ما قبلَ السَّردِ
لم يكنْ هناكَ اضطرابٌ حولَ جنسٍ أدبيٍّ ، كالذي حدثَ في الق ق ج . لأنَّ النَّقدَ التَّطبيقيَّ خذلها، والنَّقدَ التَّنظيريَّ لم يمهِّدْ لها السَّبيلَ، ولم يُنرْ لقارئِها الفِجَاجَ الدِّامِسة. فأقبلَ عليها الكتَّابُ مغترِّينَ بحجمِها الضَّئيلِ، متجرِّئينَ على حَرمِها الأثيل. فظهرَتَ كتاباتٌ تنوءُ بكلِّ ما لا يمتُّ للق ق ج بصلةٍ ، فتاهَ مُعظمُ الكتَّابِ ، وتاهَ المتلقُّونَ في أثرهِم .. فساء الفهم ، وحلَّ بدل الصَّفاء غبشٌ في الصُّورةِ والتَّصوُّر … ولم يخرج من دائرة هؤلاء إلا القليل ، ساعدهم في تفوُّقهم ، ممارستهم للكتابة السَّردية أو الشِّعرية ، فعن طريقِ السَّرديَّاتِ اكتسبوا خبرةَ الحكي، وتقنيات الابتكار، وبلاغــــــة القصِّ، فيما يخصُّ : الشُّرود والانفصال ، والتَّركيز والاستغراق، والتَّأخير والتَّأجيل .. وجعل المألوف غريبًا ، والغريب مألوفًا ، .. كما استفادوا منَ الشِّعرِ خصائصَهُ المميَّزَةَ في الحذفِ ، والإضمار ، والتَّكثيف اللُّغوي ، والتَّلميح، والتَّرميز وتوظيف الصُّورَة الذِّهنيَّة بغيـــة تحقيق العَصف الذِّهني، ومعنى المعنى (إيتمولوجيا ).. كلُّ هذا فضلاً عنِ الاستئناسِ بالتَّنظيرِ والنقدِ ، والاستماع لنبضهما ، واقتفاء معالمهما .. فهذا ما حقَّق لهؤلاء كتابـــة التَّميُّز ، والوعي ، والإبداع .. ومنهم القاص اللّيبي جمعة الفاخري . فالمتتبِّع لقصصه من خلال مجموعاته: “حبيباتي”، و”رفيف أسئلة أخــرى ” ، و”عطر الشمس”.يجــد أنَّ الجهاز الحكائي يخترق المألوف السَّردي ، ويتلافى الإجراء التَّعبيري العادي، لتحقيــق السلسلة المفهوميَّة ، وتراكم المعنى ، وفسح المجال لتعدُّد القراءات، وإثارة التأمُّلات والتَّمثُّلات الدلاليَّة .. فالقصَّة القصيرَةُ جدًّا لا تخضع عنــده للمعيار المتَّبــع وبخاصَّة فيما يتعلَّق بالقفلة Résolution ,, بل هذه الأخيرة تذوب ذوبانًا في أتون النَّص ، وكأنَّها ضمنيَّة الوجـــود ، ويصبح النَّسيجُ الحكائيُّ الذي أساسه التبئير Focalisation من أوَّله إلى آخره حدثًا قصصيًّا عبارة عن حالة ، ويبقى الهدف الأساس ، خلق إحساس بهذه الحالـة لا ذكر المعنى ، مع المحافظة على اللَّحظة القصصيَّة ، التي تأتي غالبًا خاطفةً / مفاجئةً. إنَّ القاص جمعة الفاخري في هذه المجموعة بخاصَّة، وفي كـلِّ مجموعاته القصصيَّة ، بنسبٍ متفاوتةٍ ، يحرص الحرصَ كلَّهُ على أن يضمنَ الانسجامَ الثنائيَّ: بينَ أثرِ السِّيـــــاقِEffet de contexte وأثرِ الاستيعابِ Effet de d’assimilation الشيء الذي ينتج عنه بالضَّرورة : انسجامٌ داخليٌّ ، وانسجامُ النَّصِّ، وانسجامُ الخطابِ. مبتعدًا عنِ الصورَةِ المعياريَّة النمطيَّة للنصوص، التي تنحصر فيها احتمالاتُ الدِّلالة في المعنى، بل على العكسِ من ذلك ، تكتسبُ نصوصُ مجموعَةِ “عطر الشَّمس” خاصيَّةَ تعدُّد الدِّلالة .. لتأرجحِها الواضحِ بينَ الواقعيَّةِ ، والشَّاعريَّةِ ، والرَّمزيَّةِ المقنعَةِ ، والبعدِ الأيقونيِّ ، والفضاءِ السميـــائيِّ الانزياحيِّ ….. إنَّ المسارَ السَّرديَّ في نصوصِ مجموعةِ “عطر الشِّمس ” : عصارةُ تجربةٍ ، وحرقةُ معاناةٍ ، وحصيلةُ إنصاتٍ ، وشهادةٌ اجتماعيَّةٌ ، ورؤيةٌ إنسانيَّةٌ ، ومسحَةٌ فنِّيـَّـةٌ ، مشبعةٌ بشهوةِ الحكي ، والحلمِ ، والتَّخييل ، والعلامات اللِّسانية ، التي تفتح المجال رحبًا لتعدُّد الرؤى … وتلفتُ النَّظرَ لقاصٍّ مبدعٍ ، يمتحُ من فيضٍ زاخرٍ ، فيرسمُ بإيجازٍ ومهارَةٍ ، وفنِّيَّةٍ وبراعةٍ ، اقتناصَ لحظاتٍ ، وتشكيلَ أحداثٍ….
موقع الدكتور مسلك ميمون