( الق ق ج ) و الشِّعريــة
لعلّ مفهوم ” الشِّعرية” من المفاهيم الغامضة، و الملتبسة بين النّقاد. و إنّ أوّل من قال به أرسطو خلال حديثه عن المحاكاة. غير أنّه كمصطلح تطوّر على يد الشّكلانيين الرّوس، و من تلاهم كـ تودوروف، وجاكوبسن، وريفاتير، وجيرار جنيت، ورولان بارت… وأهمّ كتاب في الباب ، كتاب ” الشِّعرية” لتزفيتان تودوروف، و التي تعني عنده كلّ ما يحقّق أدبية الأدب. يقول “عن الشّعر و النّثر يملكان نصيبًا مشتركًا هو الأدبية ” (1 ) و من المفاهيم العربية للشِّعرية يرى عبد السّلام المسدي، ألاّ فارق بين الشِّعرية و الجمالية في الكلام، بمعنى انَّ الكلام أدبي إذ يقول: ” إكماليةٌ تترصّد النّصّ من مِنظار لُغوي.” ( 2)
انطلاقًا من هذا، و استئناسًا بما ورد.. تُرى ما الذي يحقّق شعرية الق ق ج؟1ــ الشّعور بجمالية السّرد و حداثته، و الجمالية لا تتحقّق إلا بلغة فنّية، قصصية ، إيحائية ، تشيرُ و تلمّح، و لا تقرّر و تصرّح، بعيدًا عن الهَذيان و الاعتباطية (Aléatoire).تتّسم بانْسجام داخلي: نحوي/صرفي، و هرمونية اتّساق صوتي دلالي حتّى لا تنافر، و لا اختلاف، تحقيقًا للحقيقة التّخييلية المتقصدة. أمّا الحداثة، فلا مجال لكتابة (الق ق ج) على منوال القصّة القصيرة، أو أي نوع من السّرديات المتعارف عليها، أو النّصوص المعيارية، لأنّ (الق ق ج) قصّة أولاً، و ثانيا نمط حديث في الكتابة السّردية ، حقّق وجوده و مؤشرَه الأجناسي في إطار من التّخييل الشّاعري (La fiction poétique)..قد يكون في ذلك نوع من التّجاوز للبناءِ الأرسطي (بداية قمّة سقوط ) إلى نماذج أخرى مستحدثة. تحتّم شِعرية مختلفة منها:
1 ــ شعرية العنوان: إنّ العنوان له أهمية كبيرة في الأعمال الأدبية عامّة، و في (الق ق ج) بخاصّة، نظرًا لحجمها القصير، و شدّة تكثيفها اللّغوي..و لقد اهتمّ النقاد قديما و حديثا بأهمية العنوان تنظيرًا و نقدًا.. و لعلّ الأهمية العلمية بهذا الموضوع، ما نجده في كتابة ليو هوك المؤسّس الفعلي لعلم العنوان (Titrologie).كما كان لجرارجنيت دور هامّ ،في دراسة العتبات، و قد حدّد للعنوان وظائف خاصّة :”الوظيفة التعيينية ،و الوظيفة الوصفية و الوظيفة الايحائية و الوظيفة الاغرائية.” (3 )و لكن كثيرا من المبدعين لا يعون أهمية العنوان، و يأتون بما لا علاقة له بالنّص تخلّصًا من عِبء التَّفكير في الإعداد، و الصّياغة الملائمة ، التي ليس من السّهل تملّكها. و لو علموا أنّ شعرية العنوان باب لفهم و استيعاب النّص، و الاقبال عليه، لتجشَّموا عناء التّدبّر و البَحث..فشعرية العنوان كأوّل عتبات النّص، تقوم على سند نحوي : مركب اسمي، أو جملة فعلية ، أو شبه جملة، أو كلمة مفردة. فضلا عن السّند الصّرفي ، و البلاغي، و المعادل الرّمزي، و البنية اللّغوية ، و ما يَعتريها من حذف، و اضمار، و تقديم و تأخير، و الإيحاء التناصي، و مستوى الفاعلية الدّلالية : نفسية /اجتماعية، أوفلسفية /إنسانية .. و مدى ما يتضمّنه العنوان من قبول للتّأويل، و من إثارة و إغراء للمُتلقي.. لا شكّ أنّ كلّ هذا، أو بعضه، ممّا يُساعد على بلورة شعرية فنّية للنّص المُوازي للنّص الأصلي .
2 ــ إن شعرية (الق ق ج) لا تتحقّق بعيدًا عن نسق الأسلوبية المُتمثلة في:اللّفظ، و التّركيب و الدّلالة. فهذا ما يُحقّق دينامية السّرد.ــ فاللّفظ : ينبغي أن ينتقى بعناية ليكون لبنة فعّالة في بناء الفكرة. لا أن يكون نشازًا حذفه أحسن من إبقائه. ثمّ إنّ حجم النّص لا يطيق الزّيادة، و الألفاظ العاطلة، المُعطِّلة.. ــ أما التّركيب: فيستوجب مهارة و تقنية الكتابة، فالجمل قصيرة، مكثّفة ذات إيحاء و تلميح، و ليست بالجمل البريئة، لأنّها بنيويًا مشحونة بعميق الدّلالة، في بعدها الرّمزي، أو الأيقوني، أو الخرافي، أو الأسطوري، أو التّركيز على ما هو ذاتي جواني..ــ أما الدّلالة: في نسقها التّركيبي، و في مجال (الق ق ج)، ليست تقريرًا بشيء، أو معنى حقيقيًا مُباشرا (Dénotation) بل على العكس من ذلك، فالخرجة في (الق ق ج) ليست نهاية النّص. بل هي باب مشرَعة للتّأمل و التّخييل و التّأويل في مجال ارحب نسميه : ظلال الدّلالة. و هذا ما يُقوي شِعرية النّص، حين تلامس أفاقا تخييلية، و تمثلات، و تصورات رمزية، و أسطورية أو ثقافية…
3 ــ شعرية الايجاز: في كتابة (الق ق ج) يجد القاص نفسه مُحاطًا بمكونات الإيجاز، من تكثيفٍ لغوي ، و حذفِ، و إضمار، و تضمين، و رمز.. و هي عملية تتطلب مهارة كتابية، بلاغية لسانية .. إذ بأقل ما يمكن منَ الكلام تصاغ قصّة كاملة مُكتملة، بدون شططٍ أو زيادة لفظية، كاستجابة لقولة ( فيثاغورس): “لا تقل القليل بكلمات كثيرة، بلِ الكثيرَ بكلمات قليلة “
4 ــ شعرية المقابلة و المفارقة: إنّ تعميق الشّعور بالفعل الدرامي، و ما يقابله لدى المتلقي. أو الاحساس المثير بفعل المُفارقة، و ما تحدثه من رَجّة في تفكير المتلقي.. كلّ ذلك يكسب الحدثَ شعرية متميزة ، تخدم النّص القصصي كحجم متجانس، فيتّسم نسقيًا ببلاغتي الامتاع و الاقناع. و إنْ كانت المُقابلة و المفارقة ليستا حكرًا على (الق ق ج) ، بل هما خاصيتان في كلّ الأجناس الأدبية، بما في ذلك الشّعر. إلا أنّهما في (الق ق ج) يعتبران كسندٍ فنّي لا غنى عنه، لخلق نبض حيوي في مفاصل النّص القصصي، و إنّ إتقان بنائهما على الوجه الأكمل و الفنّي ما من شأنه أنْ يحقّق شعريتهما..
حقّا، إنّ (الق ق ج)، من الفنُون السّردية الصّعبة المتمنّعة.. لأنّها من حيث النّسق و الأسلوب القصصي ،تجسّد شكلا شعريا فنّيا. ( Forme poétique artistique ) و ليس كلّ الكتّاب يملكون هذا الحسّ الشّعري على مستوى اللّفظ و التّركيب، لذا تتفاوت النّصوص إبداعا ، و مهارة ، و ذوقًا، و ذلك لتفاوت إدراك نَهج الأسْلبَة، و علم السّرد، و أنْساق الخِطاب .. و مع ذلك يَنبغي التّنبيه على أن تكونَ الشِّعرية في خدمَة فكرة النّص، لا أن تكون عِبئًا على المسار السّردي. أو مهيمنة ولافتة تغيّبُ الدّلالة، و تُطمس علاقة المعنى بالتّركيب. أقصد بذلك، أن تكون شِعرية عفوية، في إطار تقنية القص ، و احترام قواعد التّكوين، بعيدة عن التّقعُر اللّفظي، و التّصنّع و التّكلّف الأسلوبي..
* مسلك ميمون *
[1] ــ كمال أبو ديب: في الشعرية. مؤسسة الأبحاث العربية بيروت ،ط/1 ، 1987 ،ص/17
[2] ــ عبد السلام المسدي، المصطلح النقدي، مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله للنشر و التوزيع تونس
ط/3 ،1994 ص/115
[3]ــ عتبات جرار جنيت ، الدار العربية للعلوم منشورات الاختلاف، الجزائر،2008، ص/65