فوضى الكتابة

فوضى الكتابة..

الابداع جميل و رائع في جميع المجالات.. و لكن ، و ما أصعب هذه و ” لكن ” .حين يتعلق الأمر بالإبداع و هو قليل حدا. بينما الابداع المرضي، فإنّه يكتسح الساحة الثقافية و الأدبية في الوطن العربي. لم نعد نقرأ قصّة، و لا شعرا، و لا رواية…اختلط الحابل بالنّابل، و ضاعت حقيقة الفن، و تسلق السلم المجيد و المسيء، و الذي لا مكانة له. فكثر القاصون، و الشعراء و الروائيون.. بشكل لافت..و في الغالب الأعم ،لا فائدة غيرالغثاء، و النمطية و الإجترار و التكرار..

و الأغلبية تحاول التقليد، لا الدراسة و البحث، بغية التميز . فكلما نعق ناعق بترّهة، و جد من يلبي النداء، و من يشجع و يصفق بحرارة. خذ مثلا ما يسمى (Haïku ــ الهايكو) تراث يباني أصيل، له قواعده و نظمه، لا يخرج عنها و لا يكتب بمعزل عنها.. يأتي من هم عندنا يكتبون بضع جمل متناثر ، و يسمونها بـ ( الهايكو) بل يصدرون دواوين، و يقيمون مهرجانات خاصة بالهايكو..

و الله لو لا حِلمُ وزارة الثقافة اليبانية لشكتهم واحدا واحدا..لارتمائهم على تراث وطنها دون علم و لا تبصر. و الغريب العجيب، حين تجادلهم ، يقولون منافحين :” .. هذا هايكو عربي.” عذر أقبح من الزلة ! أما كان لهم أن يسموا كتابتهم المتهافتة أي اسم آخر؟! أم لا بد من الاستلاب ، و التبعية ، و الاستجابة اللا معقولة؟

نفس الشيء نقوله عن الشعر. أعترف أنني لم أعد أقرأ شعرا في كل ما أقرأ..عشنا زمنا كان عدد الشعراء الفطاحل يعدون على رؤوس الأصابع. و كان الشعر، أما الآن كل من حمل قلما أو امتلك حاسوبا أصبح شاعرا، و بالقوة ، لا بالإبداع…فمجمل ما أقرأ ــ لمن يحسبون أنفسهم شعراء و شاعرات ــ هو كلام نثري عادي جدا، و في أحسن الأحوال يكون كلاما نثريا فنيا ليس إلا… و لكن لا صلة له بالشعر إطلاقا. سواء القديم أو الحديث. .

فأين غاب الشعر؟! و لماذا سكت الشعراء الحقيقيون؟! و لماذا تركوا الساحة فارغة مؤاتيه لهذه الكتابات الفقاعية الهوائية.. و لماذ بالضبط غاب النقد و النقاد..؟ بل أصبح المثقف الواعي منسحبا ( l’intellectuel dégagé) الكل مساهم في هذه الفوضى. إن بكتابته المرضية، أو عزوفه و صمته و انسحابه..

و نفس الشيء يقال عن الرواية. كل من كتب تقريرا عن واقعة عاشها ،أو عاشها غيره، أو رويت له. يدبجها دبجا، و يعرضها للنشر باسم ” رواية ” لا علم له بعلم السرد، و نظرياته: من بنية دلالية، و فعل و انثيال، و شكل سردي، و الطابع الاستعاري، و التيمات المتقابلة، و الملمح الاستبطاني، و بنية الشخصية، و التزمين و التفضيئ الواقعي و السّيميائي الانزياحي، و تلاؤم المعنى و المبنى، و معرفة الايتيمولوجيا:( معنى المعنى) فضلا عن أدبية الخطاب.. فكيف تكتب الرواية في غياب مقوماتها و خصائصها ؟ أليس هذا بالفوضى التي يراد بها تشكيل مقاربة لا عقلانية ( Approche irrationnelle) ؟

و نفس الشيء أصادفه يوميا في القصة القصيرة جدا. و ليت بعض الكتاب لا ينسبون كتابتهم إليها.كأن ينعتوا نصوصهم بومضات ، أو لمحات …و يتركون للمتلقي حرية فهمها و تأطيرها و وصفها كما يشاء .. فبدل ذلك،يتعمدون اكساب كتابتهم اللا قصصية شرعية الوجود بالقوة..لسهولة النشر.. فتراه يضع أعلى النص ( ق ق ج) بل البعض يتجرأ في طبع مجموعة نصوص و على الغلاف ” قصص قصيرة جدا” ..فلا النقد يعترض، و لا المتلقي المثقف يبدي رأيا أو تساؤلا ..رغم أن النص شتان بينه و بين القص. لأنه خارج نطاق الحكي (Hétérodiégétique ) و يأتي الذي لا هو ناقد، و لا مثقف قصصي.. فيبارك العمل، و يشجع صاحبه، و ينعت النص بالعمل الفني الإبداعي المتميز..

هكذا استفحلت الفوضى في الكتابة، فاستبيح الإبداع، و انحسرت الرّؤية الفنّية، و ضاق مجال الابتكار.. فأصبح اليوم السّعيد بالنسبة لي، هو ذاك اليوم الذي أصادف فيه عملا ابداعيا ينسيني جل ما قرأت في الأيام العقيمة الخالية.

*مسـلك ميمون *ا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.