الحوار في القصّة القصيرة جدًا
إنّ من العناصر الهامّة في القصّة : الحوار. ( le dialogue) فإنْ كنّا نجده في القصّة القصيرة، و في الرّواية.. فإنّه في القصّة القصيرة جدًا يبدو مُحتشمًا. لقلّة فهمٍ تُراود بعضَ مبدعي هذا الجنس السّردي الحديث. فالأغلبية اعتمدت صورتَه الضّئيلة من ثلاثة إلى خمسة أَسْطر. فلم تجدْ ـ حسبَ اعتقادها ـ مكانًا للحوار، و بخاصّة الكلّ يهدفُ للتَّكثيف اللّغوي، و الإيجاز، و محاولةُ اجتنابِ الفائضِ اللَّفظي…
و هذا التّصور، جعل الكثير يضحون بالحوار، و يستغنون عنه، و قد تأتي مجموعة كاملة ليس فيها نص يَعتمد الحوار. و لذلك أسباب خاطئة تعوَّدها البعض و منها :
ــ الحوار يجعل النّص مُهلهلا، سهل الفهم.
ــ حجم (ق ق ج) لا يَسمح بالأسلوب الحِواري.
ــ كتابة الحوار في مَجال ضيِّق يجعله حوارا مُفتعلا.
ــ الحوار جدل، و أخذ و عطاء، و هذا مجاله القصّة القصيرة و الرّواية..
كلّ هذا و غيره جعل العزوف عن الحوار حالة تسري على نصوص كثيرة. و بخاصّة لدى من فهموا كلمة ( جدا) فهما قاصرا، و لم يَستوعبوا دورَ الحوار في مجال ( ق ق ج).
ــ الحوار دعم للبناء السّردي، و طريقة بيانية (Graphiquement)
ــ الحوار يخلق التّنوع الأسلوبي من أجل عملية فنّية بنّاءة (constructive)
ــ الحوار يكشف نفسية الشّخصية، والشّخصية المُؤولة ( Interprétant)
ــ الحوار يحقق البعد الواقعي للمُفارقة ( La pertrée de l’anachronie)
ــ الحوار يدعم رهان التّواصل ( L’enjeu de communication)
و للحوار وظائف أخرى، على غاية من الأهمية في المجال القصصي. لهذا فإنَّ العزوف عن توظيفه في (ق ق ج) مضيعة لأداة ناجعة في البناء الحكائي، أداة هي من الواقع و إليه.
و المسألة عندي ليست بالسّهلة، فالحوار تركيبة فنّية قد تكون في المتناول في القصة القصيرة و الرواية لسعة المجال .و كثرة الأشخاص و الأماكن و الأحداث .. و لكنّها دقيقة و حاسمة في (ق ق ج) إذ يُصبح لكلّ كلمة دورها الذي لا يُعوض في خدمة فكرة النّص. و تأثيرها الذي لا يُستنفد إذا لامس مشاعر المُتلقي. و في ذلك يقول (تشارلس مورجان) : (إنّ الحوار تقطيرٌ لا تَقرير) وأنّه ( وسيلة شكلية للنّفاذ إلى جوهر الأشياء).(*)
حقا ، قرأت نصوصا قصيرة جدًا. أساء أصحابُها، فوظفوا الحوار توظيفا مُبتذلا فلم تَرْقَ نصوصهم إلى درجة المُبتغى. بل جاءت كتقارير موجزة ليس إلا .
بالمقابل صادف أنْ قرأت نصوصا، برع أصحابُها في حسن توظيف الحوار، بل جاءت نصوص البعض حوارية بالكامل، فلم يفت ذلك من فنّيتها شيئا، بل منحها نكهة خاصّة مُعبرة في إطار نص قصصي هادف ، ينزع للتَّمثيل و العَرض ( Représentation) و من ذلك نص ” الدّودة ” للقاص الكبير أحمد بوزفور من مجموعته :” نافذة على الدّاخل “
” ــ ما اسمك أيّتها الدودة؟
ــ اسمي ماجدا.
ــ مرحبا ماجدا ماذا أستطيع أن أفعل من أجلك ؟
ــ اعطيني قلبك. أريد أن أقضمه على مهلي طوال هذا الشّتاء.
ــ جئت متأخرة يا صديقتي، قلبي أخذته زهرة منذ زمان.
ــ إذا سآخذ دماغك.
ــ خذيه يا عزيزني، إنّه محجوز لك أنت بالذَّات. “
وُفِق القاص عن طريق الحوار و الحوار فقط. أن يخلق المفارقة الفارقة بين قلب يهيم بالجمال / زهرة، فيستبد به الجمال و الرومانسية و الخيال منذ زمان.
و بين دماغ مُعطل محجوز، لا يملك أن يعطي و لا أن يُنتج، فأصبح من حظ التلف و التعفن تقضمه دودة الفناء. و هذا النّوع يسمى الحوار التناوبي، إذ يختفي السّارد تماما، و يصبح المجال خالصا للمتحاورين، بدون تقديم أو استئناف أو إعلان عن نهاية ما.
و للقاص أحمد بوزفور نص آخر مشابه من نفس المجموعة تحت عنوان: ” هاب هاب “
نص حواري، تجرد من السّرد، و لكن حافظ على فنّيته القصصية التّأويلية في إطار ما يسمى حكي الأقوال ( Récit de paroles)
و في نصٍ سَردي حواري آخر، كتب القاص البارع حنون مجيد من العراق نصا تحت عنوان ” ثم إنها..”
سألتُها:
ــ ما هذه اللّعبة التي بين يديك حبيبتي؟
ــ هي لعبة لإزالة التّوتر جدي.
صعقتُ إذ يصدر هذا من طفلة في السّادسة ليس غير.
ــ والله يا عزيزتي،عشتُ مع أبويّ خمسين أو ستين، فما سمعتُ من أي منهما، مثل هذا الذي يزلزل الجبال.
تطلعت في وجهي، وما تزال البراءة تملأ وجهها وقالت:
ــ ثم إنّها من صنع صيني جدّو!”
الحوار الذي طغا على هذا النص، يُسمّى الحوار السّردي ، لوجود السّارد ، فرغم قصره ، استطاع أن يجسد روح التفاوت، و الاختلاف بين جيلين مُتباعدين ، جيل الجد ، و جيل الحفيدة، من خلال لعبة. و لكن الأهم في ذلك لغة الحوار الوظيفية ، من الكلمة (المونيم)، إلى المقطع الصّرفي (المورفيم)، إلى الصَّوت (الفونيم).. و حدة متجانسة في إطار حكي قصير شخصي، حقق من خلال الحوار: الرّؤية السّردية فضلا عن الصّيغة و وجهة النّظر..
و هناك نوع آخر من الحوار ، و هو الحوار الدّاخلي/ المنولوغ ، و إن كان قليل الاستعمال في (ق ق ج) ،على عكس ما هو عليه في القصّة القصيرة و الرّواية. . كالذي نجده في نص ‘جدال ” للقاص المتميز د شريف عابدين من مصر من خلال مجموعته : ” تلك الأشياء”
” ستبتسم ، و أكاد أخمن ما وراءها.. و حين تستدير مودعة، سأنجذب إلى النافذة.. و في اللّحظة التي تلتفت خلفها و ترمقني ملوحة، بالنّظرة الموجعة.. سأسارع بإسدال ستائري البيضاء. ثمّ أنهار فوق المقعد، مؤكدًا لنفسي.. أنّها لم ترني ! “
عاشق في حوار داخلي، يحاور نفسه، و في الحوار تنكشف نفسيته التي تلاعب بها العشق، فلا تدري أتقدم أم تتراجع، أم تبقى بعيدًا تخادع نفسها بنفسها. يُكبّلها الخوف، و يمنعُها الحَياء .. فتعيش الحيرة و الاضطراب و العبث.. لا تملك الجرأة فتفضي بما يَعتلجُ بداخلها من مشاعر جياشة…
هكذا تتبين لنا أهمية الحوار في صوره الثلاثة : التناوبي، و السّردي ، و الدّاخلي، تلك الأهمية الفنية التي تشكل البنية السّردية فتعطيها بُعدها الحيوي و الواقعي…شريطة أن يكون الحوار مقتضبًا، بليغًا ، لمّاحًا يخدم فكرة النّص..
*مسلك ميمون *
(*) ــ 1)) الكاتب و عالمه ( ترجمة د. شكرى محمد عياد) الألف كتاب ، العدد 5.. القاهرة 1964 م، ص 284 .