السرديات ما بعد الكلاسيكية ــ الدكتور سعيد يقطين.
أشرت إلى «السرديات ما بعد الكلاسيكية» في كتاب «السرديات والتحليل السردي: الشكل والدلالة» (2012)، وكانت لا تزال في بدايات تشكلها. وبعد عشر سنوات جرت مياه كثيرة تحت الجسر، فصار لها أعلامها، واتجاهاتها، وأدوات نشرها وأدبياتها. وبات من الضروري فهم أسباب هذا التطور، والعوامل التي ساهمت في جعل السرديات تتطور بهذه السرعة التي لم تكن متوقعة، ولا سيما بعد أن كان الحديث قد أعلن موت البنيوية ومعها السرديات، منذ التسعينيات، سواء عند بعض الأجانب، وكل العرب. يأتي هذا الكتاب حول «السرديات ما بعد الكلاسيكية: مسارات واتجاهات» (2022) امتدادا لكتابين مختلفين. أولهما الكتاب المشار إليه، والثاني: «الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق» (2014). يستمد من الكتاب الأول الاهتمام بالسرديات في تطورها التاريخي، وما حققته من منجزات في مسيرتها، وما عرفته من تحولات واتجاهات معاصرة، وما تطرحه من قضايا وإشكالات تفرض نفسها بإلحاح على الدراسات السردية العالمية اليوم، وموقع السرديات العربية ضمنها. ومن الثاني رسم خريطة عامة نموقع فيها السرد، والنظريات السردية في نطاق الفكر الأدبي منذ التحولات التي عرفتها السرديات منذ بداية تشكلها إلى الآن (2022)، وما صارت تطرحه من أسئلة متنوعة، وتعرفه من مشاكل متعددة، يفرضها واقع التغيرات التي يشتغل بها الفكر في مختلف أصنافه وضروبه في الوقت الراهن مع الثورة الرقمية.
ليس هدفي الأساس في هذا الكتاب تقديم معلومات عن السرديات ما بعد الكلاسيكية، وعلاقتها بالسرديات الكلاسيكية، وما تعرفه من اتجاهات ومسارات وتيارات، فالكتابات الأجنبية في هذا النطاق لا حد لها، والفضاء الشبكي، والنشر الورقي يقدمان لنا معا مادة غزيرة جدا إلى حد صعوبة مواكبتها، والآراء بصددها متضاربة ومختلفة. ويمكن لأي باحث أن يعثر على ضالته في ما يخص هذا الموضوع بكل اللغات. ولما كان من الضروري عرض الأفكار والاتجاهات والتيارات المتصلة بالسرديات في كل أحوالها، فإنه إذا لم تكن وراء ذلك وجهة نظر خاصة، ومعرفة بالصيرورة، سيكون ما نقدمه غير مختلف عن الكتابات العربية التي تسعى إلى تعريفنا عادة بجديد التيارات الأدبية والفكرية الأجنبية بطريقة لا تخلو من انتقائية واختزال وسوء فهم.
لقد بدأت علاقتي بالسرديات منذ بداية الثمانينيات، وهي لا تزال متواصلة إلى الآن. وانطلاقا من هذه العلاقة المستمرة والمتواصلة، أتعرض في هذا الكتاب لكل ما يحيط بالموضوع من أسئلة وقضايا هي محل نقاش واسع بين المشتغلين بالسرديات في وقتنا الرهن من وجهة نظري الخاصة. لذلك أنبه القارئ والباحث معا إلى التركيز على النقاش حول مختلف القضايا التي يفرضها الموضوع، وعلى المواقف التي أركز عليها متخذا منها رأيا آخر مختلفا، وليس على المعلومات المقدمة فقط. إن تقديم المعلومات الذي لا ينبع من وجهة نظر محددة ليس سوى جمع للمتنافر، وضم للمختلف بدون تصور معين يحكم الموضوع، ويوجهه إلى غاية معلومة تتلخص في أن يكون لنا إسهام في هذه التجربة العالمية، وإغناء لها بما يمكن أن نقدمه لها عن طريق الاستيعاب الجيد والإدراك الشامل لما يطرحه الموضوع. لطالما اتهمنا بأننا ننسخ النظريات الغربية، ونطبقها على نصوصنا؟ ولا يمكننا تجاوز ذلك إلا بفهم الصيرورة التي عرفتها السرديات منذ بداية تشكلها إلى الآن، وهذا ما نرمي إلى تحقيقه في هذا الكتاب.
إن الأطروحة التي ندافع عنها، وهي وليدة أكثر من أربعين سنة من الاتصال الدائم والمتواصل بالسرديات ( Narratology)، بصورة خاصة، والتحليل السردي، نظريا وتطبيقيا، بكيفية عامة، هي أن السرديات مشروع علمي لدراسة السرد، وأنها وإن كانت تتقاطع أو تتداخل مع غيرها من النظريات السردية، السابقة عليها، أو المعاصرة لها، أو اللاحقة بها، فإن لها خصوصيتها التي ينبغي الانطلاق منها، وتمييزها عنها، وإلا غدا كل بحث في السرد، «سرديات». ويبدو لي أن هذا الالتباس هو السائد لدى بعض من يشتغلون بالسرديات ما بعد الكلاسيكية في الغرب. أو يغدو أي إبداع سردي، «سرديات»، وهذا شائع لدى بعض العرب ممن يتحدثون عن السرديات بدون التمييز بين العلم (السرديات)، والسرود التي هي إبداعات سردية.
إن أي مشروع حين لا يكون مفتوحا على المستقبل، وقابلا للتطور مواكبة لما يستجد من إبدالات وتغيرات معرفية وفكرية ونصية، لا يمكنه إلا أن ينتهي دون أن يكون له تاريخ، أو جغرافيا، أو أي إسهام في تطوير الفكر الأدبي العربي، أو الإنساني.
اشتغلت بهذا المشروع منذ القراءة والتجربة (1985)، ووضعت أسسه النظرية والمنهجية في تحليل الخطاب الروائي (1989)، الذي أطرته في نطاق ما أسميته «سرديات الخطاب»، (وهو ما صار يسمى حاليا «السرديات الكلاسيكية»). وطورته في انفتاح النص الروائي (1989) تحت مسمى «سرديات النص»، وكنت قد وسمته بـ»السوسيو سرديات»، أو ما صار يعرف الآن تحت مسمى: «السرديات الاجتماعية». وفي الرواية والتراث السردي (1992)، في نطاق «نظرية التفاعل النصي». ولما كنت قد انشغلت بالخطاب والنص، فقد وسعت مجال الاشتغال بـما أسميته بـ «سرديات القصة» التي طرحتها في قال الراوي (1997)، بعدم الوقوف على الخطاب أو النص اللذين وقفت عليهما في 1989، بعد أن بحثت في «سرديات الأجناس الأدبية»، في «الكلام والخبر: مقدمة للسرد العربي» (1997)، وأخيرا في الانتقال إلى الاهتمام بالنص المترابط (2005ـ 2012)، من خلال ما يمكن تسميته بـ»السرديات الوسائطية» التي تعنى بالنص الرقمي.
إنها صيرورة متواصلة من الاشتغال بالسرديات، كانت بدايتها واضحة بالنسبة إلي، ولذلك فإنها تطورت متساوقة مع ما ستعرفه السرديات ما بعد الكلاسيكية اليوم، بل وسابقة على ما باتت تطرحه الآن من مقترحات واجتهادات لتطوير الدراسات السردية.
لقد مكنني هذا الاشتغال طيلة هذه المدة، وأتاحت لي متابعة مختلف التطورات التي عرفتها في مسيرتها التي قطعتها منذ الستينيات (الحقبة البنيوية)، إلى الآن (ما بعد البنيوية)، وفق المسيرة المعلنة أعلاه، إلى تكوين رؤيتي الخاصة، وطريقتي المحددة في فهم ما يمكن تسميته «العقل السردي»، واتخاذ موقف انبنى على طرح الأسئلة، والتمييز بين النظريات والنماذج وتمثل خلفياتها المعرفية، والانطلاق من الزاوية الخاصة التي تبنيتها منذ البداية، والتي ظلت تتطور مع الزمن في تناغم مع ما أراه متلائما مع إمكانية تطوير الدراسة الأدبية العربية بصفة عامة، والسردية بصورة خاصة، وهي تبحث في السرد العربي قديمه وحديثه.
ينقسم هذا الكتاب إلى أربعة أبواب: جعلت الباب الأول حول «المنعطف السردي»، الذي يتمثل في تسجيل الانتقال من الأدب إلى السرد، وقسمته إلى ثلاثة فصول تتصل بضرورة الانطلاق من الفكر النقدي في أي تصور، وبواقع الدراسات الأدبية اليوم، وأهم اتجاهاتها المعاصرة، وعلاقتها بالعلوم المختلفة. أما الباب الثاني فتحوَّل من العام إلى الخاص، وكان تحت عنوان: «من السرديات إلى السرديات ما بعد الكلاسيكية: مسارات»، وقدمته من خلال ثلاثة فصول. رصدت فيها تطور السرديات من الاختصاص إلى تعدد الاختصاصات، كما وقفت على تاريخها، وجغرافيتها على اعتبار أن أي فكر أو علم كما يتطور زمنيا (تاريخيا)، يتحقق في فضاءات معينة (جغرافيا). وكان الباب الثالث خالصا لتناول «السرديات ما بعد الكلاسيكية: اتجاهات» من خلال الانطلاق من كلاسيكيات السرديات الجديدة والأدبيات المؤسسة لها، وموقفها من السرديات الكلاسيكية، في فصل، وفي آخر، توقفت على أهم الاتجاهات العالمية لهذه السرديات، وذيلت الفصل الثالث بالتركيز على علاقة مصطلحية السرديات ما بعد الكلاسيكية بالمصطلحية الكلاسيكية. أما الباب الرابع فحاولت فيه تناول التحليل السردي في الثقافة العربية من خلال التساؤل عن تأخرنا وعجزنا عن الانخراط في التجربة العالمية، عبر الحديث عن «النظرية» السردية العربية، والنقاش السردي من خلال التطرق لاتجاهين متقاطبين تعرضا معا لمشروعي السردي بالنقد: تقليدي وحداثي، للجواب عن الإكراهات والعوائق الثقافية التي تحول دون مساهمتنا في الفكر السردي العالمي، وذيلته بفصل يلخص مسار تطور علاقتي بالسرديات من خلال مقتطفات من مقدمات بعض كتبي جعلته تحت عنوان: «سردياتي: مشروعا لسرديات عربية».
*الموقع الإلكتروني الاتحاد الاشتراكي
الكاتب : سعيد يقطين بتاريخ : 05/05/2023