قراءة لـ (ق ق ج) لعيد المجيد أحمد المحمود
***
“نجــــــاة “
“خشيَتْ تلك الشاةُ على نفسِها الذئبَ، فاتّخذَتْ سبيلًا قاصيًا عن القطيع. “
إن هذا النّص ،بكلماته و عنوانه يتكون من أثنى عشرة كلمة ..نص قصير جدا، و هذا يذكرنا بما هو أكثر منه قصرا نص أرنست همنغواي : ” للبيع حذاء طفل لم يلبس قط ” في ست كلمات ، بل يذكرنا أيضا بما يوجد في الأدب الإنجليزي الحديث و الذي يسمى : بقصة ست كلمات ( Six word story) ، أصغر حكي ممكن.
أعتقد أنّ قصر الحجم، و الافراط في ذلك، لا يناسب الذّائقة العربية، الولوعة بالحكي. إلا إذا كان قد أعِدَّ بإتقان فنّي قصصي، بحيث كلّ كلمة لها دورها الوظيفي في النّص…
فالقاص عبد المجيد أحمد المحمود، و إن كان مقلا في انتاجه القصصي، إلا أنّه حين ينشر ، تأتي ابداعاته لافتة شكلا و مضمونًا. فالنّص الذي نحن بصدده يُجاري نسقَ الكتابة التي تحاول توظيف الحجم بأقل ما يُمكن من الكلمات بغية تحقيق اختلاف نوعي و عددي..
فمادا عن النّص ؟
1 ــ العنوان : نجــاة
التجاة لغويا لها عدّة معان حسب المراد و السياق، منها : الناقة السّريعة . السّحابة. النّجوة من الأرض…و لكن ما يهمنا، هو ما يلائم صياغة النّص و هو : ( النّجاء) فنقول :
نجا ينجو نجاةً ونجاء ونجوا ونجاية: – نجا من كذا: مثلا خلص ” من حادث سير”. فالنجاة هي الخلاص من أذى أو مكروه ما، و من كلّ ما من شأنه أن يشكّل مَخافة…
و يبدو أنّه من العناوين التي تلخص فكرة النّص .إذ سرعان ما يتبادر للذهن المعنى اللّغوي ( النجاء) فيقبل المتلقي على النّص انطلاقًا من خلفية لغوية.. إلا أنّه سيشعر بعد قراءة كلمات النّص القليلة، أنّ العنوان كان مُخادعًا، ما يُعرف في علم العنوان: بالعنوان المزيف
( faux titre) و قد تكون تلك أوّل مُفارقة، بين العنوان و النّص. لأنّ النّجاة لم تكن حقيقية بقدر ما كانت وهمًا بالخلاص في ذهن البطلة / الشاة.
2 ــ التناص (Intertextualité)
ــ ملخص النّص: خوف الشّاة من الذئب، دعاها للانفراد عن القطيع.
ــ المسوغ الافتراضي: أن الشاة ترى القطيع كلّ القطيع، فريسة للذّئب. و أنّ النّجاة أن تنفردَ بعيدًا. و في تصرفها مُسوّغ عكس المُتعارف عليه. من حيث قيمة التَّجمُع، و أهمية الانتماء للجماعة. ما يعرف في علم الاجتماع ( Belonging).
ففكرة النّص لها تداخل نصّي و ما ورد في الجديث الشريف :
عن أَبي الدرداءِ قالَ: سَمِعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقول: “ما مِن ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهمُ الصَّلاةُ إِلاَّ قدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيكُمْ بِالجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الغَنمِ القَاصِيَةَ ” رواه أبو داود بإِسناد حسن.
إذاً، اختيار الشاة الخاطئ، هو اختيار المصلين الذين يتركون صلاة الجماعة فينفردون، و ينفرد بهم الشيطان. كما ينفرد الذّئب بالشاة القاصية.
3 ــ السّارد:
ما دام السّرد رهان التّواصل ( L’enjeu de communication ) حسب ما يرى رولان بارت. فإنّ القاص عبد المجيد أحمد المحمود اختار ساردا عليما . السّارد في النص يعلم ما يدور في ذهن البطلة/ الشاة: فهي خائفة من الذئب ، و غير مطمئنة وسط القطيع، و حدّدت هدفَ الانفصال طلبًا للنّجاة .. فالسّارد يحسُّ و يعلم ما تعلمه الشّخصية، فهذا يحقق: التبئير الدّاخلي، أي: الرّؤية مع و من تمَّ تحقيق الذاتية ( Subjectivité).
4 ــ الخرجة :
و نقصد بها الجملة الأخيرة في النّص، جاءت مفتوحة على كلّ الاحتمالات و التأويلا ت الممكنة.. و تلك أجمل الخرجات الواعية و الفنّية، متى ما توفرت ..لأنّها إيحاء غير مُباشر للمتلقي، أنْ يختار الخاتمة التي يرتئيها انطلاقًا من نسقِ و تركيبِ النّص، فيكون بذلك مشاركًا في عملية الكتابة، و الانتاج القصصي.. عكس ما كان عليه في السّابق.. يكتفي بالاستهلاك، و الرضا بما انتهى إليه النّص.
5 ــ اللغـــــة:
تبعًا لما هو شائع..اعتمد القاص عبد المجيد أحمد المحمود الجملة الفعلية [ خشيت، اتخذت] و الجملة الفعلية تفيد الحركة و الفاعلية عكس الجملة الاسمية التي تفيد التبات و السّكون، تكون أقل و قعًا و ثقلا على الأذن، كلّما كان النّص متناهيا في القصر. و لكن العكس ليس صحيحا ، فكلما توالت الجمل الفعلية في نص أطول نسبيا . كلّما أصبحت أجراسا مُزعجة، تربك الأسلوب، و تقلق متعة القراءة..و فضلا عن ذلك، فقد استعان القاص بحرف عطف واحد ،هو الفاء التي تفيد الترتيب مع التعقيب.
6 ــ الاضمار و الرّمز
نظرًا لقصر الحجم ككل نصوص ال(ق ق ج)، بصبح من الضّروري ممارسة عملية الصّمت، التي هي إضمار فنّي مقصود احترامًا لفكر و نَباهة المتلقي. فمن المُضمرات
أولا ـ: عدم وجود الرّاعي أو الإشارة إليه / رمز للمسؤول الغائب، و المنعدمُ دورُه، و كأنَّ
القطيع/ رمز للرعية، هائم مشرّد وحده بدون قيادة.
ثانيا : عدم ذكر مصير الشاة / و هي رمز للفئة التي تحاول الانفصال عن المجتمع بحثا عن حياة أمنة مُستقرة ،خلافا لحياة الفطيع. و خوفا من افتراس الذئب / الذي هو رمز لكل ما يتربص بشباب الأمّة من مخاطر البطالة، و الفقر، و الإدمان ، و الضّياع على الأرض. و الموت المحقق في عرض البحر. من خلال مغامرة للاجتياز إلى الضّفة الأخرى حلمًا بحياة أفضل، و تحقيقًا للنّجاة التي قد تكون و قد لا تكون.
7 ــ الصراع و المفارقة :
يبدو النص من أوّل وهلة خال من الصّراع. و لكن بقليل من الترّوي يتّضح أنّ الصّراع ذاتي و داخلي تعانيه الشاة، و قد بدأ النّص بفعل ( خشيت ) لذا هناك إحساس بالخوف و السّؤال هل هناك أفظع صراع، كالصّراع ضدّ الخوف من الآخر؟ الشاة في النّص لم تغادر القطيع حبّا في المغادرة، و إنّما خوفا من الذئب.. إذا ، هي تعيش صراعا نفسيا أجبرها أن تبحث عن النّجاة.. تلك النّجاة المستحيلة .
كذلك يبدو النّص بدون مفارقة، و لكن بقراءة متمعنة متأنية ..يثار في الذّهن سؤال: هل هناك مفارقة أوضح من أن الشاة تغادر القطيع و تنفرد بنفسها بحثا عن النّجاة ..و هي كالمُستجير من الرّمضاء بالنّار؟
هكذا نلاحظ أنّ نصا من جملتين .. من اثنى عشرة كلمة ..حقق اكتمال الصّورة الاجتماعية، التي تجسّد وضعًا خطيرًا تنحدر إليه أقطارنا العربية بسبب الافتقار لحكومات رشيدة ، و نظم ثورية عتيدة.. الشّيء الذي جعل الشّعب قطيعا تائهًا بدون راعٍ يقوده و يحميه. و كلّما انفصل فصيل يريد النّجاة، و جد الخطر يتربّص به. و كأنّه يهدّده داخل القطيع، كما يهدّده و هو خارجه.. لذا كانت النّجاة حلمًا ليس إلا.
فهنيئا للقاص عبد المجيد الأحمد المحمودي بهذا النص المركز الرمزي…
* مسلك *