لقد شاع بين منظري و نقاد (*) و مبدعي (ق ق ج) مصطلح التقفيلة أو القفلة (Résolution) بمعنى أن العقدة القصصية بلغت منتهاها، فينبغي الحل المناسب. وهذا ما كانت عليه معظم القصص الكلاسيكية. سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد. إذْ كان القاص يفرض الحل الذي يراه. و أحيانا يأتي الحل و فيه ما فيه من التكلف والتصنّع. الشيء الذي لا يوافق مجريات الأمور في الواقع..بل لا يكون مقبولا حتى من وجهة النظر الغرائبية. و أحيانا ما تشي و توحي بنية النص الكلاسيكي بالنهاية، التي تنتهي إليها القصة.. فلا صدمة، و لا مفاجأة ، و لا دهشة، و لا خرقا لأفق توقع القارئ…
و لكن ( ق ق ج ) على خلاف ذلك، فهي بدون قفلة، و لا يحق أن تكون لها قفلة. أو إقفال . و بدون حل مفروض قسرا من القاص. فهذا أسلوب عفا عنه الزّمن، و أصبح متجاوزًا لا يُعتد به. لذا وجب التنبه لدقّة المصطلح، تجنبا للخلط، و ضمانا لتمام الفائدة .. و من تمَّ كان علم المصطلح (Terminologie) حريصا على الدّقة،و الفاعلية. ” القفلة ” مصطلح قديم، عُرف في الشّعر، و الموشحات..بأنواعها..و امتد إلى الشعر الحديث و قصيدة النثر..ثم تبنته الموسيقى، لأن الفصل بين الجمل الموسيقية، و السلالم الموسيقية كان يفترض قفلة بمعنى فاصلة، حتى لا يكون هناك خلط بين السلالم الموسيقية المختلفة ( جواب، إشارة تحويل ،إيقاع باريتون ،باس ،باس باريتون ،حدة ،دليل مقام ، سرعة إيقاع ، سلم خماسي، سلم صغير، سلم كبير سلم كروماتيكي ، سوبرانو مقياس الإيقاع..) وهذا يستوجب قفلة/ فاصلة.
و منها انتقل المصطلح إلى السرديات و بخاصّة الرّواية الكلاسيكية التي تنتهي بنهاية يفرضها السّارد في أغلب الأحيان، ثمّ انتقل إلى القصّة القصيرة الكلاسيكية بحكم نهايتها المفروضة في الغالب ..و حين جاءت القصّة القصيرة جدًا. لم يجتهد منظروها الأوائل، لأنّهم وجدوا المصطلح موجودا و متداولا. فجعلوا الجملة الأخيرة ” قفلة ” و كأنّ القصّة القصيرة جدا تنتهي نهاية كلاسيكية. و هذا لا يجوز. بل يفقدها أحد خصائصها البنيوية.
و هو أيضا لا يجوز أسلوبيا في الرواية و القصة القصيرة الحديثة .لأنّ في ذلك عدم احترام ذكاء و فطنة المتلقي، و اعتباره ـ فقط ـ مستهلكا لا مُنتجا.. و لأنّ الكتابة السّردية تطورت كثيرا عمّا كانت عليه سابقا.. فأصبح الأمر تلميحا و إيحاء لفتح مجال التّأويل، و التّخييل.. و من تمَّ مصطلح ( قفلة ) ليس دقيقا، و لا مناسبا للقصة القصيرة جدًا. و أصلح منه و أدق مصطلح ” الخرجة ” ذلك أنّ هذا الفن الجميل الحديث ال ( ق ق ج) لا يملك نهاية لدى القاص.. بل لا نهاية محتملة له، لأنّه قنبلة تأويلية انشطارية تصيب أهدافا عدّة في طلقة واحدة.. فكلّ متلقٍ تحدث في مِخياله أثرا خاصا، قد يختلف عن كافة المصابين بشظايا الطلقة…الشيء الذي يُبهر القاص/ المبدع نفسه. فيتساءل بينه و بين نفسه: ” هل أردت كل هذا ؟!” حقا لم يرد و لم يقصد كلّ هذا التّأويل المتنوع المختلف. و لربما كان هدفه محددا دون الاعلان عنه. و لكن أسلوب النص، و إيحاء الخرجة المشرعة، كباب مفتوح على مصرعيه، مكَّنت المتلقين من لذّة و مُتعة التّأويل و التّخييل .. و ذاك حتماً دور الخرجة التي لا يتقنها ـ مع الأسف ـ الجميع، لعدم فهمها، و استيعابها.. و تقدير دورها. و لا ينفرد بتشكيلها و إعدادها إلا القليل.. كالذي نجده في قصص أحمد بوزفور مثلا: فتحت عنوان ” بكاء ” كتب القاص الكبير أحمد بوزفور نصوصا في البكاء منها نص قصصي اوسمه برقم (5) من مجموعته المتميزة :” نافذة على الدّاخل” فلنتأمل الخرجه:
” كانت في المطبخ تهئ العشاء و هي تتفرج على مسلسل في التلفزيون، بجانبها كان صندوق القمامة يكاد يمتلئ من أوراق الكلينيكس التي كانت تمسح بها دموعها. لماذا كانت تبكي؟ لأنّها تقشر البصل؟ لأنها تذكرت أمّها المتوفاة قبل شَهرين؟ لتأثرها بأحداث المسلسل التلفزيوني؟ أو لأنَّ زوجها لم يعد إلى البيت منذ أسبوع؟ ربَّما فقط لأنَّها امرأة بكَّاءة، مُدمنة بكاء، و إذا لم تبكي فالله يعلم ما سيحدث لها. من فوق القصّة كنت أنا السّارد أرقبُها، ماذا أفعل لها؟ ماذا أفعل بها ؟ جلست قربها، و أجهشتُ بالبكاء. نظرتْ إلي و ابتسمت. مسحت دموعي بكْلينيكْسيها، علَّقت ساخرة : ( سُرّادُ اليوم .. أنتم تستحقون الشفقة )
1 ــ لو تأملنا الخرجة فهي غير منتظرة . صادمة ، و مُفاجئة.
2 ــ و لو أمعنا النّظر لوجدناها قابلة للتّحميل الدّلالي, و التّشظي التّأويلي..
3 ــ حقا لم تجب عن الأسئلة المطروحة في النّص، و التي وُضعت بدهاء و مكر فنّي و لكنّها انفتحت على أسئلة أخرى أعمق و أكبر، قابلة للتّخييل و التّأمّل.
4 ــ الخرجة هنا لم تضع نهاية. و إنّما من خلال دينامية السّرد السّابق، و تداخله الحكائي بمستوى تقني موضوعاتي .. نفت و استبعَدت المُحتمل (vraissemblable) : ( سرَّادُ اليوم.. أنتم تستحقون الشَّفقة ). و بذلك انفتحت على المتخيل في ذهن المتلقي، محدثة أثرا كأثر الاستحمام بماء بارد، (fait l’effet d’une douche froide ) على حدِّ تعبير المثل الفرنسي, لما تتضمنته من سخرية مُبطّنة، و انتقاد غير مباشر.
هكذا يتّضح أنّ ” الخرجة ” لها أهمية في البناء القصصي، و أنّها ليس للإخبار أو فرض النّهاية/ الحل، أو فكِّ اشكال المُفارقة بشكل مباشر حِفاظا على البنية النّهائية.. و إنّما وُضعت و ما سبقها .. لِتقحمَ المُتلقي في الإعداد و المشاركة في كتابة النّص، و ذلك بما توحيه له، و ما تحفّزه على اختياره كتأويل شخصي .. و في ذلك قال تيري ايجلتون (Terry Eagleton) في كتابه ” نظرية الأدب “: (القراءة سيرورة اختيار لما يفعله النص بك و ما تفعله به .)
*مسلك ميمون*
(*) نذكر من النقاد الذين تعاملوا مع القفلة: أحمد جاسم الحسين في كتابه(القصة القصيرة جدا)، ويوسف الحطيني في كتابه (القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق)، و جاسم خلف إلياس في كتابه (شعرية القصة القصيرة جدا) ، وجميل حمداوي في كتابيه : (من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا- المقاربة الميكروسردية)، و كتاب :(مقومات القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري مقاربة ميكروسردية…)