ترجمة خالد الريسوني
لخوسيه ماريا ميرينو مكانةٌ خاصّة على الساحة الأدبية الإسبانية، ليس فقط كواحدٍ من أبرز الكتّاب والشعراء المعاصرين في بلده، بل أيضاً كمعلّمٍ متفرّد في كتابة القصّة القصيرة والقصيرة جدّاً في لغة ثرفانتس. مسيرته الأدبية الطويلة جلبت له التتويج بـ”بالجائزة الوطنية للآداب الإسبانية” في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وذلك اعترافاً “بعمله المتقن والمتميّز”، وبـ”الذكاء الذي يكشف عنه في تأملاته النظرية حول المتخيل السردي”، بحسب بيان لجنة التحكيم، التي رأت فيه “مثالاً ومرجعاً للأجيال المتعاقبة”.
وُلد ميرينو في لاكورونيا عام 1941، وهو يعيش اليوم في مدريد. شغل العديد من المناصب في مؤسّسات ثقافية دولية وأوروبية، مثل “اليونسكو”، كما أنه عضو منذ 2008 في “الأكاديمية المَلكيّة للّغة الإسبانية”. أصدر عام 1972 مجموعته الشعرية الأولى، “مكان في طريفة”، وأتبعها في العام التالي بمجموعةٍ أُخرى: “عيد ميلاد بعيداً عن البيت”، قبل أن يُصدر، عام 1976، رواية “حكاية أندريس شوث” التي فازت بجائزة “الرواية والمحكيات” في العام نفسه. ومنذ ذلك الحين صار يناوب النشر بين الرواية ومجاميع القصة القصيرة والشعر وأدب الفتيان والشباب، حائزاً العديد من الجوائز في بلده، مثل “جائزة النقّاد” عام 1985 عن روايته “الضفّة المظلمة”، و”الجائزة الوطنية لأدب الأطفال والشباب” عام 1993 عن “أنا لست كِتاباً”، و”جائزة تورينتي باييستير” عن “مكان بلا ذنب” (2006)، و”جائزة النقّاد قلشتالة وليون” في 2013 عن روايته “نهر عدن” (2012)، وهي الرواية التي حصدت أيضاً “الجائزة الوطنية للسرد” في العام نفسه.
واحد من معلّمي القصّة القصيرة جدّاً في اللغة الإسبانية
يُحسب لخوسيه ماريا ميرينو تطويره فنّ القصّة القصيرة جدّاً في إسبانيا، جاعلاً منه مساحةً تقع على الحدود بين نقد الواقع الاجتماعي والمتخيَّل السردي، بين البحث اللغوي والبلاغي والإبداع الخالص، بين الواقع والاستعارة. وقد سبق للكاتب أن أشار إلى أنّ البحث عن هوية إبداعية تجمع بين السحري واليومي، لا يكون إلّا بخلق أشكال جديدة من السرد. سردٌ لا يكتفي الكاتب بالاشتغال فيه مؤلّفاً، بل وكذلك منظّراً، إذ إنّه أحد الكتّاب الإسبان القلائل، على الأقل ضمن جيله، الذين خاضوا التنظير للقصّة القصيرة جدّاً. يقول عنها: “هو نشوةٌ مبهِجة، هذا المسارُ في البحث عن هذا الكائن، في تخيّله، في تحديد اسمه وهويّته: ‘قصّة قصيرة جدّاً’، أو ‘سرد مكثّف’، أو لِمَ لا ‘حكاية مصغّرة’؟ يستمرّ البحث لإيجاد اسم لهذا الكائن، مع ما في ذلك من إحساسٍ نادرٍ باكتشافِ حقيقةِ قارَّةٍ جديدةٍ (…) من نصوص أدبية موجزة للغاية، نابضة بخيال حقيقي، تضيء بكثافتها الافتتانَ السرديّ”.
قدّم صياغة معاصرة من ترجمة إسبانية قديمة لـ”كليلة ودمنة”
خوسيه ماريا ميرينو ــ الذي احتفت به الثقافة العربية بترجمة صالح علماني لبعض أعماله الروائية مثل “الضفّة المظلمة” و”رؤى لوكريثيا” ــ قام هو أيضاً بتحرير ترجمة إسبانية جديدة لـ”كليلة ودمنة” لعبد الله بن المقفّع، انطلاقاً من ترجمة قديمة، ليكون بذلك أحد الذين ساهموا في تجديد الترجمات الإسبانية القديمة للنصوص الكلاسيكية المُؤسِّسَة في ثقافتنا العربية. أعمالٌ يعود أوّلها إلى إنجازات “مدرسة طليطلة للمترجمين” في عهد ألفونسو العاشر، خلال القرن الثاني عشر، وذلك في إشارة واضحة إلى المشترك الثقافي بين ضفّتي المتوسط، والعلاقة المتينة التي ربطت الثقافة والأدب في إسبانيا بموروثهما الأدبي الأندلسي والعربي.
هنا ترجمةٌ لقصص قصيرة جدّاً منتقاة من أعمال خوسيه ماريا ميرينو.
نهاية غير سعيدة
التقى أقصوصٌ مكثّفٌ جدّاً مع أقصوصة مكثّفة جدّاً فوق طاولة مستديرة، فهربا معاً. لكنّ أستاذاً تمكّن من الإمساك بهما مرّة أُخرى وأعادهما إلى الأنطولوجيا من جديد. وضعها هيَ في قفص السرد المكثّف جدّاً، وهو في قفص الأقاصيص القصيرة جدّاً. ولم يعاودا أبداً لقاءهما مرّة أخرى.
■
وباء
خلال مدّة قصيرة امتلأ البيت بالقصص الصغيرة جدّاً. كانت تتضاعف بشكل لا ينقطع، وصارت مؤذية جدّاً في المكتبة. لا الفخاخ ولا السموم استطاعت أن تُبيدها، وكان على صاحب البيت أن ينتقل إلى مسكن آخر. الآن يعتقد أن كتبه بمأمن من أيّ سوء، لا يعرف أنّ آلاف القصص الصغيرة جدّاً تحيط بالبيت وأنه لن يكون هناك شيء قادر على تجنُّب الغزو.
■
أحلام
16 يناير. سافرتَ إلى تلك المدينة لتقديم رواية صديق حصل على جائزة أدبية. تستريح على سرير الفندق قبل أن تبدأ الفعالية. تسمع ضجيجاً، مزعجاً للغاية، من جهازِ تكييف الهواء. رغم أنك سافرت وحدك، يبدو أن ثمّة شخصاً ما في الحمام، وأنتَ تقبلُ ذلك الحضور مع اللامبالاة تجاه الأحداث اللامألوفة الخاصّة بالأحلام. الفعالية ستنعقد في السابعة والنصف مساءً، ولكنْ بسبب ذلك التثاقل والبطء الذي لا يُقهر، والشائع أيضاً في الأحلام، فقد تأخّرتَ. خرجتَ أخيراً من الفندق، ثمّة كثير من الناس في الشارع، تبحث عن المكان، الساعة بلغت الثامنة، ثم التاسعة، ولم تستطع العثور عليه.
أنتَ تُدرك أنك تائهٌ، تحسُّ بالضيق، وفي تلك اللحظة تستيقظ. تستيقظ في الظلام، وتخرج من الغرفة، وتبحث متلمِّساً طاولتك في مكتبك، ببيتك. تُشعل الضوء وأنت لا تزال نصف نائم، تدوِّنُ ذلك الحلم الذي أزعجك بشدّة. تعود إلى الفراش آملاً أن تواصلَ الحلم نفسَه الذي، في حدود قدرته على إحداث قلقٍ لديكَ، كانت له شدّةٌ ويقين. أنت في سرير الفندق، لكنْ رغم أنك سافرت وحدك، إلّا أنك تُلاحظ أن ثمّة شخصاً آخر في السرير. تمدّ يدك وتشعر بجسدٍ. تُشعل الضوء. ثمة في السرير إلى جانبك رجلٌ عجوز، يبدو من خلال مظهره أنه متشرّد، شحّاذ، ويبدو أنه ميت. تخرج من الغرفة. تدخل مكتبك في بيتك للاتّصال بالشرطة. دفتر التدوينات الذي سجّلت فيه الحلم ليس على الطاولة، تُدرك أن كل شيء كان مجرّد حلم. تعود إلى الفراش حيث لا يوجد أحد. تسمع جهاز تكييف الهواء السعيد للفندق. يقترب الوقت الذي يجب أن تحضر فيه حفل تقديم الرواية الحاصلة على الجائزة.
■
النملة على الأسفلت
أغسطس، الرابعة عصراً. الحرارة بلغت أربعين درجة تقريباً. ثمة أشغال في الشارع قيد الإنجاز، حفرة جانبية عميقة. الرافعة الضخمة تحرّك التراب والأنقاض. في عزلة مبهرة، ينتظر رجلٌ الحافلة. قد وضع وشاحاً على رأسه، هو ثابت ويحسُّ بالعرق يتصبَّبُ من كلّ جلده. يبرز بالجوار التدفّق الصغير من أنبوب مكسور. يكتشف الرجل في الطريق حشرة ضئيلة، ربما نملة منفردة، تتقدّم في خطّ مستقيم. تدفُّق الماء يصطدم بأكوام الرمل ويجعل الحصى يقفز في كلّ مرّة أقرب من النملة. يعتقد الرجل أن تلك الحشرة تتقدّم بشكل أعمى نحو النقطة التي سوف تسحقها فيها إحدى الحصى. في ظل هيمنة الصمت، لا يُسمع شيء سوى جلبة التدفق العرضي الصغير، عند قدميه، وصرير حاوية مواد البناء التي تتأرجح فوق رأسه مباشرةً.
■
الذاكرة المُلتبسة
تعرّض مسافرٌ لحادث في بلد أجنبي. لقد فقد كلّ أمتعته، مع الوثائق التي يمكن أن تحدّد هويته، ونسيَ مَن هو. عاش هناك لعدّة سنوات. ذات ليلة حلمَ بمدينة واعتقد أنه يتذكر رقم هاتفٍ ما. عندما استيقظ، تمكّن من التواصل مع امرأةٍ بدت مندهشة، لكنها كانت، في النهاية، سعيدة جدّاً باستعادته. رحل إلى المدينة وعاش مع المرأة، وأنجبا أولاداً وأحفاداً. لكنْ في هذه الليلة، بعد سهر طويل، تذكّر مدينته الحقيقية وأسرته الحقيقية، واستمرّ ثابتاً، يستمع إلى أنفاس المرأة التي تنام إلى جانبه.
■
النظام البيئي
في عيد ميلادي، أهدت لي ابنة أخي شُجيرة بونساي وكتاب تعليمات للعناية بها. وضعتُ البونساي في بهو، مع الأُصص الأخرى، وتمكّنت من جعلها تُزهر. في الخريف، ظهرت حشرات بيضاء صغيرة في التراب، لكن لا يبدو أنها قد تؤذي البونساي. في الربيع، لمّا حانت ذات صباحٍ ساعةُ رَيِّهِا، لمحت شيئاً كان يرفرف بين الأوراق. بكثير من الصبر وبعدسة مكبّرة، انتهيت إلى اكتشاف أن الأمر كان يتعلّق بطائر ضئيل جدّاً. في وقت قصير امتلأت البونساي بالطيور التي كانت تتغذّى على الحشرات. في أواخر الصيف، عثرتُ على امرأة صغيرة عارية تختبئ بين جذور البونساي. بالتجسّس عليها خلسةً، عرفتُ أنها كانت تقتاتُ من بَيض الأعشاش. الآن أنا أعيش معها، وقد توصّلنا إلى طريقة لقنص الطيور. يبدو أنّ لا أحد في البيت يعرف أين أُوجدُ الآن. ابنة أخي، الحزينة جدّاً على غيابي، تعتني بنباتاتي إحياءً منها لذكرى الشخص المختفي. في أحد الأُصص الأخرى، في الأقاصي، يبدو لي أنني شاهدت اليوم صورة ماموث.
■
أسطورة
في ذلك الوقت، كان التنّين له شكلٌ، وجسمٌ ذو حراشف، وأجنحة كبيرة، ومخالب قويّة، وفكّان بأنياب لا نهائية كان ينفخ من خلالها النيران. وعكس ما يُحكَى، لم ينجح في هزْمه أيٌّ من الفرسان المحدّدين سلفاً لتلك المهمة، بل سقط جميع مَن حاول ذلك. مات ذلك التنين في شيخوخته. تعاقبت التنانين التي باتت ــ على نحو متزايد ــ بلا شكلٍ وأقلّ قابلية للتعرّف عليها من مظهرها الخارجي، ومات العديد من الفرسان وهم يحاولون مغالبتها وهزمها، لكنّ جميع التنانين ماتت بسبب شيخوختها. ومع ذلك، تستمرّ النجوم في التبشير بولادة أولئك الذين يتحدّد مصير ولادتهم بقتل التنّين. أنتَ واحدٌ منهم.
■
القلعة السرية
تقف القلعة شامخةً في نفس المنطقة، لكنّها غير مرئية في اليقظة الساهرة. للوصول إليها، يجب أن نعثر على طريق يظهر أحياناً خلال الحلم، وهو ينفتح أمامنا متناظراً ونحن نتقدّم خطوةً خطوة. لا تبدو القلعة كبيرة جدّاً، لكن ثّمة، خلف الردهة، العديد من الممرّات، في عدّة طوابق، مع عدد لا يُحصى من الأبواب المتطابقة التي تؤدّي إلى الغرف. أنا أعرف الغرفة اللامتناهية، حيث يسقط المرء بشكل دائم، والتي تنفتح على درج حلزوني لا ينتهي أبداً. أعرف أيضاً غرفة الهمسات التي لا يمكن أن تُفهَم، غرفة الظلال العظيمة ذات الأشكال الوحشية المرعبة، غرفة الساعة التي تُعلن عن كلّ ثانية بقطرة دم ثخينة تتناثر على الجدران. وثمّة غرفة بحر الأسماك الميّتة، وغرفة الطيور العمياء التي تحلّق دونما غايةٍ. أعرف غرفة الكثبان الرمليّة، المزروعة بهياكل عظمية للمستكشفين الضائعين، وغرفة المستنقعات حيث تطفو ملابس وقبّعات وخرائط. تلك القلعة خطيرة، إذ لأجل الخروج منها لا بدّ للمرء أن يستيقظ، وكثيرون لا يتحقّق لهم ذلك، رغم أنّك كلّ يوم تراهم جنبك وتعتقد ــ أنتَ وهُمْ ــ أنهم مستيقظون.
■
آثار
سلّة المهملات المقلوبة تلك. الرسم على الحائط مثلُ لعنة غير قابلة لفكّ رموزها. عدّة أعقاب سجائر على الأرض حول الشجرة. صحيفة مطويّة على مقعد. كرة صغيرة وهي تطفو فوق مياه البركة. أثر أحمر الشفاه على حافّة الفنجان. جوربُ طفلٍ معلّقٌ على السياج. بُصَاقٌ مُدَمَّى. آثار عملية الكبح فوق الإسفلت. علامات البلل على الوسادة. وهذه الحكاية.
■
الثقب الأسود
يتنزّه الرجل على طول الشاطئ المنعزل، ويجدُ قنّينة من الزجاج الأسود قد وضعت على الشاطئ، وعلى سدادتها طُبِعَتْ علامة غريبة جدّاً. وبينما كان منهمكاً بفتحها، فكّر الرجل في قراءاته لمّا كان طفلاً: الجنّيُّ الأسير، ورسائل الغرقى. بعد فتْحه القنّينة الزجاجية، يبدأ شهيقٌ عنيفٌ جدّاً يستنشق كلّ ما يحيط بالقنّينة التي تبتلع الرجلَ والشاطئ والجبال والقرى والبحر والمراكب الشراعية والجزر والسماء والغيوم والكوكب والنظام الشمسي ومجرّة درب التبانة وباقي المجرّات. في غضون لحظات قليلة صار الكون محبوساً بأكمله داخل القنّينة. كانت الحركة مباغتة جدّاً، لدرجة أن القلم سقط من يدي وكلّ أوراقي أصبحت في غير محلّها. أستعيد القلم، وأُعيد ترتيب الأوراق، وأشرع في كتابة حكاية الرجل الذي يتنزّه على طول الشاطئ المنعزل.
■
ظهْرُ بطاقة بريدية
جدّاي العزيزان، هذا هو النهر الذي يجري أمام البيت. يسمّونه الكون، وهو ضخمٌ. في كثير من الأحيان نغوص فيه لنصطاد، لأنه مليء بالقِطَع، بعضها لذيذٌ جدّاً. الشموسُ كلُّها لها الطعمُ ذاتُه: طعمٌ حرّيفٌ جدّاً، والمذنّبات بذيولها الطويلة جدّاً، ممتعة حين الإمساك بها، وإن كانت صغيرةً، إلّا أن الكواكب الزرقاء، التي تحتوي على شذرة صلبة كبيرة جدّاً وسوداء، هي لذيذة جدّاً وتحتوي على زبَدٍ وفيها عصيرٌ كثير. المؤسف أنها قليلة…
سوف نقضي عطلةً رائعة. قبلاتي لكما، من حفيدتكما التي تحبّكما.
■
الصوت الضئيل
– هل تتحدّثون عن الكون؟ الذرّة هي الكون! هل تتحدّثون عن الحياة؟ الخليّة هي الحياة! هل تتحدّثون عن الفضاء؟ الفضاء كلّه يتسع في راحة كفِّك! هل تتحدّثون عن الزمن؟ هذه اللحظة ذاتُها هي الأبدية!
لكنّ صوتُه كان ضئيلاً جدّاً، ولم يعرف أحدٌ ذلك.
المصدر: العربي الجديد