من موت المؤلف إلى موت الراوي
سعيد يقطين*
كان لموت المؤلف في مقالة رولان بارث (1968)، ومقالة ميشيل فوكو (1969) شهرة كبيرة جدا، إلى درجة أنهما صارتا متداولتين كثيرا في مختلف الدراسات والأبحاث، خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. فهمت قول بارث في الكتابات العربية، وبعض الكتابات المناوئة للبنيوية الفرنسية، على أنها إلغاء للمؤلف، وإعلان عن موت الإنسان، وموت التاريخ، وهلم جرا. وكانت ثمة مواقف ضد البنيوية.
لقد بنى بارث قولته هذه على أساس موقفه الرافض للنقد، الذي كان سائدا في الدراسات الأدبية الغربية، والذي ظل في فرنسا أسير الرؤية التقليدية، التي كان كل من سانت بيف، وغوستاف لانسون عموديها الأساسيين. في رأي هذين الناقدين لفهم الأعمال الأدبية، والحكم عليها لا بد من إعطاء الأهمية الكبرى للمؤلف. ومن ثمة كان التركيز على جمع البيانات المختلفة المتصلة بحياة المؤلف، والانطلاق منها في قراءة النص الأدبي. هذا التصور وليد التأثر الكبير في العلوم الاجتماعية، الذي سنجد له امتدادا في الدراسات الاجتماعية والنفسية للأدب، خلال النصف الأول من القرن العشرين.
إن الموقف من المؤلف خلال المرحلة البنيوية تولد لضرورات نظرية وإجرائية ومنهجية لتجديد الدراسة الأدبية، بعد أن بدا أن قراءة النص الأدبي انطلاقا من المؤلف، لم يؤد إلى نتائج مقبولة، وقد انتهى إلى الطريق المسدود، لذلك تم تحريف مجال السؤال من: لماذا يكتب المؤلف؟ إلى: ماذا يكتب؟ إن الأجوبة المقدمة عن السؤال الأول تؤدي إلى كونه تعبيرا عن حالات نفسية، يفرغها أو يُصعِّدها المؤلف من خلال علمية التأليف، أو تعبيرا عن موقف فكري ينافح عنه المؤلف، وهو ينخرط في المجتمع، منحازا إلى طرف من أطراف الصراع. وما شابه هذا من الأجوبة التي تربط التأليف الأدبي بسياق تاريخي محدد، وتقيد دلالة النص بذلك، مغلقة بذلك إمكانية قراءة النص قراءات مختلفة، في عصور لا علاقة لها بالزمن الذي ظهرت فيه. ومن بين الأسئلة المهمة التي طرحها بارث في خصوص كيفية فهمنا لمقاصد المؤلف من وراء تأليفه، يجيب بأن ذلك صعب جدا. والأجوبة التي قدمها النقد التقليدي باتت غير مقنعة. لذلك كان الانتقال إلى سؤال: ماذا يكتب المؤلف؟ مدخلا جديدا للانتقال من المؤلف إلى النص الأدبي في ذاته. وكان هذا مشروع البنيوية في علاقتها بالإبداع الأدبي.
أهم ما أنجز خلال المرحلة البنيوية في دراسة الأدب، كان متعلقا بالسرد، بعد أن فرضت الرواية نفسها، نوعا سرديا جديدا منذ ظهورها. وكان لتغيير مسار البحث من المؤلف إلى النص، أن تم «تغييب» المؤلف، وليس لذلك من معنى سوى «تأجيل» التفكير فيه الآن، لأنه عنصر مهم في إنتاج النص السردي. وكان من نتائج هذا التغييب، أو التأجيل، أن طرح السؤال المركزي الجديد، وهو: من يحكي الرواية؟ أو من هو الذي يتكلم فيها؟ وكان ثمة بروز مصطلح «الراوي».
صار مصطلح الراوي مركزيا في الدراسات السردية المختلفة، خلال المرحلة البنيوية. وكان للسرديات دور كبير في أجرأة هذا المصطلح، وتعميق النظر فيه، وتقديم مختلف صوره وأشكاله. وفي كتاب جيرار جنيت حول الخطاب السردي (1972) نجد نظرية متكاملة كان لها تأثير كبير في مختلف التحليلات السردية، سواء تبنتها، أو عملت على مناقشتها وتطويرها. لكن النقاش المركزي الذي كان يتعلق بمصطلح الراوي، إلى جانب علاقاته بالشخصيات، وبالمستويات السردية، تَركَّز، بصورة خاصة حول ثنائية السرد بضمير المتكلم، أو بضمير الغائب. وبرز من ثمة اتجاهان تكرسا في الحقبة التي صارت تعرف في تاريخ السرديات بـ»السرديات ما بعد الكلاسيكية»، حيث نجد أولهما، وهو الذي يسير وفق ما رسمته السرديات الكلاسيكية، ومن يسير على نهجها من الباحثين الجدد في السرديات، يؤكد أنه متى وجد عمل سردي فهناك راو، كيفما كان موقعه من السرد، أو الصورة التي يتخذها، وبغض النظر عن كون السرد جاء بضمير المتكلم، أو بضمير الغائب. وهذا هو رأي أغلبية المشتغلين في السرديات الكلاسيكية، وما بعدها.
أما الاتجاه الثاني، فيؤكد أن الراوي لا يوجد إلا في السرد بضمير المتكلم. أما في السرد بضمير الغائب فلا وجود له. وإذا كانت بذور هذا التصور عند آن بنفيلد (1982)، فإن سيلفي باترون التي تبنت هذا التصور، وباتت تدافع عنه باستماتة في مختلف كتاباتها، بدءا من كتابيها عن الراوي، سواء في: «الراوي: مدخل إلى النظرية السردية» (2009)، أو إعادة طبعه بعنوان جديد: «الراوي: قضية النظرية السردية» (2016)، مع إضافة فصل جديد، أو في كتابها الذي أعطته عنوان: «موت الراوي ومقالات أخرى» (2015) تسعى إلى الهجوم على السرديات الكلاسيكية (خاصة جيرار جنيت) هجوما عنيفا، وفي الوقت نفسه، الدفاع عن تصور سردي مختلف عن السرديات، وإن كانت تدرجه في نطاق السرديات ما بعد الكلاسيكية.
هل موت الراوي مثل موت المؤلف؟ لقد جدد «موت» المؤلف الإبداع السردي، وولد جهازا نظريا متكاملا. وصارت العودة إليه بعد التأجيل طبيعية وملائمة، فهل يتأتى ذلك لموت الراوي؟
*كاتب مغربي