ألبرتو مانغويل: لنتحدث عن القراءة المتقطعة وترك الكتاب قبل إكماله

ترك الأعمال غير مكتملة ليس من عاداتي، فليس من طبيعتي أن أترك وجبة نصف مأكولة أو غرفة نصف مرتبة، ولا وعد غير موفى به، وحتى نزواتي لا يمكنها إعاقة خطط رحلتي. ولكن الأمور مختلفة في مكتبتي. بادئ ذي بدء، ليس هناك مكتبة مكتملة على الإطلاق؛ كما القصيدة في تعريف فاليري، فالمكتبة لا تنتهي أبدًا، بل يُتخلّى عنها. والكتاب أيضًا لا يُقرأ كاملًا أبدًا، فعندما تصل الصفحة الأخيرة، هناك ما أُضيف للنص من خلال قراءتنا (معرفتنا بما حدث، شبكة أدبية من المصادفات والانسجامات، وشعور بالتعاطف أو الاشمئزاز) ولذلك فهو كتاب جديد ينتظرنا لنتصفحه مرة أخرى، وللمرة الأولى. فنحن لا نقرأ الكتاب ذاته مرتين أبدًا.

الكفّ عن القراءة إراديًا شيء آخر. إنني أبني علاقتي بالكتاب تدريجيًا، بدءًا بمعاينتي للغلاف ثم نظرة على كلمة الناشر، وبعدها ربما أتخطى المقدمة أو ربما لا، ثم أشرع بالقراءة. في حال أنّي أحببتُ الكتاب، أو إن أحبّني هو، فعندها سنكمل سويةً وبكل سرور حتى النهاية. ولكنني أحيانًا أستسلم إذا لم يجذب الكتاب اهتمامي بصفحتين أو ثلاث. على عكسي، الكتب صبورة بشكل استثنائي وستنتظرنا حتى حين، إذ حدث لي أن عدتُ إلى كتابٍ تخلّيتُ عنه في السابق وأعجبني، ربما لأنني تغيرت أو لأن الكتاب ذاته تغيّر. مع ذلك، ما لم أفعله أبدًا، هو قراءة نصف كتاب لا يعجبني ثم تركه بمنتصف الطريق، فإذا لم تقنعني صفحتين أو ثلاثة، فإنني متيقن بأن الباقي لن يقنعني أيضًا؛ إذ لا أستطيع تذكّر أي كتاب كرهت فقراته الأولى ليتبين بأنه تحفة فنية بعد إكمال قراءته، ففي القراءة يكون حكمي على الكتب -كما الوقوع في الحب- من النظرة الأولى.

ترك عمل شيء ما ناقصًا له جانبين متناقضين. من جانب، عدم إكمال شيء ما يعني بأننا حكمنا عليه بأنه غير جدير بمساعينا لإكماله. من جانبٍ آخر، يمكن أن يكون تأجيلنا لإكمال شيء ما مدفوعًا بقلقنا من إنهاء وتوديع شيء مذهل إلى الأبد. وباللاتينية مصطلح «Coitus Interruptus» يُستخدم للتعبير عن انقطاع المتعة أو المتعة التي لا نشوة فيها كما يعِد القرآن الكريم المؤمنين في سورة الواقعة. هذان هما الوجهان المتناقضان للقراءة المتقطعة.

تأمر العقيدة المسيحية (التي يحرّم فردوسها ممارسة الجنس وقراءة الأدب) بإنهاء كل ما يتم القيام به بحسن نية؛ كما أن الاستسلام بالنسبة لأتباع القديس بولص، يُعتبر انغماسًا في الذات وبالتالي فهو أمر سيئ. بينما حوّل الإنترنت، الذي لا يتطلب منّا إلّا فترات انتباه وجيزة ومتكررة، الخطيئة المسيحية هذه إلى فضيلة، حيث الكمية المعتادة هي المقتطفات، وليس المجلدات. كما لا يُتوقع من أي شخص أن يتصفح ملفاته، التي تبدو وكأنها تمتد إلى الأبد، من البداية وحتى نقطة النهاية.

أعلن روبرت لويس ستيفنسون، الذي وُلد في ضباب الكنيسة البريسبيترية في إدنبرة، وخلافًا لقواعد بولص الصارمة: “أن ترتحل مفعمًا بالأمل خيرٌ من الوصول، والكدّ في العمل هو الفوز الحقيقي”. أن أعمل، وأستكشف، وأقرأ وأن أستحضر ما قرأته، والتمتع بمعرفة ما حدث في الصفحة التي تسبق الذروة، كل ذلك هو جزء من فن القارئ.

لا شك في أن التخلي عن كتاب قبل الوصول إلى الصفحة الأخيرة يتطلب ضبطًا للنفس، إذ هناك كتب تركت قراءتها عند دنوّي من النهاية كي لا أستمتع بها دفعة واحدة. عندما كنت على مقربة من نهاية رواية «النصر» لـ كونراد، قمت بتأجيل الفصل الأخير إلى أجلٍ غير مسمى لأنني كنت أعلم بأن هذا هو كتاب كونراد الأخير الذي تبقى لأكتشفه، ولم أرد أن يتحقق وعد كتب كونراد غير المقروءة بهذه السرعة. بالمثل، انتظرت أسابيع لإنهاء «ثلاثية الانبعاث» لـ بات باركر، ورواية «الأدب والآلهة» لروبرتو كَلاسو، و«حيوات متوازية» لبيتر ناداس. استقرّت هذه الكتب غير المكتملة بإخلاص بجانب سريري خلال فترة الانتظار، كالهدايا التي لا يمكن فتحها قبل موعدها المحدد. وبالإسبانية يسمى ذلك “el placer de las vísperas”، أي “بهجة الانتظار في العشيّة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.