اللّغة العربية لغة عالمية: بأي معنى؟ د فاتحة الطايب / المغرب


د .فاتحة الطايب / المغرب

سنحاول في هذه المداخلة أن نقارب دلالات عالمية اللغة العربية، متقصدين ربط الحاضر بالماضي والمستقبل، من خلال مسارين اثنين : يمتد المسار الأول من القرون الوسطى إلى القرن العشرين ، ويشمل المسار الثاني القرن العشرين إلى حدود بداية العشرية الثالثة من الألفية الثالثة .
المسار الأول : العربية في العصور الوسطى إلى حدود القرن العشرين في كتابها الموسوم ب اللغة العالمية الصادر سنة 2015 تعتبر الناقدة الفرنسية باسكال كازانوفا اللغة اللاتينية لغة عالمية امتدت سيطرتها من العصور القديمة إلى أن حلت محلها اللغة الفرنسية في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر تحديدا ،وهما القرنان اللذان تركزت خلالهما الكتلة القارية الأطلسية التي تشكل مركز وقيادة العالم في شمال الكرة الأرضية …ومن هنا اضطلاع اللغة الانجليزية بنفس الدور بعد الفرنسية في القرن العشرين إلى يومنا هذا . ولعل أول ما يلفت الانتباه في هذا التحديد ،هو الربط أحادي البعد بين الثقافة اليونانية -اللاتينية والثقافة الفرنسية في سياق ثقافة النهضة تعميما ، خاصة وأن كتاب كازانوفا مسبوق بصدور كتابات غربية قيمة تنتقد تكريس فكرة كون الثقافة اليونانية –اللاتينية الإرث الوحيد للنهضة الأوروبية كاشفة عن مصادر أخرى لهذه النهضة ، ومن أهمها الثقافة العربية الإسلامية في القرون الوسطى ، إيمانا بتعدد المنظورات والأبعاد والمعاني بالنسبة للثقافة الواحدة أي بتعدد وجهاتها. ومن بين هذه الكتب نذكر على سبيل التمثيل كتاب توماس باور ثقافة الالتباس :وجه أخر للإسلام ،وكتاب هانس بيلتنغ فلورنسا وبغداد : النهضة الفنية والعلم العربي. إن كون اللغة اللاتينية، التي تغذت بالقوة الفكرية اليونانية ،هي لغة الدين والمعرفة الموحدة لأوروبا في القرون الوسطى معطى لا يحتاج إلى تأكيد ، إلا أن صحة هذا المعطى تقابله قوة معطى آخر لا يتطرق إليه أدنى شك وهو أن اللغة اللاتينية في ذلك العهد ما كان بإمكانها إطلاقا أن تساهم في إخراج الأوروبيين من ظلام التخلف والجهل لولا استفادتها من نور علم العربية وقوة ثقافتها المخترقة لمجموع المعمور خلال العصر الوسيط، بحيث كان تعلم العربية شرطا لازما آنذاك للاطلاع على الفكر والعلم المطور والمجدد للتراث اليوناني والتراث الإنساني تعميما. ويكفي أن نصيخ السمع ليس فقط إلى الكنوز العربية المستقرة في اللاتينية -بواسطة حركة الترجمة من العربية التي نشطت خلال قرون الإحياء الأوروبية ( القرنان الثاني عشر والثالث عشر تخصيصا) ، والتي كان لها دور فعال في النهضة الأوروبية في المجالات المعروفة كالهندسة مثلا والفيزياء والصيدلة و الطب بما في ذلك الطب النفسي حسب ماشادو دي أسيس ، وكذا في مجالات غير متوقعة مثل مجال الرسم الذي يعد مجالا مثيرا للجدل في الإسلام – وإنما إلى شهادات كتاب القرون الوسطى الأوروبيين ورجالات النهضة أنفسهم ، مثل أديلار باث بالنسبة للقرون الوسطى، وفرانسوا رابلي بالنسبة لفجر النهضة الفرنسية ….
وإذا كانت عالمية اللغة العربية خلال القرون الوسطى ترتكز، استنادا إلى مفهوم اللغة العالمية الشائع ،على قوة الفكر والعلم العربيين استنادها إلى القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية العربية الإسلامية ،فإن المنطق الذي ارتكزت عليه كازانوفا لتؤكد عالمية اللغة اللاتينية إلى حدود القرن الثامن عشر يسمح لنا أن نؤكد في المقابل استمرار الدور العالمي للغة العربية خلال القرون التالية لأفول القوة السياسية العربية الإسلامية من خلال اللغة اللاتينية ذاتها من ناحية ،ومن خلال الامبراطورية العثمانية من ناحية ثانية . ترى كازانوفا أن اللاتينية ظلت تؤدي دور اللغة العالمية بفضل استمرار عملية الترجمة انطلاقا منها إلى حدود تأسيس الأكاديمية الفرنسية في القرن السابع عشر، وتقوي الفرنسية بصفتها لغة المعرفة والثقافة في القرن الثامن عشر تسندها قوة فرنسا الاقتصادية والسياسية والعسكرية في أوروبا. و تماشيا مع منطق الناقدة ،فإن عالمية اللغة العربية ستخترق بالضرورة القرون الوسطى إلى القرون الحديثة – القرن الثامن عشر تحديدا- إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار كون اللاتينية المتحدث عنها هاهنا هي تلك التي نقلت إليها المعارف العربية . ويكفي في هذا السياق أن نلقي نظرة على الترجمة الأوروبية في القرن الثالث عشر لنكتشف مقدار حضور العربية في اللاتينية . نضيف إلى هذا المعطى، استمرار العربية في أداء دورها الفكري في إطار الامبراطورية العثمانية إلى حين ضعفها في القرن التاسع عشر ،إذ يجوز أن نشبه مع الفارق علاقة اللغة التركية بالعربية بعلاقة اللغة اللاتينية باللغة اليونانية، فمن المعروف أن اللغة العربية ظلت تحتل المكانة الأولى في مجال التعليم إلى حين أفول الامبراطورية العثمانية في حين تم توظيف التركية في المؤسسات الإدارية والحكومية. مما يفيد أن الازدواجية اللغوية تركية – عربية لدى الأتراك المثقفين ازدواجية تكشف أن اللغة المهيمنة ليست بالضرورة هي لغة البلد القوي اقتصاديا وعسكريا. فالهيمنة السياسية والاقتصادية لبلد معين ، حسب كازانوفا ، لاتعد دائما العامل الأساسي لهيمنتها ،حيث توجد عوامل إضافية تتدخل في وضعية اللغة ، منها : المكانة الأدبية والأهمية الاجتماعية و المصلحة الجماعية، إلخ….
وحتى نسلط الضوء على مكانة العربية عالميا من خلال الامبراطورية العثمانية في زمن كانت قد بدأت تتقوى فيه اللغة العالمية التي ستخلفها، نورد الشهادة الآتية للمؤرخ الأمريكي مارشال هودسون في كتابه إعادة التفكير في التاريخ العالمي بخصوص حيوية الثقافة الإسلامية في القرن السادس عشر، يقول : ” كان يمكن لزائر من المريخ في القرن السادس عشر أن يعتقد أن العالم البشري كان على وشك أن يصبح مسلما ، وكان يبني حكمه جزئيا على امتيازات المسلمين الاستراتيجية والسياسية و… على الحيوية الكامنة لثقافتهم…، فقد كانت الثقافة الإسلامية تقدم معيارا دوليا للشعوب العديدة ،التي كانت تبحث عن الاندماج في الشبكة التجارية لنصف الكرة الأرضية “.
المسار الثاني: العربية ابتداء من القرن العشرين إلى يومنا هذا اليوم وقد تلت الإنجليزية الفرنسية في احتلال الصف الأول عالميا ، وبعد أن مرت العربية بنفس مراحل حسناء الغابة النائمة -حسب تعبير المفكر عبد الله العروي- ظهرت كتابات عربية في الألفية الثالثة تفحص “عالمية” اللغة العربية من أكثر من زاوية :
1-من زاوية الانتشار الواسع للغة العربية ، إذ تعتبر العربية من بين اللغات الأكثر انتشارا ، فهي اللغة الرسمية لجميع البلدان العربية واللغة الثانية في مجموعة من الدول ، يتحدث بها أكثر من 400 مليون نسمة . ولأن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل أو حتى لاكتساب المعرفة وإنما هي وسيلة لممارسة السلطة ،فإن عملية الانتشار المتصلة بعدد المتحدثين باللغة ، إذا كانت وسيلة لعبور الحدود فهي لا تكفل وحدها العالمية لأي لغة من اللغات وإلا لكانت الصينية هي اللغة العالمية البارحة واليوم وغدا باعتبار الصين تتصدر دول العالم من حيث عدد السكان الذي يبلغ حسب احصائيات السنة الجارية مليار نسمة ونيف.

2-من زاوية اعتمادها لغة رسمية ولغة عمل في مجموعة من المنظمات الاقليمية والعالمية ، نذكر منها منظمة التعاون الإسلامي، وهي ثاني أكبر منظمة بعد منظمة الأمم المتحدة ، فمنظمة الأمم المتحدة ذاتها . ويعد إدراج اللغة العربية لغة رسمية ولغة عمل في منظمة الأمم المتحدة حدثا بالفعل ،خاصة وأن وظائف هذه المنظمة التي ما فتئت تكبر وتتسع شهرتها لتصبح المنظمة الأكبر والأكثر شهرة في العالم منذ تأسيسها سنة 1945 تمنحها نفوذا دوليا ،لكن حقيقة وفاعلية هذا الحدث ترتبطان بالإجابة على سؤالين متكاملين : في أي سياق تم إدراج اللغة العربية لغة رسمية ولغة عمل في الأمم المتحدة ؟ وهل أثر إدراجها لغة رسمية ولغة عمل في الأمم المتحدة على وضعها في السوق اللغوية الدولية ، مقارنة باللغات الخمس المعتمدة في المنظمة ؟ من المؤكد بالنسبة للسؤال الأول أن المساعي العربية المبذولة في هذا الاتجاه منذ أواخر الأربعينات إلى حدود السبعينات من القرن العشرين ما كانت لتتكلل بالنجاح لولا ورقة البترول الضاغطة المتزامنة مع انهيار سوق الأوراق المالية ما بين سنة 1973 وسنة 1974 ،فإثر التفاوض مع منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول التي أعلنت حظرا نفطيا على الدول الغربية مثلما عملت على الزيادة في أسعار النفط ، تم اعتماد اللغة العربية لغة رسمية في منظمة الأمم المتحدة في 18 دجنبر1973 فلغة عمل سنة 1974 إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والإسبانية. وإذا تأملنا رمزية التواريخ التي اختارها قسم المعلومات في منظمة الأمم المتحدة للاحتفاء بلغات المنظمة الست ، حين تقرر سنة 2010 تخصيص يوم عالمي لكل لغة على حدة بهدف تعزيز التعدد اللغوي والتنوع الثقافي والتسوية بين جميع اللغات الرسمية للمنظمة ،( إذا تأملنا رمزية هذه التواريخ) نكون قد قدمنا الإجابة الكافية عن السؤال الثاني: لنبدأ في هذا الإطار باللغة الصينية بصفتها لغة غير أوروبية : لقد اختير يوم 20 أبريل يوما عالميا للغة الصينية تكريما لكانك جي ، الشخصية الأسطورية الصينية التي ينسب إليها اختراع الحروف الصينية قبل 5000 سنة ، مما يفيد الاحتفاء بعراقة اللغة الصينية فعراقة الثقافة الصينية بالضرورة. وبالنسبة للغة الفرنسية، اختير يوم 20 مارس يوما عالميا لها لأنه يتزامن مع اليوم الدولي للفرنكفونية ! ولا نظن أن أهداف و مساعي منظمة الفرنكفونية تحتاج منا الى تعليق. إن بعد انتشار اللغة خارج حدود الميتروبول كان حاضرا أيضا ، وإن من زاوية إبداعية ،أثناء اختيار يوم 23 أبريل يوما عالميا للغة الإسبانية تكريما للروائي الإسباني ميكيل دي ثرفانتس.. واليوم نفسه اختير يوما عالميا للغة الإنجليزية، لتزامنه مع يوم ميلاد وليام شكسبير الذي تنسب إليه هذه اللغة لعبقرية إنتاجه بها. في حين اختير يوم 6 يونيو يوما عالميا للغة الروسية ،تزامنا مع يوم ميلاد شاعر الروس الأعظم ألكسندر بوشكين. أما العربية فقد اختير لها يوم 18 دجنبر يوما عالميا ، إحياء لذكرى الاعتراف بها لغة رسمية في منظمة الأمم المتحدة . لم لم يتم الاحتفاء بعراقة اللغة العربية، مثلا، وهي التي تملك ذاكرة أطول بكثير من ذاكرة اللغات الأوروبية المعتمدة في منظمة الأمم المتحدة ؟ ولم لم يتم استحضار مفكريها وعلمائها؟ يمكن أن نذهب في التأويل مذاهب كثيرة ومختلفة، لكن ماهو واضح أمامنا هو أن تاريخ اليوم العالمي للغة العربية يجعل من التحاقها بمنظمة الأمم المتحدة حدث الأحداث ، بل ويسيجها داخله متحاشيا وضعها الاعتباري وطابعها الديني وعطاءها الأدبي والفكري عبر التاريخ . مما يؤكد في العمق تبئير علاقة القوة بينها وبين اللغات الخمس المعتمدة في المنظمة ، فإذا كانت العربية مساوية لهذه اللغات على المستوى اللساني فهي ليست كذلك على المستويين الاجتماعي والاعتباري الدولي . وتكمن المفارقة في أن هذا اليوم العالمي ذاته ، إذا ما تم توظيفه من قبل البلدان الناطقة بالعربية التوظيف المأمول بعيدا عن الخطابات المنمقة ،يعد فرصة للمقارنة وتشريح وضعيات اللغات في ربط ما بين اللغة والمعرفة والاقتصاد . فمن المتوقع أن تحتل اللغة الصينية مكانة الريادة العالمية مستقبلا بدل الإنجليزية، ليس فقط بفضل قوة الصين الاقتصادية وإنما بفضل قوتها الفكرية والعلمية أيضا. ومن بين المؤشرات الدالة على ذلك في مجال الثقافة الشروع في التسوية بين الإنجليزية والصينية في المؤتمرات الدولية التي تقام بالصين ، فمما أثار استغراب جمهور المؤتمر الدولي للأدب المقارن المنعقد بمكاو بالصين سنة 2019 ، إلقاء محاضرات افتتاحية باللغة الصينية أمام جمهور عالمي دون الاستعانة بالترجمة الفورية، تماما كما هو الشأن بالنسبة للمحاضرات بالإنجليزية. . 3-من زاوية حضورها المتزايد على فضاء الإنترنت الذي كان إلى عهد قريب حكرا على اللغات الكبرى وعلى رأسها الانجليزية، وإن كانت فاعلية هذا التزايد مشروطة بقوة الإنتاجين الأدبي والفكري.

خلاصة: إن الغائب في هذه الزوايا التي تم تناول عالمية العربية انطلاقا منها هو الربط بين القوة اللغوية وإنتاج المعرفة ، الذي يعرف تعثرات كثيرة مرتبطة بعدد كبير من الأسباب و بطبيعة أنظمة الرعاية في البلدان العربية. ولعل ما من شأنه أن يساهم في وضع مستقبلي أفضل، بعيد ربما لكنه ممكن، داخل البلدان العربية وخارجها :
1- التأثير المتوقع للازدواجية اللغوية في مجموعة من البلدان غير العربية التي تتخذ العربية لغة رسمية ثانية أو لغة فكر ومعرفة .
2-تطور وضعها في بلدان المهجر ،مثلما تدل على ذلك علامات عديدة في فرنسا على سبيل التمثيل.
3- اتباع الطريقة الوحيدة لمقاومة سلطة اللغة المهيمنة ، وتتمثل في تقمص وضعية “الملحد” – بتعبير كازانوفا- بمعنى عدم الإيمان بمكانتها المطلقة، و الاعتقاد بخلاف ذلك في اعتباطية هيمنتها وسلطتها ، في مقابل السعي الجاد إلى المساهمة في الإنتاج المعرفي العالمي بواسطة النهوض بالفكر و المعرفة عربيا: فبما أن عالمية اللغة العربية في الماضي ارتكزت على العمود الأساسي للعالمية وهو الفاعلية الفكرية والعلمية مثلما تشهد على ذلك وضعية اللغة المصدر التي احتلتها العربية لقرون عديدة ، فإن عالمية اللغة العربية مستقبلا مشروطة بالضرورة بالإنتاجية العلمية والفكرية ، وهي إنتاجية ضعيفة جدا حاليا يكشف عن ضعفها –مثلا- انعدام الترجمات عن العربية في مجالات التكنولوجيا والعلوم الحقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.