قراة لـ ( ق ق ج) ” دهاء ” للقاص ناصر الحلواني/ مصر
” خلسة غادرت الفراشة ليلا. غير عابئة بوحدتها أو بألوانها المطموسة بالعتمة. طارت إلى نهاية حقل، يقع بين آخر الليل و بين نطاق النور. المنبعث من نار منفردة بملكوتها. حطت الفراشة على ذؤابة جذع دقيق. و بمكر رقيق. أرسلت رفات وجود إلى الأنحاء. ثمّ ضمت جناحيها، في سلاسة غاوية.
أثارت الخيلاء في شذرات اللهب، و شظايا النار. المنفلتة من جذوتها. تصعد حبات النار إلى مدار الفراشة. تدور في فلكها. في شغف عاشق. تحاول أن تتماس ، مع طيفها الغاوي. و تظل في حومانها حتى تخمد. و تهوي إلى الأرض منطفئة.”
1 ــ ما قبل التحليل:
إنّ الانجذاب إلى الضّوء ليلا من طرف بعض الحشرات الليلية (Nocturnal insects) و منها الفراش حالة طبيعية أودعها الله في هذه الكائنات. التي تنشط في اللّيالي المقمرة ، حيث تنتشر الأشعة فوق البنفسجية (UV) الجاذبة.علمًا أنّ إناث الفراش تملك غدّة كيمائية تشعُّ منها أشعة فوق بنفسجية تجذبُ الذّكورقصد عملية التّزاوج، و نظراً لعدم تمييز ذكور الفراش بين وهج النّار القاتلة، و أشعّة غدة الإناث المُغرية، فقد تسوق نفسَها إلى المِحرقة. إذًا، الانجذابُ نحو الضَّوء اعتقادٌ خاطئ، بأنّ هناك إناث مُضيئة.
2 ــ النّص يتكون من أربعة مقاطع:
2/1 ــ [ خلسة غادرت الفراشة ليلا…. إلى… نار منفردة بملكوتها.]
2/2 ــ [ حطت الفراشة على ذؤابة جذع دقيق.. إلى … في سلاسة غاوية .]
2/3 ــ [ أثارت الخُيلاء في شذرات اللّهب، و شظايا النّار. المنفلتة من جذوتها]
2/4 ــ [ تصعد حبّات النّار إلى مدار الفراشة… إلى .. وتهوي إلى الأرض منطفئة]
3 ــ قـراءة النّص :
فراشة ليلية، رفّت بعيدًا، وحيدة، لا تعبأ بالعتمة. تنشد آخر الظّلام حيثُ لاح لها ضوء نار مُتقدة، فانجذبت إليها ، و لكن اتّخذت لها مكانًا فوق ذؤابة جذع دقيق. مرسلة رفّات في الأنحاء، ثمَّ ضمّت جناحيها بغواية.
الشَّيء الذي أثار شذرات اللّهب، و شظايا و حبّات النّار . فلفَّتِ الفراشةَ تدور حولها
في شغفٍ و عِشق، تحاول لمسَ طيفها الغاوي..إلى أنْ تخمد فتهوي مُنطفئة .
4 ــ صور التناقض:
إنّ قراءة النّص صادمة الدَّلالة. أو تندرجُ في إطارِ ما سمّته الناقدة نعومي كلاين مَبدإ الصّدمة (The Shock doctrine) لأنّها تناقض الصورة المَألوفة في الأذهان. بل تُعاكس الحقيقة الرّاسخة في الأذهان، كحقيقة علمية، و ليدة الخبرة و التّجربة في ميدان الحَشرات..
أرأيتَ و أنت تعلم أنّ الأرض تدور حول الشَّمس وهي تدور حول نفسها. فماذا إذا انعكستِ المَعلومة، و جاء من يُخبرك بأنَّ الأرض ثابتة، و الشَّمس هي التي تدور حولَ الأرض. لا شكّ أنّ ذلك سيخلق اضطرابًا في المَنظومةِ الفكرية ! فذاك ما نجده في نص ” دهاء ” للقاص ناصر الحلواني.
4/1 ــ علميًا ذكور الفراش وحدها دون الإناث هي التي تنجذبُ للضَّوء اعتقادًا منها بأنّها إناث مُضيئة. و لكن في النّص نجد فراشة هي التي انجذبت للضّوء.
4/2 ــ الفراش المُنجذب لا يتّخذ مكانًا يُراقب ألسنة النّار بل يحومُ حولها إلى أن يتملّكه التّعب فينهار و يَحترق. في النّص الفراشة تتّخذ لها مكانًا فوق ذؤابة جذع.
4/3 ــ في عالم الفراش، الذكورهي التي تطلب الإناث للتّزاوج فتندفع إلى الضّوء الذي تفرزه غدتها. في النّص، بدلَ الذكور حبّات النّار المتطايرة هي التى تحوم حول الفراشة في شغف و عشق..
4/4 ــ ذكور الفراش في اندفاعهم نحو الضّوء طلبًا للإناث، ينتهي بهم الأمر إلى الموت حَرقًا ، و بدل ذلك، انتهى الأمر بحبّات النّار التي تحوم حول الفراشة إلى الانطفاء، و السقوط أرضًا.
5 ــ السّؤال: لماذا هذا التناقض المقصود؟
لا شكَّ أنَّ النصَّ ينفتح على عدّة قراءات، لأنّه ليس بصورة بَسيطة مَألوفة، بل جاء بصورة عكسية، تخالف طبيعة الأشياء، و لا تخرج عن تناقضات عصرنا الحاضر
( Paradox of our times) هذا العصر الذي انقلبت فيه الموازين رأسًا على عقب. و اختلّت فيه القيم و الطّبائع، و سادت فيه التناقضات، و غابت لحظة الحقيقة. و أصبح المألوف غريبًا. و الحياة عبارة عن مُفارقة، أساسها التضاد و التنافر بين الحقيقة و المظهر.
6 ــ تقنية الكتابة :
6/1 لقد وظف القاص ناصر الحلواني طريقة مألوفة عند بعض كتاب الغرب و بخاصّة الانجليز المعاصرين من أمثال: إيان ماك – إيوين، وتوني موريسون، ومارغريت أتوود، وجوناثان فرانزن، وديفيد ميتشل، وفيليب روث..و الطريقة هي: تضاد المَخبر و المظهر (the contrast of Reality and Appearance) ذلك لتمرير الخطاب القصصي أو الرّوائي أو الشّعري..
6/2 و ظّف القاص مُفارقة عكسية، و نسقًا غرائبيًا ، فبدل أنْ تطلب الفراشةُ ـ في النّص ـ ضوء اللّهب، أصبحت هي نفسها مَطلوبة بحيث : ” تصعّد حبات النّار إلى مدار الفراشة. تدور في فلكها ” و هذا كفيل أنْ يثيرَ غرابة المُتلقي، فيشعر بأنّ شيئًا ما يتطلّب التّأمّل و التَّساؤل…
6/3 بينَ جملة البداية، و جملة النّهاية، تكمن الحقيقة. التي غُيبّت خلال النّص و نُسبت لغير صاحبها الحَقيقي، و كأنّنا بصدد استعارة: بين المُستعار و المُستعار له. فجملة البداية : ” خلسة غادرت الفراشة ليلا ” و جملة النّهاية أو الخَرجة :” و تهوي إلى الأرض مُنطفئة” و كذلك الفراشةُ تخرج ليلاً طلبًا للغذاء، و التّزاوج و قد تحترق بالضّوء الذي انجذبتْ إليه غِواية، و لا تعود.
6/4 حقًا أنّ الغواية ( Seduction) كانت محور القص في هذا النّص و إنْ تغيّرت الأدوار ، و لكن صيغت بلغة فنّية حافظت على روح الحكي، و التّركيز، و التّحديد و فسحتِ المجال لأسلوب مُتعدّد الأبعاد و الجَوانب، يُتيح للمتلقي قراءات مُتعدّدة إنْ لم أقلْ تَنازُع التَّأويلات..هذا فضلا عن اللّمسات الشّاعرية : “بألوانها المطموسة بالعتمة”. “يقع بين آخر الليل و بين نطاق النور.” ضمت جناحيها، في سلاسة غاوية.”، “تدور في فلكها. في شغف عاشق.”، ” تظل في حومانها حتى تخمد. و تهوي إلى الأرض منطفئة “
وهذا ما يَهدف إليه الفنُّ عمومًا، و فنُّ القصة القصيرة جدًا بخاصة. و بذلك اتّسم نص ” دهاء” بالغموض و الغرابة، الشّيء الذي لا شكّ سيُحفِّز فضولَ المُتلقي لِمعرفةِ المَعنى الكامِن (Latent content).
نص ( دهاء) للقاص ناصر الحلواني لمْ يكن دهاء بالمعنى المُعجمي، بقدر ما كان دعوة للتنبه، واليقظة لمواجهة تناقضات الحياة، و ما يحدث فيها من تقويض للمَألوف و الطّبيعي.. و ما أصبحت تفرضهُ الظّروف القَسرية منْ قيَّم بديلة ، لا تخضع لأي معيار أو إجراء تقويمي..
* مسلك ميمون *
موقع الدكتور مسلك ميمون