ذكريات نقد القصّة ( 10)

من ذكريات نقد القصّة .

لمدّة عشر سنوات، أشرفت على برنامج أدبي يُعنى بناشئة الأدب، كان يُسجل في إذاعة أكادير، و يبثّ على الأمواج الوطنية.و كان له مستمعون و متتبعون في تسعينيات القرن الماضي .

ففي صبيحة يوم و أنا أستعد للتّسجيل، دخل شاب في مقتبل العمر. عرفت بعد ذلك ، أنه يشتغل كاتب ضبط في المحكمة، علمت منه أيضًا، أنّه يكتب القصّة. فبعد تسجيل الحلقة، جلسنا معا نتحدث فيما يكتب، فقال لي بأن وظيفته ككاتب ضبط في المحكمة، جعلته يتزود بمواضيع اجتماعية كثيرة و متنوعة .. استطاع بلورتها في نصوص قصصية. فابتهجت لهذا .. فأخرج من محفظته دفتراً من الحجم الكبير، فيه نصوص مختلفة ، طلب مني أن ألقي عليها نظرة و أخبره برأيي ، لأنّه كان ينوي نشرها. فلمّا كان عدد النّصوص كثيراً، طلبت منه أن يمهلني شهراً كاملا ، فمنحني رقم هاتفه و قال : (اقرأ على مهلك يا أستاذ لست مستعجلا، إنّما أرغب في نصيحة صريحة في كلِّ هذا الذي كتبته.. )

أذكر أنّني تركت الدفتر جانباً، قرابة عشرة أيّام، لكثرة الأشغال فضلا عن فترة امتحانات الكلية و ما تتطلبه نسخُ الطّلبة من تصحيح و إدخال النّقط …

فلمّا عدت إليه، لم أجد نصوصاً قصصية ، و لكن تقارير عن قضايا اجتماعية.

فأمضيت معظم اللّيل أتصفح الدفتر، و أقرأ ما فيه . فلم أجد قصّة واحدة بمعنى قصّة ..

فمضى شهران إلا بضعة أيّام، فخشيت أن يضيع منّي الدّفتر، فهاتفت صاجبه، الذي جاء بشوق و لهفة، راغباً في أن يسمع رأيي. فأخبرته عن فنّ القصّة ، و فنّيتها ،و طرائق كتابتها، و مكوناتها،و أنواعها… و لقد تعمّدت ذلك العرض المستفيض ، عساه يفهم أنّّ ما قلته لا ينطبق على ما كتبَ .. و لكن رغم ذلك ظلّ يتـرقب رأيي . فلمّا صارحته بلطف و تؤدة، انتفض و كأنّه لا يصدق ما سمع …و قال :

ــ أفهم من كلامك ـ أستاذ ـ أنّ هذه النّصوص غير صالحة للنّشر ؟!

قلت : كلّ النّصوص ،و كلّ ما يكتب صالح للنّشر ، و لكن في أيِّ إطار؟

إذا أنت نشرت كلّ ما في الدفتر على أنّه “تقارير عن قضايا اجتماعية ” فلا بأس في ذلك. و لكن إذا نشرتها على أنّها نصوص في القصة القصيرة. فالأمر مختلف ! و الأمر ليس كذلك.

فنظرني بذهول و شيء من البرود و قال :

ــ إلى اللّحظة الأخيرة قبل أن أكلمك، كنت أعتقد أنّ كلّ ما يحدث للنّاس هو قصص. و لكن الأن تحاول ـ أستاذ ـ أن تفهمني أنّ قصص النّاس ليست قصصاً !

فقلت :لعلّ كلّ ما قلت لك لم تستوعبه جيّداً .دعني أقول لك أنّ النّاس تعرف في حياتها قضيا و أحداثًا مختلفة، قد تتكرر، و لكن كلٌّ و يعيشها وفق ظروفه و حياته الخاصّة ، و كلٌّ و يَرويها بطريقته و أسلوبه الخاص، هذا في الأمر العادي الذي نعرفه و نعيشه، و لكن في الفنّ و الإبداع، يصبح المعيش تخييلا ،قد لا ينحصر في الحدَث بعينه ، بل قد يصبح الحدث مجال تأويل و قراءة قد تأخذ المتلقي بعيداً عن تخوم النّص ..و ذلك بتوظيف اللّغة القصصية و مكونات القصّ الأخرى..و هذا ما يسمى بالكتابة الفنّية، و هنا الاختلاف بين التّقرير و القصّة، بمفهومها السّردي الفنّي..فكلاهما فيه حكي، و لكن طرائق العرض تختلف..

نظرني بذهول و بكثير من الدّهشة ! فأحسست أنّ كلامي لن يجد مستقراً في ذهنه، و أنّ إدراكه و وعيه أبعد ما يكون من أن يستوعب ما أقول.

افترقنا، و لم نلتق بعد ذلك. و لكنّ الأيّام جعلتني ألتقي بأشخاص آخرين يفهمون القصّة فهمه الخاص. يكتبون كلامًا، و خواطر، و تقارير… يحسبونها قصصا ..

تحياتي/ مسلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.