(الق ق ج) و الزّمكانية

                                   ( الق ق ج ) و الزّمكانية

      في أغلبِ ما أقرأ من نصوص (الق ق ج) ألاحظُ غياب الزّمكانية، و الاقتصار على زمن الأفعال. و حينَ سألتُ عن سرّ الظَّاهرة جاءني الجوابُ من أكثر من قاص ، على أنّ المَسألة يفرضُها الحَجمُ، و خاصية التَّسريع ! و البَعضُ يدّعي أنَّ الزّمان و المكان يبقى لخيالِ المُتلقي.

     أعتقدُ أنّه مسوغ غير موضوعي و لا فنّي، و إنّما هو انْسياق عن غير وعي. لأنَّ نصوصا كثيرة تصدرُ مُجردة من ذكر الزّمان، أو المكان أو هما معا : فما علاقة الحجم إذا كتبت مثلا:خرج صباحًا..عاد بعد منتصف اللّيل؟ أو كانت العَتمة تعمُّ السّرداب.. بقاي طعام فوق الطاولة ؟ هل مثل هذه الاشارات اللفظية للزّمان و المكان ستطيل الحجم أو تبطئ التّسريع؟ ثمّ كيف للمتلقي أن يتخيّل الزّمان والمكان و قد لا يكون في النّص قرينة دالة (Indice) أو ما يشير إلى ذلك، فقط ،  تهويمات لفظية، و جملٌ قصيرةٌ لاهتة، و تركيز على الجواني ليس إلا..

ينبغي أنْ نعلم أنَّ (الق ق ج ) هي أولا و قبل كلّ شيء قصّة، بغض النّظر عن حجمها. و لا يستقيم انسيابُ حكيها و مسارات سردها إلا وِفق رؤية  ثقافية / نصّية، تستلزم خصائص عملية القصّ حتَّى لا نقع فيما يُسمى: الأدب الاسْتعجالي (littérature de l’urgence) الذي لا جدوى منه غير الكتابة من أجل الكتابة.فلا يُمكن للقاص أن ينشدَ المُقاربة الاختزالية و يُضحي بعوامل الزّمان و المكان في الكتابة السّردية، وهي عوامل مساعدة و ناجعة مثل: التّرتيب (order)، و الاسترجاع (Analepsis)، والاستباق (Prolepsis)، والدّيمومة (Duration)، والتّواتر(Frequency)، و التَّفضئ ( Spatialisation)..

    لنتأمل دور التّزمين و التّفضئ في نص للقاص المصطفى كليتي من المغرب:
                                 ”  يضج المكان بأصواتهم
 كانوا في وقت الأصيل، يتحلقون جماعة من المتقاعدين، يثرثرون برغاء الكلام، و استرجاع ذكريات عزيزة، و هم يلعبون الورق..
غاب الأول و الثاني، و ترادف الغياب، حتّى غابوا تباعا، و ظلّ المكان المعتاد يضجّ بأصواتهم، و هم يتضاحكون و يتعابثون، و يتهامزون بالمزح السّاخرة .”

ــ زمن محدّد : (كانوا في وقت الأصيل).
ــ  الزّمن الماضي: (استرجاع ذكريات عزيزة).
ــ الزّمن الماضي : (غاب الأوّل و الثّاني، و ترادف الغياب حتّى غابوا تباعا)
ــ الزّمن الحاضرالمتخيل: (ظل المكان المعتاد يضجّ بأصواتهم..) بمعنى استمرار الماضي
  في الحاضر في مخيلة السّارد، تشكلا للزّمن القصصي.
ــ ما يوحي بالمكان : (يتحلّقون جماعة من المتقاعدين..)
ــ ما يوحي بالمكان: (و هم يلعبون الورق).
ــ مكان الاجتماع الحقيقي بصورة تخيلية استرجاعية و كأنّ المتقاعدين لم يفارقوه :(ظل المكان المعتاد يضجّ بأصواتهم..)

   و هناك نصوص قد لا يُذكر فيها الزّمان و المكان، و لا صفة لهما صراحة. و لكن السّياق القصصي بأفعاله الوَظيفية ، و تراكيبه الدّالة..كلّ ذلك يُشعر المتلقي بزمكانية النّص كالذي نجده في قصّة عادل المعموري من العراق:
 “شجن قديم.”
  انتبهت السّيدة الكبيرة، إلى عامل النّظافة، فطلبت من ابنها التّوقف فوراً. توقف معه موكب الحماية. التفت قائلا:
ــ ماذا يا أمّي ؟ ماذا حدث؟
ــ ولدي ذاك عامل النّظافة..إنّه كبير في السّن، و خِريج جامعي سابق.. لأجلي امنحه وظيفة تليق به بوزارتك.
لم يجرؤ أن يسألها عن السّبب،عندما سمع صوت نشيجها.أطرق قليلا،هزّ رأسه و هو يتمتم:
ــ حاضر يا أمّي. “

1ــ كلّ شيء تمّ في رحلة بسيارة مخفورة بحراس الحماية حين (انتبهت السيدة الكبيرة..) ذات يوم ما. و يظهر أنّ ذلك كان نهارًا. لأنّ السّيدة الكبيرة ميّزت عامل النّظافة وعرفته.
2ــ زمن استرجاعي : (.. إنّه كبير في السّن، و خِريج جامعي سابق.. ) كدليل على أنّ السيدة الكبيرة، تعرف عامل النظافة سابقًا..
3ــ زمنُ ماضٍ مؤثر : (لم يجرؤ أن يسألها عن السّبب،عندما سمع صوت نشيجها..) رؤية عامل النّظافة أثارت في نفسها شجنّا قديمًا.
4ــ المكان : شارع من الشوارع العامة، و إن لم يذكره النص.

    و بالمقابل نجد نصوصًا، تعمَّد مؤلفوها عدم ذكر الزّمان و المكان و عدم التّلميح لهما.سواء عن وعي أو عدم وعي ، و هي نصوص في الغالب يَطغى عليها البُعد التَّجريدي الفلسفي .. فتشكل قوّة تكلمية (Force illocutoire) لا قصصية حكائية .. ما يجعلها التّصنيف الأجناسي تندرج في إطار الشّذرة (Aphorismi).و هي فنّ اللّغة بامتياز، تقع بين الشّعر و الفلسفة محكومة بالعقل و ليس بالإحساس، و لا تتبع قواعد معينة. على عكس القصّة التي هي تخييل ذاتي (auto – fiction). يخضع لخواص معروفة.

  هكذا يتّضح أنّ التّزمين و التّفضئ يساعدان في الينية القصصية،  الحكائية و حَبك الحبكة.
قد يقول قائل: و هل من الضّرور التّنصيص على الزّمن و المكان؟ أقول:التّنصيص يفرضه السّياق، و ما تستوجبه الفكرة، و المَسار السّردي..و لكن ينبغي ترك إشارات زمنية و أخرى مكانية، كما هو في النّص أعلاه. فحين قال السّارد (استرجاع ذكريات عزيزة)، فالذكريات، لها ارتباط و طيد بالزّمن الماضي. و حين يقول: (و هم يلعبون الورق..) فهذه الجملة القصصية تسمح للمتلقي أنْ يتخيّل المكان: قد يكون في جانب مُتطرف من الطّريق ، و قد يكون في ظلّ شجرة في الحديقة العمومية، أو قد يكون في نادي المتقاعدين…

* مسلك *



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.