جذور القصة القصيرة جداً/ د. يوسف حطيني


جذور القصة القصيرة جداً/ د. يوسف حطيني

حين نقول: إن القصة القصيرة جداً نوع أدبي قديم فإننا نشير بدقة إلى وجود مختلف أنواع السرد القصير جداً في التراث العربي والإنساني، وتراثنا العربي غني بالأخبار والحكايات والطرائف، والشذرات والأكاذيب والمنامات والمقامات وغير ذلك مما يبلغ حداً لافتاً من القصر.
وتعتز القصة القصيرة جداً بأن لها أصولاً في الأدب القديم، وقد جاءت هذه الأصول على شكل حكايات، وأفترض أن القارئ الكريم يفرق بين الحكاية ببنيتها القديمة، والقصة بما تنطوي عليه من تطور في تقديم عناصرها عبر اللغة. ولابد من الإشارة إلى أنّ نشوء الشكل الجديد ليس مشروطاً بأن تكون له جذور تراثية، وهو لا يستمد شرعية وجوده من ذلك المعيار، لأننا إذا افترضنا ذلك فإننا سنكون عاجزين عن تفسير ظهور النص الأول وخلوده في أي فن من فنون الأدب. والإقرار بوجود النص التراثي السردي القصير جداً هو إقرار بأمر واقع أكثر من كونه بحثاً عن هوية تراثية لهذا النوع، وإن كان وجود مثل هذه الهوية يشعر المتحمسين أنهم يقفون على أرض صلبة، ويبعد عنهم شبح تهمة لاحقتهم، وجعلت منهم ومن قصصهم نتاج التغريب والعولمة الثقافية وضياع الانتماء وغير ذلك من الاتهامات.
ولابد من التأكيد هنا أن الإفادة من الثقافة العالمية محمودة دائماً بشرط واحد ووحيد هو ألا تمارس هذه الثقافة استلاباً من أيّ نوع على ثقافتنا القديمة والمعاصرة.
من هنا فإن القصة القصيرة جداً، بوصفها نوعاً أدبياً له أركانه وتقنياته، لا يعيبها أن تكون متأثرة بأي أدب عالمي، ولكن واقع الحال يبعد هذا الاحتمال من وجهين:
• الأول وجودها فعلاً في تراثنا العربي الغني بأشكال مختلفة.
• الثاني وجود سرد عربي متميز حديث صالح لأن يتطور وينتج أشكالاً سردية جديدة. ولاسيما أن الرواية العربية التي تم استيراد تقنياتها الحديثة من الغرب في بدايات القرن الماضي لم تقف عند حدود تلك التقنيات، بل عملت على تطويرها بكفاءة ممتازة.
وعلى الرغم مما تقدم فإن من المناسب التمييز بين الحكاية القصيرة جداً التي يكثر وجودها في التراث، والقصة القصيرة جداً، تلك القصة التي تطورت في الوطن العربي، وخاصة في سورية في السنوات الأخيرة:
فالحكاية التراثية كانت تكتفي في معظم الأحيان بالجانبين الحكائي والوعظي، أما القصة الحديثة فقد تخلصت في نماذجها الجيدة من الوعظية واهتمت باستثمار إنجازات التطور السردي، بمعنى أن السرد القديم كان مهتماً بالجانب الإخباري، بينما اهتم السرد الحديث بالجانبين الإخباري والجمالي في آن معاً.
ولعل في الخبر الذي يرويه الميداني في معجم الأمثال عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثالاً لاهتمام السرد القديم بالجانب الإخباري والدلالة الوعظية:
“يروى أن أمير المؤمنين علياً رضِيَ الله عنه قال: إنما مثلي ومثل عثمان كمثَل أثوار ثلاثة كُنّ في أجمة أبيض وأسود وأحمر، ومعهنّ فيها أسد، فكان لا يقدر منهن على شيء لاجتماعهنّ عليه، فقال للثور الأسود والثور الأحمر: لا يُدِلِّ علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض فإن لونه مشهور ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله صفت لنا الأجمة، فقالا: دونك فكله. فأكله ثمّ قال للأحمر: لوني على لونك، فدعني آكل الأسود لتصفو لنا الأجمة، فقال: دونك فكله، فأكله ثمّ قال للأحمر: إني آكلك لا محالة، فقال دعني أنادي ثلاثاً، فقال: افعل، فنادى: ألا إني أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض” .
ولا ريب – عندنا – أن نداء الثور الأحمر في آخر الخبر هو رسالة وعظية واضحة المعالم، وأن استخدام الحيوانات، بوصفها معادِلات (بكسر الدال) نفسية للشخصية البشرية فيه نية واضحة لفتح أفق النص، وإن كانت هذه النية تحاول أن تعفي القارئ من بذل جهد إضافي محتمل، مع بداية الخبر الذي يدعو لمقارنة ذهنية وحسية واضحة: “إنما مثلي ومثل عثمان….”
غير أن هناك أخباراً وحكاياتٍ أخرى حاولت إعطاء دور ذي أهمية للقارئ وكأنها تطلب منه أن يحدد موقفاً خاصاً به، بل تطلب منه أن يملأ الفراغات التي يتركها النص، والحكاية التالية مجرد مثال:
“زعموا أن أسداً وثعلباً وذئباً اصطحبوا، فخرجوا يتصيدون، فصادوا حماراً وأرنباً [وظبياً]، فقال الأسد للذئب: اقسم بيننا صيدنا. فقال: الأمر أبين من ذلك: الحمار لك والأرنب لأبي معاوية _ يعني الثعلب _ والظبي لي. فخبطه الأسد، فأطاح رأسه، ثم أقبل على الثعلب وقال: قاتله الله ما أجهله بالقسمة! هات أنت يا أبا معاوية. فقال الثعلب: يا أبا الحارث، الأمر أوضح من ذلك: الحمار لغدائك والظبي لعشائك، والأرنب فيما بين ذلك. فقال له الأسد: قاتلك الله ما أقضاك! من علمك هذه الأقضية، قال: رأس الذئب الطائح عن جثته “.
ومثل هذا السرد يكاد يخلو من الزوائد، إذ يجنح إلى التركيز، فيما لا تنجح نصوص أخرى في ذلك، ويمكن هنا أن نشير إلى الحكاية التالية التي تضيف على نهايتها الحكائية سرداً إضافياً غايته إيضاح ما هو واضح في الأساس:
“قالوا: أصل هذا أن رجلاً تزوج امرأة وله أم كبيرة، فقالت المرأة للزوج: لا أنا ولا أنت حتى تخرج هذه العجوز عنّا، فلما أكثرت عليه احتملها على عنقه ليلاً، ثمّ أتى بها وادياً كثير السباع فرمى بها فيه، ثمّ تنكّر لها، فمرّ بها [رجل] وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا عجوز؟ قالت: طرحني ابني ههنا وذهب وأنا أخاف أن يفترسه الأسد، فقال لها تبكين له وقد فعل بك ما فعل؟ هلا تدعين عليه، قالت تأبى له ذلك بنات ألببي” .
ومثل هذا القص الإخباري الذي ينقصه التكثيف لا يعني أن فقدان التكثيف صفة لاصقة بما أنتجه القدماء، إذ إنهم كثفوا، في بعض الأحيان، الخبر والنادرة والحكاية إلا أقصى حدّ ممكن، ومن الأخبار السردية التي يقدمها الميداني في مجمع الأمثال الخبر التالي الذي يقدم دلالة سياسية صالحة لكل زمان ومكان، كي يتكئ عليها المنهزمون:
“…. وحديثه أن رجلاً من العرب أُغير على إبله فأُخذتْ، فلما توارَوا صعد أكمةً وجعل يشتمهم، فلما رجع إلى قومه سألوه عن ماله، فقال: أوسعتهم سبّاً وأودوا بالإبل”
ولعل تكاذيب الأعراب أن تكون من أغرب الأشكال السردية وأندرها، إذ تقوم الحكايات على تبادل الأكاذيب التي لا يجتهد راويها في إعطائها أي شكل من أشكال المعقول والمقبول، بل على العكس من ذلك، فإنه يقوم بسرد ما هو غريب وغير منطقي، مما يسهم في مدى نجاح الأكذوبة، وهذه إحدى الأكاذيب المشهورة التي يرويها أعرابي في معرض تكاذبه مع آخر:
” خرجتُ مرة على فرس لي، فإذا بظلمة شديدة فيممتها حتى وصلتُ إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل بفرسي عليها، حتى أنبهتها، فانجابت” .
* * *
وقد تناول السرد القديم القصير جداً، بمختلف أشكاله، قضايا يغلب عليها الطابع الاجتماعي، فكانت حكايات وأخبار تدعو إلى الكرم وتذم البخل، وكانت طرائف ولطائف تمجد الإيثار والعدل، وكانت نوادر تؤكد سلامة الذائقة العربية في الموقف من الشعر، وغير ذلك.
وثمة خبر يورده محمد أحمد جاد المولى ورفاقه في قصص العرب، يسرد حكاية غلام أسود كريم، فيقول:
“خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخيل قوم، فيها غلام أسود يقوم عليها، فأُتي بثلاثة أقراص، فدخل كلبٌ فدنا منه، فرمى إليه بقرص فأكله، ثم رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما، وعبد الله ينظر إليهن فقال يا غلام، كم قوتُك كلّ يوم؟ فقال: ما رأيت! قال: فلم آثرت الكلب؟ قال: لأن أرضنا ليست بأرض كلاب، وإخاله قد جاء من مسافة بعيدة جائعاً، فكرهت ردّه.
قال: فما كنت صانعاً؟ قال أطوي يومي هذا! فقال عبد الله بن جعفر: والله إن هذا لأسخى مني فاشترى النخل والعبد، وأعتقه ووهب له ذلك” .
وفي خبر آخر يروي لنا أصحاب “قصص العرب” حكاية تشهد بذكاء إياس بن معاوية، وتجعل العدل هدفاً أسمى في القضاء، فيقول:
“استودع رجل رجلاً آخر مالاً، ثم طالبه به فجحده، فخاصمه على إياس بن معاوية القاضي، وقال: دفعتُ إليه مالأ في مكان كذا وكذا! قال فأيّ شيء كان في ذك الموضع؟ قال: شجرة.
قال: فانطلق إلى ذلك الموضع، وانظر إلى تلك الشجرة، فلعلّ الله يوضّح لك هناك ما يتبيّن به حقك، أو لعلك دفنت مالك عند الشجرة، فنسيت، فتذكر إذا رأيت الشجرة.
فمضى وقال إياس للمطلوب منه: اجلس حتى يرجع صاحبك، فجلس وإياس يقضي وينظر إليه بين كل ساعة. ثمّ قال: ترى صاحبك بلغ موضع الشجرة؟ قال: لا! فقال يا عدوَّ الله؛ أنت لخائن! قال: أقلني، أقالك اللهّ فأمر بحفظه حتى جاء خصمه، فقال له
خذ منه بحقك فقد أقرّ “.
وعلى الرغم من أن بعض الأخبار تروى عن الأعراب الذين يشار إليهم من غير أسماء، مما يمكن أن ينضوي تحت “الأدب الشعبي” فقد جسدت تلك الأخبار معاني بعيدة الغور، من خلال يسر لغتها، وعمق دلالتها، ففي خبر عن الأصمعي قال:
“اتخذ أعرابي كلباً، فقيل له:
أما علمتَ أن الملائكة لا تدخل داراً فيها كلب؟
قال: وما أصنع بالملائكة؟ يرون أسراري ويحصون أنفاسي!! “
وثمة قصة أخرى لطيفة تأتي في سياق خبر عن عجوز، وتثبت من خلال حكايتها قدرة العرب، من العوام والخواص، على إطلاق أحكام شبه نقدية على شعر الشعراء، يقول الخبر:
“بينما كان كثيّر عزة مارّاً بالطريق يوماً، إذا هو بعجوز عمياء على قارعة الطريق تمشي، فقال لها: تنحَّيْ عن الطريق، فقالت له: ويحك من تكون؟ قال: أنا كثيّر عزة. قالت قبّحك الله! هل مثلك يُتنحّى له عن الطريق؟ قال: ولمَ؟ قالت: ألستَ القائل:
وما روضة بالحسن طيبة الثّـرى
يمجّ الندى جثجاثها وعـَرارُها

بأطيبَ من فيها إذا جئت طارقاً
وقد أوقدَت بالمِجمَر اللدن نارُها
ويحك يا هذا! لو تبخّر بالمجمر اللدن مثلي ومثل أمّكَ لطاب ريحها، هلّا قلتَ مثلما قال سيّدك امرؤ القيس:
وكنت إذا ما جئت بالليل طارقاً
وجدتُ بها طيباً وإن لم تطيّبِ
فقطعتْه، ولم يردّ جواباً!” .
ومثلما تقوم الحكاية على البيت الشعري، بوصفه رافعاً من روافع اللغة السردية، فإن اللغة ذاتها، من خلال بديعها، ومشتركها اللفظي، وغير ذلك يمكن أن تحوّل الحكاية إلى طرفة على نحو ما نجد في الخبر التالي الذي يعتمد على الجناس:
“مرّ بعض الصوفية ببغداد وإذا بسوقي ينادي: الخيار عشرة بدرهم، فلطم الصوفي وجه نفسه، وقال: إذا كان الخيار عشرة بدرهم، فكيف الأشرار؟ “
ولا شك أن هذا السرد القصير جداً ينطوي على دلالة بالغة الأهمية، ويمكن لهذه الدلالة أن تكون سياسية، كما هي الحال في الخبر الذي ورد عن علي رضي الله عنه، أو اجتماعية كما هي الحال في حكاية الأم وابنها، وقد تكون لها دلالات أخرى.
* * *
وربما تستعين الحكاية بشخصية واقعية أو تخيلية في بناء سرد قصير جداً، وربما يستعين بشخصية تخيلية ذات أصل واقعي، ولا بد هنا من الإشارة إلى شخصيتين مهمتين في التراث السردي العربي، اعتمد عليهما كثيراً في تقديم الحكايات، وهما شخصيتا أشعب وجحا. وإذا كانت شخصية أشعب قد بدت مسطحة وبسيطة وأحادية الاهتمام إلى حد كبير، فقد جاءت شخصية جحا غنية ومتنوعة ومثيرة للاهتمام.
يبدو أشعب رجلاً طماعاً شرهاً للطعام، ولا تخرج معظم الحكايات التي تنسج حوله عن هذا المعنى، وعلى الرغم من أن شخصيته ذات وجود حقيقي تاريخي ، فإن كثيراً من حكايات البخلاء والشرهين للطعام قد ألصقت به إلصاقاً، ومن الحكايات التي تروى عنه الحكاية التالية:
“اجتمع عليه يوماً غلمان من غلمان المدينة يعابثونه، وكان مزّاحاً ظريفاً مغنّياً، فآذاه الغلمة فقال لهم: إن في دار بني فلان عرساً، فانطلقوا إليه ثمّ فهو أنفع لكم، فانطلقوا وتركوه، فلما مضوا قال: لعلّ الذي قلت من ذلك حقٌّ، فمضى في أثرهم نحو الموضع، فلم يجد شيئاً، وظفر به الغلمان هناك فآذوه.”
وفي خبر آخر، يورد الدكتور مفيد قميحة أن رجلاً سأل أشعب أن يسلفه ويؤخره، فقال: “هاتان حاجتان، فإذا قضيت لك إحداهما فقد أنصفت، قال الرجل رضيت، فقال أشعب: فأنا أؤخرك ما شئت، ولا أسلّفك “.
أما شخصية جحا فهي ظاهرة الاختلاف عن الشخصية السابقة، لأنها لا تسعى إلى مجرد الإضحاك، بل إلى تعميق إحساسنا بالواقع السياسي والاجتماعي الذي عاشته هذه الشخصية، وهي _ أي شخصية جحا _ لم تعش في عصرها فقط، بل تجاوزته إلى عصرنا من خلال ظهورها في أدبيات حديثة، وإذا كان ثمة خلاف في تحديد اسم هذه الشخصية ، ومكان وجودها الحقيقي، فإن الذي لا خلاف فيه أنها شخصية موجودة، وأنها تفيد من مساحة الحرية التي يتيحها الحمق لإبداء رأيها في كثير من القضايا الخطيرة التي لا يستطيع العقلاء تحديد مواقفهم منها بصراحة.
“فمن حمقه أن عيسى بن موسى الهاشمي مرّ به وهو يحفر بظهر الكوفة موضعاً، فقال له: ما لك يا أبا الغصن؟ قال: إني قد دفنت في هذه الصحراء دراهمَ ولست أهتدي إلى مكانها، فقال عيسى: كان يجب أن تجعل عليها علامة، قال: قد فعلتُ، قال: ماذا؟ قال: سحابة في السماء كانت تظلّها ولست أرى العلامة” .
وقد يذهب به حمقه نحو كشف المستور من العلاقات الاجتماعية، أو إقرار الأمر الواقع بطريقة لا تخلو من البراعة، ومن حكاياته الطريفة الحكاية التالية التي تجسد الانقلاب الذي يتوقعه جحا من زوجته، مما يدفعه إلى اتخاذ إجراءات وقائية قبل إقدامه على الزواج:
“أراد جحا أن يبني داراً، فطلب من النجار أن يجعل خشب الأرضية في السقف، وخشب السقف في الأرضية، فسأله النجار عن سبب ذلك، فقال جحا: يقولون إن الإنسان إذا تزوج انقلب عالي البيت سافله، وأنا سأتزوج قريباً، وبهذا يعود كل شيء إلى مكانه الطبيعي”
غير أن هذا الحمق قد يذهب به مذهباّ آخر فيجعله يقدم طرائف ذات دلالة بالغة الأهمية، إذ يفضح في إحدى نوادره المجتمع المتخلف غير المثقف الذي يعد الكتاب منوماًً، وكأن هذه الطرفة تريد للكتاب أن يوقظ الناس بدلاً من أن ينومهم:
“طلبت منه امرأته أن يعود إليها في طريقه من المسجد بدواء منوم لطفلهما الذي يؤرقهما بالبكاء والصياح. فعاد وليس معه غير الكتاب الذي يقرؤه، فقالت له: لعلك نسيت الدواء.
قال: معاذ الله، هذا هو الدواء، وقد جربته اليوم في الكبار، فناموا، فجربيه أنت في الصغار” .
وقد يتخذ هذا الحمق شكل جرأة سياسية لا يقدر عليها العقلاء، كما نلاحظ في النادرة التالية:
“سئل جحا يوماً: السلطان أكبر أم الزارع؟
فقال: طبعاً الزارع أكبر، لأنه إذا لم ينتج القمح مات السلطان.”
وقد أضاف الرواة والمبدعون إلى شخصية جحا كثيراً من الفطنة والذكاء والجرأة قرناً بعد قرن، حتى إن هذه الشخصية، تصبح على يد زكريا تامر شخصية واعية ثائرة متمردة بامتياز ، ففي قصة بعنوان “لماذا اعتقل” يستحضر زكريا طيف هذه الشخصية لتقديم قصة فنية مكثفة ذات أبعاد دلالية وارفة الظلال:
“قال الملك يوماً لجحا: “الناس الذين أحكمهم مرضى بحب التذمر، فإذا جاء الشتاء تذمروا من برده، وإذا جاء الصيف تذمروا من حرّه”.
فقال جحا للملك: “وهل سمعتَ واحداً منهم يذمّ الربيع؟”.
فاعتقل جحا لأسباب لم تعرف، وبقي معتقلاً حتى ألّف كتاباً في ذمّ الناس المرضى بداء التذمر، فتال الحرية والمال والشهرة. “
* * *
مما تقدم نرى أن السرد القصير جداً ليس جديداً، ولكنه قديم جداً، غير أن الذي يميز السرد الحديث عنه أنه _ أي القديم _ احتفل بالمقولة على حساب الفن، وأن انتماء النص إلى نوع سردي بعينه لم يكن واضحاً، إذ اختلط الخبر بالنادرة، واختلط المنام بالأكذوبة، في كثير من النماذج.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
من كتابي: القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، الصادر عن دار اليازجي في دمشق، 2004.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.