دكتور عدنان رسول
يفتتح بارث كتابه درس في السيميولوجيا بمقاله المشهور ( لذّة النص ) بتساؤل هل القراءة هي عملية استهلاك؟ في هذا الطرح تكمن فلسفة رؤيته عن ما يربط القارئ بالنص، بمعنى أكثر دقّة ما هي الوشائج او الفروق بين الحسي و الجمالي، فقد ارتقى اسلوبه الى فلسفي ممتع حقا، و هو إشراك القارئ في فهم النص، اي بلورة مفاهيم أخرى غير تلك التي في قصدية المؤلف، و هذه المفاهيم تأتي من القراءة، كلٌّ قارئ له طريقته في القراءة التي تنعكس في تكوين فاعلية إنتاجهم للنص، و هذه العملية تعطي النص روح التجدد مما ينعكس إيجابا على إستدامته و من ثُُّم استمراريته ،و هو ما يلتقي فيه مع زميله جاك دريدا في عملية تفكيك التفكيك اي عدم الركون الى معنى واحد بل معان تتجدد من خلال إعادة إنتاج التحليل عبر استراتيجية التفكيك، فلا يوجد تفكيك نهائي، و هذا تماما ما أتفق عليه الأثنان بارث و دريدا و هي إنّ عملية إعادة الخلق تأتي من خلال تعدد و تنوع القرآءات بالنسبة لبارث، و من إعادة تفكيك التفكيك بالنسبة لدريدا لذلك نرى إنّ بارث جعل هذه المعادلة نص المتعة ونص اللّذة في مؤلفه لذّة النص في كتابه الرائع درس في السيميولوجيا:
1- نص المتعة ( القراءة سلسلة )
2- نص اللّذة ( إرباك القارئ من خلال إختلاف توقعاته )
و اهمّ ما ركّز عليه الكتاب هو الرفض المطلق لأيّ تفسير أحادي للنص، و هذا تطابق تمَّ بين رؤى كل من جاك دريدا بتفكيك التفكيك و الجرجاني بمعنى المعنى، فالنص ينتمي لكل قراءة جديدة بل لكل قارئ جديد، وإنّ المؤلف قد وضع نصًّه و لم يعد له حقّ في اي تفسيرآخر، بل أصبح كلُّ الحق للقارئ هو من يسبر أغوار هذا النص و يستخرج لذّته و يستنبط منه معنى آخر. فتتحوّل القراءة من عملية استهلاك للمعنى الى عملية مساهمة في خلق المعنى بل المعاني من خلال الحسيّ و الجماليّ و الإستدراكي و هكذا يتحوّل الإستهلاك الى إنتاج، بتنحية سلطة المنشئ التي أصبحتْ مملة بل ليس لها وجود في عملية القراءة المتجددة،
مفهوم إقصاء المؤلف
” (La mort de l’auteur) كان عبارة عن فكرة نقدية قدّمها المفكر والناقد الفرنسي رولان بارث في مقالته الشهيرة “موت المؤلف” التي نُشرت عام 1967 وهي تُعدّ من أبرز النصوص التأسيسية في التحول نحو ما يُعرف بـ ما بعد البنيوية في الدراسات الأدبية والنقدية، فالمضمون المجازي لهذه الفكرة يقوم على
فكرة تدعو إلى فصل النص عن مؤلفه و التخلي عن إعتبار المؤلف هو المرجع الأساسي للنص، حيث استعار مصطلحا كان صادما وقتها هو (موت المؤلف) ليحلّ محله القارئ فهو الوحيد المخوّل لفهم النص وفقًا لثقافته و وعيه حسب رؤية بارث، فالمعادلة التي وضعها بارث تبنى على معادلة (موت المؤلف = ولادة القارئ )، حيث وضع أُسسا دقيقة لمنهجه الجديد هذا، وهذه الأسسس تتمثل ب :
1- لا سلطة تفسيرية للمؤلف، بمعنى لن تكون نيته او سيرته او ثقافته مرجعا او شرطا لتفسير النص
2- استقلالية النص، بمعنى ان يتحوّل النص الى كيانٍ مستقلٍ، فالمؤلف قد وضع النص و انتهى عمله
و لم يعد المؤلف مالكًا له حيث يصبح النص حقلًا مفتوحًا للتأويل، متعدد المعاني، لا يمكن اختزاله في قصدية مؤلفه
3- يتحوّل القارئ الى مركز النص، و تفسير بارث لهذا، انّ المعنى لا يخلق في ذهن المؤلف فقط بل في ذهن القارئ ايضا من خلال وعيه و ثقافته عن طريق عملية التأويل، هذه العملية تحوّل القارئ الى شريك في إنتاج النص
4- اللغة و هي أداة التوصيل أهم من الفرد، فهي الفلك الذي يدور به النص، أمّا المؤلف فما هو الا أداة تستخدمه اللغة في عملية إنتاج المعنى
و المعروف عن بارث إنّه بدأ كناقد بنيوي، لكنّه قد تمرّد على البنيويين بعد أن ادرك أنّ النزعات البيوغرافية و الواقعية و الوجودية قد قدّست المؤلف و ظروفه و تأريخه الشخصيّ و حالته النفسية و جعلته الفلك الذي يدور به النص و تدور به عملية تفسير النص، ليدرك انّ هذه العوامل في الحقيقة لا علاقة لها بالنص، فهي عوامل خارجه تماما و لا يجب ان تأخذ في الإعتبار في عملية تفسير النص، و إنّما يجب الإحتكام الى فنيّة النص فقط، و هو بذلك يترجم عمليا، فشل جميع المذاهب الأدبية مثل المذهب النفسي او التأريخي او المتكامل، و يحتكم فقط الى المذهب الفنّي اي الى فنيّة النص دون أيّ عوامل خارج هذا النص، الذي جعله كيانا مستقلا بعيدا عن صاحبه، أي أعطى للنص إستقلالية تامة عن مؤلفه، و هو بهذا قد أنحرف 180 % عن آراء و فلسفة البنيوين الذين كان واحداً منهم، و قد ترجم تأثره الواضح و الكبير بنزعة عالم اللسانيات سوسير في اللغة، حيث تُفهم العلامات من خلال علاقتها ببعضها، لا من خلال مرجع خارجي، و هذه أبرز خلفيات فكرة بارث حول مفهوم موت المؤلف و التي أُصرُّ على تسميتها فلسفة النص، و لعلّ آراء بارث هذه و الأسباب التي دعت إليها بل و حتى مسببات هذه الدعوة، قد أختصرها ميشيل فوكو في جملة واحدة لها دلالات متشظية و عميقة و هي قوله ( ما المؤلف ؟ )؛ إذن إقصاء المؤلف هي دعوة الى إلغاء مركزية المؤلف كمرجع رئيسي للنص الأدبي، وفتح المجال لتحديث فهم النصوص بشكل مستمر عن طريق تعدد القرآءات
جاءت دعوة بارث في سياق عصر ما بعد الحداثة، اي ما بعد البنيوية وفي ظل الانتقادات التي وُجهت للبنيوية وأزمتها الفكرية، ركّز بارث على فكرة إنّ النصّ يجب أن يتحرر من المؤلف ليُعاد تشكيله مع كل قراءة، حيث يلعب القارئ دورًا أساسيًا في إنتاج معاني النص، و بهذا يكون القارئ وفقًا لبارث، ذلك الفضاء الذي تنطلق فيه الاقتباسات والأفكار التي يتألف منها النص، مما يجعل وحدة النص ليست في مصدره، بل في وجهته المتمثلة في الجمهور،
تميّز بارث برؤية نقدية عميقة وبثقافة واسعة، وكانت دعوته إلى إقصاء المؤلف جادة ومنهجية، وليست مجرد فكرة عابرة، هدف من وراء هذه الدعوة إلى دفع الوعي الأوروبيّ من الجمود التقليدي نحو آفاق جديدة من البحث والمعرفة، وقد حظيت دعوته باهتمام كبير في الأوساط الأدبية والثقافية، حيث شكلت ثورة ضد النقد التقليدي الذي كان يعتبر العمل الأدبي نتاجًا مشتركًا بين المؤلف والنص والمتلقي، و أيّة دراسة للعمل الأدبي يجب ان تتضمن دراسة حياة الأديب والسبب وراء تأليف هذا العمل، وهو ما لم تسلم به البنيوية حيث دعت إلى موته، في المقابل رفضت البنيوية هذا التوجه التقليدي، مؤكدة إنّ تحليل النص الأدبي ينبغي أن يركز على اللغة بذاتها على افتراض أنّ النصّ يتكون بنى لغوية، بما تحمله من تراكيبٍ وألفاظٍ، بعيدًا عن حياة المؤلف أو نواياه، و إسناد تأويل وتحليل العمل الأدبي إلى اللغة من حيث الألفاظ والتراكيب التي استخدمها المؤلف للتعبير عن أفكاره وآرائه؛ وهذا ما قاد الى إنغلاق النص على ذاته، بل حلّ الناقد البنيوي مَحِلّ المؤلف، فأصبح تحليله هو الفصل و هو هكذا تحوّل الناقد البنيوي الى ( الخصم و الحكم ) في آن معا، و هذا ما قاد بارث الى التمرّد عليها، و من ثم ليُحلّ محِلّها نظريّة النص و التي قادت الى مفهوم إقصاء المؤلف، سواءا كان مؤلف النص الحقيقي او المؤلف البنيوي، كان رولان بارث بمثابة العرّاب الحقيقي لهذه الفكرة، والتي استند إليها جاك دريدا لاحقًا لتطوير نظريته في التفكيك، مضيفًا إليها أبعادًا جديدة وموسّعًا من تأثيرها في الفكر النقدي لعصر ما بعد الحداثة، و إذا سلّمنا جدلاً أنّ للمناهج النقدية غاياتٍ فكريّة تتطور و تتحدد و فق هذا المنهج النقدي، وهذا يُولّد سلفاً سلطة محددة ممنهجة على أيّ ممارسة في التحليل المباشر للنصوص الأدبيّة، و حتى نحرّر النصّ من أُحادية المنهج و نجعل القراءة النقدية متحررة في إختيارها العملي التحليلي يجب فكّ ارتباطها الفكري بمناهج نقدية بعينها، و هذا ما يعطي للناقد و في هذا الحال هو ( القارئ نفسه ) حريّة الوصول الى إستنتاجاته الخاصة، طالما كان يعي آليات القراءة و الإستنباط، و هكذا تتعدد القراءآت و تتعدد زوايا النظر الى النص مع كل قراءة جديدة، و هنا نصلُ الى عزل او موت او إقصاء المؤلف الذي أنجز عمله بوضعه للنص، و لم يعد من حقّه أيُّ تبرير او تفسير ثاني لهذا النص، حيث تحوّلت السلطة في التحليل والإستنباط الى القارئ، و الذي تحوّل بدوره الى فلك النص، و هنا يصل كلُّ قارئ الى لذّته الخاصة للنص الذي فهمه منه ما فهم، و بتعدد هذه القراءات تتعدد المفاهيم الإستنباطية للنص و تتولد المتعة و تتعد زوايا النظر اليه، و بإضافة عامل الزمن الى هذا النص نراها و قد حاز على قراءآت كثيرة و إستنتاجات متعددة و حياة أطول و حضورا آخّاذا يتجدد مع كل قراءة، وهنا مكمن الفكرة ( لماذا ندعو الى إقصاء المؤلف ) هذا المؤلف الذي استنكر و استغرب ميشيل فوكو وجوده في النص بقوله ( ما المؤلف ؟ )، إنّ الإحتكام الى النص هو الفلسفة و المنهج الذي أتخذه بارث بعد ان أدرك قصور النظرة البنيوية في الوصول الى استمرارية قراءة النص، بل أكثر من هذا قصورها على الإستمرار كنظرية نقدية قادرة على التواصل في عصر ما بعد الحداثة، فكان لابد من القفز من مركب البنيوية الذي بدأ يتخلف كثيرا عن مسايرة تطورات عصر ما بعد الحداثة، لذلك قفز بارث من هذا المركب الى مركب آخر و هو مركب النص و بدأ بمهاجمة و إنتقاد التفسيرات الأحادية للبنيويين، حتى أسس نظرية بإكملها هي (نظرية النص )، حيث أصبح بارث و عن جداره فارس النص و متربعا فوق سنام نظريات النقد ، كما وصفه ناقد بثقل الدكتور عبد الله الغذامي حيث قال ( لم يحظ أحد بالتربّع فوق سنام نظريات النقد مثلما حظي رولان بارث الذي قاد طلائع النقد الأدبي لمدة ربع قرن، و ما تزحزح عن الصدارة قد،لأنّه وهب مقدرة خارقة على التحوّل الدائم و التطور المستمر مما حقّق له صفة أهم ناقد أوروبي ) ينظر كتاب عبد الله الغذامي الخطئية و التكفير
بل إنني أعزو كل تطورات النظريات النقدية التي جاءت بعد البنيوية الى رؤية بارث و تنظيراته و تحليلاته و تطبيقاته، مثل النظرية التشريحية، نظرية النص، نظرية القارئ، نظرية التفكيك، نظرية النقد الثقافي، نعم كان لجاك دريدا فضل كبير في نهاية عصر المؤلف، هذا اذا علمنا أنّ كليهما كانا من نقاد مجلة تل كويل، و قد طبّق كل منهما ما نظّر إليه بدقة و روعة متناهية و خاصة فيما يخص نموج لبلزاك و هي قصة ( ساراسين ) و التي قام بتشريحها اوّلا ثم قام بعمل مذهل، حيث استنبط منها تعابير لغوية وظيفية، تمثلّت كل وحدة منها بوحدة وظيفية اكتسبت مظهر الإستقلالية الوحدوية لكن جعل من القصة تحتفظ بنسيج درامي موحد، و ما نراه في هذا المثل، عبقرية متفردة في التحليل و الإستنباط، سرعان ما تحوّلت الى نظرية بعينها ( نظرية النص )، عندما أوجد خمسة شفرات تنظم دلالات النص و هي ( شفرة التفسير، شفرة الحدث، شفرة الثقافة، شفرة الضمنية، و شفرة الرمز)، هذه الطريقة لم تكن معروفة قبل بارث، بل لم يستخدمها أحد قبله، لكننا نراه قد استخدمها كي يعطي دلالات متعددة لتحليل كل جملة من جمل النص، و بذلك يرسل إشارة واضحة و كبيرة الى إمكانية ان يكون لكل نص أكثر من تفسير و أكثر من تحليل، و هذا مرتبط بثقافة القارئ و قدرته على الإستنباط، و بالتالي قادت هذه الفلسفة او هذه الطريقة او هذه الرؤية الى فتح النص أمام تعدد القراءات، و في هذا يقول الغذامي ( وبذا يفتح بارث آفاق السيميولوجية لتقود النقد إلى مسارات جديدة تأخذ بمبادئ الألسنية و تستثمرها في فتح آفاق النص الأدبي )
د- رسول عدنان / أمريكا