لى ولدى: رأسي يبرد خلال فصل الصيف كلما غطيته بصفحة من صفحات الجرائد…- ربما ليس فيها شئ من الأحداث (الساخنة) ياولدى.)
فهو هنا يمارس سخرية مزدوجة من خلال هذا الحوار بين الأب والأبن وهما يرمزان للأزمنة الثلاث ( الحاضر والماضى والمستقبل) فهو يشير الى ركود الواقع وعدم وجود فكر جديد أو حراك اجتماعى كبير وبالتالى افتقدت الصحف قدرتها على حماية العقول التى يرمز لها بالرأس، وفى نفس الوقت هناك سخرية من كون الصحف التى مهمتها حماية العقول وتنويرها بدخولها عبر ما هو مكتوب فيها قد عجزت عن اداء ذلك الدور وصارت تستخدم فقط كشئ مثل المظلة لتقى من الهجير ، وحتى فى هذه المهمة عجزت الصحف عن ان تكون عند حسن الظن بها فجلبت البرد فى الصيف لمن استغاثوا بها من الحر، المعنى البعيد ان الصحف باتت عديمة القيمة فى هذا الزمن اللاهث. العنوان( واقية ورقية) ينضح بالسخرية فالصحف ادوات التنوير باتت مجرد واقى ورقى من الحر وهو عاجز عن اداء هذا الدور أيضا. ولا أدرى لم قفز الى ذهنى ( الواقى الذكرى) واستخدامه للوقاية لأغراض أخرى عند قراءة العنوان، ترى هل كان استخدام كلمة ( واقية) مقصودا؟ مجرد سؤال. الإجابة عليه هى قراءة تنفتح على قراءات جديدة.
وفى نص آخر بعنوان( الصفحة الأخيرة) يمارس حسن برطال شقاوته المعهودة ولكن ليكتب هذه المرة نصا غارقا فى الشجن( تبللت الجريدة وطمس (السائل الأسود) معالم البياض..لم أستطع قراءة (الحروف) ولكننى تذكرت (حروف الوجه العزيز حينما كان يختلط ( الكحل) بالدمع فى عين أمي.)
هذا نص باذخ وفريد ، فالسائل الأسود طمس حروف الجريدة مثلما فعل الموت بحروف وجه الأم الغائبة، استدعت اللحظة الراهنة لحظة أخرى من الماضى مماثلة لها، تلك اللحظة حين اختلط الكحل بالدمع فى وجه الأم الراحلة، إنه تناص بديع بين لحظتين، العلاقة بينهما شعور مرهف بالفقد أيقظه انطماس الحروف فى جريدة مبللة بالعرق. أما العنوان( الصفحة الأخيرة) فهو عنوان فريد زاوج بين المشترك بين اللحظتين ، فموت الحروف وموت الأم كلاهما يمثل نهاية العالم بشكل ما، كلاهما صفحة أخيرة متجددة لاتنتهى بالموت، بل تتجدد دوما. فالصحيفة نهر عطاء تتجدد صفحاته دوما، وكذلك الأم هى نهر عطاء يتجدد دوما. اعتقد ان العنوان هنا نموذجى.
فى قصته ( رئيسة التحرير) تصوير ساخر لموقف غير موضوعى من نص ابداعى، موقف انبنى على الرأى الشخصي فى الكاتب وليس على الرأي الموضوعى فى النص ( وصلتها قصة عشقه فمزقتها… كلما كتب بخط اليد يظل حبرا على ورق.) النص هن يبدو فاقدا لأداة الربط بين جزيئيه لكنه واضح، فرئيسة التحرير سببت رفضها للنص على كون كاتبه كتب قصة العشق بخط يده ، ولكن مشاعره بعيدة عما صوره بحروفه، هنا محاكمة للكاتب وليس للنص، ويظهر النفس الشخصي فى كون رئيسة التحرير مزقت النص ولم تكتف برفض نشره فقط، فهى بذلك حكمت عليه بالإعدام لأسباب شخصية بحتة تتضح من خلال تعليقها الذي يشكل تبريرا لجريمة حجب النص وتمزيقه. العنوان( رئيسة التحرير) عنوان جيد فيه تذكير لرئيسة التحرير ومن ثم القارئ بواجبات وظيفتها ، وبالتالى في العنوان ايحاء بالمغزى وليس صياحا به وتقرير له.هى لم تتصرف كرئيسة تحرير ، بل تصرفت كأنثى مجروحة ، وهنا يكمن المغزى الخفى كونها استغلت موقعها كرئيسة تحرير لتكريس مواقفها الشخصية وتصفية حساباتها ولم تتصرف بالموضوعية التى توجبها عليه الوظيفة.
وفى قصته ( صفحات من غبار) يمارس حسن برطال لعبة الأحجية المفضلة لديه وهى مزج السخرية والغموض سويا لإنتاج معرفة جديدة بالنص وموضوعه النص:( (الحساسية) الجديدة التى بحث عنها طويلا، انتقلت من الملحق الثقافى الى( أنفه) ..إنه يشم ولايقرأ.) العنوان هنا محكم الصياغة وموظف بوعى دقيق للإيحاء بالمغزى، فالنص يصور حالة انتقال مثقف من موقع المثقف الى موقع المخبر ملتحقا بالسلطة ونهائياً، فالرجل كلف بالإشراف على ملحق ثقافى بصحيفة ما، ومع ذلك التكليف بدل الرجل جلده وبات يمارس دور المخبر الرقيب على النصوص مثل الكلب البوليسي يعتمد على حاسة الشم للنصوص المشبوهة غير المرغوب فيها سلطوياً، وهكذا أصبح الرجل لايقرأ بل يمارس عملية الشم ، لقد مات المثقف فيه وتحول الرجل الى اداة من ادوات السلطة تلغى عقلها و تمارس نشاطا من أجل تكريس السلطة فقط. كلمة (الحساسية) الموضوعة بين الأقواس عمدا هنا فيها إشارة دقيقة ساخرة لهذا التحول من مفكر يستخدم عقله وعينيه فى القراءة والتفكير إلى رجل يمارس عملية شم فقط ،يغيب العقل وتحضر الغريزة، والعقل هو مناط تمييز الإنسان عن الحيوان، فبات الرجل حيوانا،يشم ولايقرأ، وباتت صفحاته صفحات من الغبار المثير للحساسية، هو نص جميل وعنوان أجمل.
فى نص بعنوان ( تغطية إعلامية) نجد أنفسنا حائرين ، فالنص تقريرى ويبدو كقول مأثور وليس قصة قصيرةجدا( ذلك الذى يتوارى خلف الجريدة يوما بكامله، رجل خائف أو خجول.) فالتقرير هناواضح والحكاية غائبة فى هذا النص على جماله وعمق ونضج فكرته. العنوان به سخرية واضحة وهو عنوان مراوغ وجيد ولكن النص لايساعد العنوان كونه جاء نصا خالياً من الحكاية وحافلاً بالتقرير بلا مفارقة ظاهرة ومغزى مخبوء ، فالمعنى الظاهر هو ذاته المقصود.
وفى قصته ( أعداد غير صحيحة) يصور جانبا ساخرا من جوانب حياة مثقف ( رغم زياراتها ( اليومية) و(الأسبوعية) (والشهرية) كان يشعر بالوحدة…هى ليست صديقة جميلة كما كنت أعتقد، بل صحف ومجلات ليس إلا.)
فالرجل مداوم على قراءة الصحف فى عزلته المجيدة ولكنه يشعر مع ذلك بالوحدة، فالصحف لايمكن أن تملأ مكان البشر في حياته، العنوان يبدو بعيدا عن المغزى، والسخرية هى تقنية يستخدمها القاص ويوظفها للايحاء بالمغزى فقط وليست هدفا بحد ذاتها عنده وهذا هو المنهج الصحيح لاستخدام السخرية فى القصة القصيرة جدا. ولايفوتنا التوقف عند استخدام القاص للأقواس( علامة التنصيص) بشكل متكرر فى أكثر من نص للايحاء بما يريد من معان كامنة فى ظلال النص. فهذه تقنية جيدة.
-فى قصة أخرى هى( بلطنجية) يقارب القاص حسن برطال اليومى من خلال نص يفيض سخرية :
( تمت السيطرة على المتظاهرين في أقل من دقيقة واحدة..العالم يتساءل..الناطق الرسمي يقول: لم نصب العيون (بقنابل) مسيلة للدموع بل ( طنجية) أصابت البطون.)
يتلاعب الكاتب بالعنوان عمدا فيجمع بين كلمة( بل) التى تفيد الاستدراك بمعنى لكن، وكلمة ( طنجية) وهى تعنى أكلة مراكشية معروفة. وعندما تجمع الكلمتان ( بلطنجية) يبدو المعنى أقرب لكلمة بلطجية. أسلوب المبالغات الذى تستخدمه السلطة حين تدعى السيطرة على المتظاهرين فى أقل من دقيقة ، وحين تدعى انها لم تستخدم الغاز المسيل للدموع بل منحت المتظاهرين وجبة شهية، هذا الأسلوب يدعو للرثاء ويجعل السلطة واجهزة اعلامها موضعا للسخرية والتندر.النص يوحى بمغزاه كوننا أمام سلطة غاشمة مستبدة لاتحترم عقول الناس وتظل تكذب وتتحرى الكذب حتى تذوب وتغيب شمسها.
وفى قصته البديعة ( الريح) استخدام مبهر للعنوان للايحاء بالمغزى، فالقصة التى تصور حال من يطلب المستحيل تنطوى على مفارقة خالدة( كان يبحث عن امرأة لاتبتسم في وجه رجل يعاكسها..تزمجر تصده..يبحث ويبحث..فلم يجد سوى( الريح).) المغزى هنا ، أنه يبحث عن امرأة مستحيلة لاوجود لها الا فى مخيلته.ولكننى امتدادا لرؤية الكاتب أخشي ان تهز الريح أذيالها وتسكن وتبتسم عند سماع كلمة غزل لطيفة وهى فى عنفوان غضبها.
وفى نص بديع آخر بعنوان ( الغريب) يصور حال المهاجرين الى الغرب بشكل ساخر( لم يحقق حلمه…لم يكذبوا عليه حينما قالوا : ليس فى لندن سوى ( الضباب))
ذهب الرجل تاركا وطنه خلف ظهره ليحقق حلما يبدو أنه لايملك ادوات تحقيقه فعاد بخفى حنين مدركاً ربما لأول مرة ان من قالوا له ان لندن ليس فيها شيئا سوى الضباب قد صدقوا، فلم يجن منها سوى الضباب. وهكذا تأتى الخاتمة متوهجة باستخدام كلمة الضباب بين القوسين للإيحاء بالمضمون ، وهو أسلوب متكرر عند حسن برطال.
فى قصته ( الهدهد) تناص بديع مع القرآن الكريم لايخلو من السخرية التى تشكل مرتكزاً ثابتاً فى نصوص برطال فيقول:
( خرج من مصباح علاء الدين ..قال شبيك لبيك ..سآتيك بعرش بلقيس قبل أن تقومى من مقامك …قالت_ بل (قيس) ..أنا ليلى ياسيدى.)السخرية هنا فى كونها راغبة عن عرش بلقيس وتريد قيس بن الملوح. هى لم تندهش لظهور المارد ولم ترتبك وكانت تعرف هدفها جيدا. وخلف هذا الموقف والسخرية مغزى عميق. فقط بدا العنوان بعيدا عن المغزى وعن النص.
وفى قصته (شركة مجهولة الإسم) يقدم فانتازيا ساخرة تقول(الرجل الذى يبحث من زمان عن( رفات) جد أبيه..وصله اليوم كيس من تراب كتب عليه:_هذا نصيبك من الفوسفاط.) الفوسفاط المقصود بهابالطبع الفوسفات.
هكذا بات الجد ( القيمة المعنوية) الكبيرة التى يحن إليها البطل مجرد( قيمة مادية) ( تراب) ، عاد الى أصله ، وبعث به الى الحفيد عل الحفيد يفهم أنه صائر الى تراب يوماً ماً. هو نص مثير للأسئلة ، وهو نفسه وليد تأمل عميق فى الكون، وهو معطون فى سخرية تعبر عن موقف كامن خلفها، الموقف رؤية كونية شاملة ينطلق منها الكاتب فى مغامراته اللغوية المتتابعة، فهو لايكل ولايمل من رؤية الأشياء من جانبها الآخر الذى لايراه الآخرون.
وفى نص آخر عنوانه مكتوب عمدا بلغة أجنبية( (cvنتوقع نصا يتعلق بسيرة شخص ، فإذا بالكاتب يكتب تحت العنوان هذا النص( طلبت يدها لتجرنى وأجرها لكن بدعائها
_ تجرك (الكلاب) إن شاء الله.
ادركت أنها مجرد (قطب متجمد) وأنا ( عربة) ثلج.)
النص يفاجئ القارى بتوجهه نحو سرد سيرة مختصرة لعلاقة ماتت فى المهد صبية،فهو تقدم إليها ليتقاسما الحياةويكابداها سويا، لكنه صدم بلهجتها المتعالية ورفضها القاطع له، فأدرك حينئذ أنها خاوية من المشاعر الدافئة وتحاكى فى برودها قطبا متجمدا، تصوير رد الفعل من جانب الراوى تصوير بديع.النص دعوة للنظر فى منهجين : منهج يقوم على المشاعر الإنسانية الصافية الدافئة القائمة على حسن الظن والطموح والإيمان بالقدرة على بناء حياة وأسرة، ومنهج آخر قائم على اعتبارات أخرى قوامها التعالى وتقديم القيم المادية على المشاعر الإنسانية.كتابة العنوان باللغة الأجنبية مقصود ليشير الى حالة الاغتراب الذى تعيشه الأنثى البطلة فى النص.بذلك نجح الكاتب فى توظيف العنوان لخدمة المغزى.
فى قصته الرائعة (خط الرمل) يصور حسن برطال ببراعة وبساطة ظاهرة الدجل والشعوذة واستخدام الدجالين لها لتحقيق مآرب دنئية لاعلاقة لها بما يدعونه من صلاح وقدرات خاصة، العنوان موحى بالمغزى فجملة خط الرمل جملة مراوغة قد تشير الى (الرمل) بمعناه الذى يشير الى اعمال الدجل والتنجيم، وقد تشير الى (الرمال) والخط قد يكون الخطوط فى الأيدى أو فى الرمل ، وقد يكون المقصود المنهج والطريقة ، أما النص نفسه فقد جاء محكما(جمع (الجن) و(الإنس )فى كلمة واحدة وكتب (المس).
جسد امرأة عار يٌصرع قرأ فى كف الفقيه( الجن/ س))
هكذا يصور النص استغلال الفقيه الدجال للمريضات الباحثات عن علاج عنده استغلالاً جنسياً بشعاً بدعوى انه يعالج المس الشيطانى والحقيقة أن( مسه) هو لأجساد الضحايا هو المس الشيطانى الذى تحركه غرائز منفلتة.لن يفوت القارئ متابعة الاستخدام الذكى للكلمات والتلاعب بالحروف للايحاء بتلاعب الفقيه المزعوم بالعقول/ نلاحظ استخدام كلمة ( المس) فهى كلمة حمالة أوجه وقابلة لينضوى تحت رايتها أكثر من معنى برئ وغير برئ، ونلاحظ استخدام حرف السين باضافته لكلمة (الجن) فيحور المعنى ليصبح (الجنس) وبذلك تمارس الكلمة التى ختم بها النص عملية فضح الفقيه الدجال بذات سلاحه أى التلاعب بالكلمات. وبذلك يتماهى النص في بناءه الفنى مع مضمونه ومايصوره.
فى قصة أخرى يمارس برطال شقاوته على القارئ حين يجعل عنوان النص ( الزوجة الثانية) فتتهيأ الأذهان لزوجة من لحم ودم ونزداد قناعة حين يبدأ النص بكلمة (عاشرتها) ولكنه يفاجئ القارئ فى الخاتمة مفاجأة لاتخطر على البال فى متن النص:
(عاشرتها طويلا..كانت تعد خطواتى و(الدراهم )ولما أثقلت كاهلى بهذا (العداد) غيرت سيارة الأجرة الصغيرة هذه بوسيلة نقل عمومية.)
هكذا نعرف ان الزوجة الثانية هى وسيلة النقل الجديدة التى حلت محل الوسيلة الأولى. هنا تتحق النهاية الصادمة والقفلة المحكمة ولكن يبقي السؤال بشأن المفارقة قائما( هل يحمل هذا النص مفارقة؟ هل هناك معزى ظاهر غير مقصود وهو يخفى مغزى آخر خفى هو المقصود؟) فى تقديري ان النص خلا من المفارقة، حيث جاءت النهاية بشرح للمغزى نفى ما تبادر الى الذهن من خلال عتبة النص، وبذلك الشرح لم يعد هناك معنى خفى. هل ترى يختلف الحال لو كانت نهاية النص خالية من التصريح بان المقصودة هى سيارة الأجرة ؟ مثلا هكذا( عاشرتها طويلا، كانت تعد خطواتى و(الدراهم) ولما أثقلت كاهلى بهذا العداد هجرتها الى غير رجعة.) هنا المفارقة موجودة والمعنى الخفى غير مصرح به. تبقى هذه محاولة أولية للإبحار فى نصوص هذا المبدع والكشف عن الجواهر المخبوءة فيها وتقريب هذه النصوص الى القراء والمهتمين عبر الكشف عن شروط وآليات انتاجها ومنهجية مبدعها فى حدود معارفنا النقدية التى لاتزال تتلمس طرقاً وعرة وشائكة فى بحور ومجاهل وغابات هذا الفن الوليد البديع فن القصة القصيرة جدا. ولنا عودة فى جزء ثان الى نصوص أخرى لهذا المبدع بأذن الله.
صلاح الدين سر الختم على / الخرطوم
21 ابريل 2014